بقلم : بولس سركو ... 06.10.2009
تستل الكاتبة أمل حورية كلمتها وتقتحم حصون المحرمات التي يحسب حسابها كثيرون من الرجال وإذا كانت أمل دون كيشوتيتا إلى حد ما في مجموعتيها القصصيتين السابقتين (وتلاشى الحلم، عندما تبكي الأنوثة) وتعتري بعض ضبابية الهدف نهايات قصصها..
فهي في المجموعة القصصية الجديدة (العري) تصل إلى هدفها بقوة ودقة، تقفز إلى قلب المعركة الاجتماعية متسلحة بفكر وثقافة موضوعية هي استمرار لذلك المد الإنساني والثقافي الذي طالما آمن بأهمية الكلمة والأدب في نشر الوعي وتطور الإنسان.
تنبش الكاتبة قصصها من القاع الذي نحيا وسطه وترمي بها كالحجارة الثقيلة فوق السطح الاجتماعي الراكد والهادئ والذي تتغذى على صمته وهدوئه وركوده فطور الرجعية والتخلف والتزمت مستفيدة من تقاليد الحياء الوهمي المعمرة والمتجذرة وسلطتها الاجتماعية والدينية، مجموعة قصص العري تكشف نفاق تلك التقاليد تفضحها، تعري علاقات القمع والتسلط والاستغلال والقهر، تشير بإصبع مدمى إلى مصدر الأزمة الأخلاقية المتفشية بلا مواربة ولا ترميز ولا خوف.
ففي قصة (الاختيار) تصرخ الأم بابنتها (ينقصك أهم شيء، السمعة الجيدة، لقد أصبحت سيرتك على كل لسان بسبب استهتارك وعلاقاتك الكثيرة). تلفت الكاتبة انتباهنا إلى الشخصية التي تلبستها عقدة العار هنا فالسمعة الجيدة هاجس الإنسان المقهور فهي تستر بؤسه الداخلي وعاره الوجودي وكرامته المطعونة من التسلط أمام نفسه فيكون متأهبا بشكل دائم لصد أي تهديد لمظهره الخارجي الذي حرص على تقديمه للآخرين، والابنة التي اعتادت على كل تلك العلاقات تتعامل مع شاب جديد يدخل حياتها بمنتهى الجدية والكبرياء فيزداد تعلقا بها ويتقدم إليها قائلا: (كنت أحلم دائما بفتاة مثلك صعبة وعنيدة وتتمتع بسلوك نزيه فتكون أما لأولادي وتشرفني أمام عائلتي والأهم من هذا وذلك أنه لم يسبق لها أن أقامت علاقات مع الرجال).
هكذا نكتشف التناقض الفاضح بين الظاهر والجوهر. والشاب الذي اعتقد أنه وجد ضالته في قصة الاختيار يقابله نموذج آخر في قصة (العري)، نموذج بدا على السطح شديد التهذيب إلى درجة عدم الاكتراث لمحاولات حبيبته لإثارته (أريدك بالحلال لذا أرجو أن تلتزمي الحشمة) قال لها وهو نفسه الذي نسي الحلال والحرام والوصايا العشر وانقض عليها لاحقا بعواصفه الوحشية كنسر مفترس.
وتظهر الكاتبة كيف ترتبط كرامة الرجل وشرفه في المجتمعات المتخلفة بأمر جنسي لا مبرر له من الناحية البيولوجية، فيسقط إحساسه بالعار من وضعه العبودي على المرأة المستضعفة. ففي قصة (العشيق المجهول) مثلا تضطر الزوجة للتعويض عن حاجتها الجنسية غير المشبعة عن طريق العادة السرية، فيكتشف الزوج ذلك وينهال عليها ضربا وإهانات، ويطلقها متهما إياها بالشذوذ ومدعيا أنها كانت بانتظار عشيق مجهول!
وفي قصة (عقوبة امرأة) تخون امرأة زوجها مع صاحب المصنع الذي تعمل فيه لغاية تأمين حياة رغيدة مرفهة، فيتعامل العشيق معها بالتحقير والإذلال مقابل المال الذي يغدقه عليها، تقول له (ألم تقم بالخيانة بدل المرة عشرات المرات ومع عشرات النساء؟ أم أن أصابع الاتهام يجب أن توجه إلى المرأة فقط؟ أنت خنت من ضجرك وطلبا للمزيد من المتعة أما أنا فخيانتي كانت من أجل اللقمة).
وتكشف قصة (أنت رجلنا) الطابع العنفي المرضي للشذوذ الجنسي في المصير المأساوي المؤلم لصبي ممن يبيعون الجرائد في الكراجات ليعيل عددا من الجياع الذين ينتظرون عودته مع ربطة الخبز. لكنه يعود وقد فقد رجولته كعقوبة له لمخالفته قوانين البيع.
وتزخر تلك القصص وقصص مثل (من قتلني) و(ملاكي) وغيرها بالتفاصيل الإنسانية والصور المتنوعة لمعاناة متأزمة في الحاجات العاطفية والجنسية التي ينجم عن قمعها تفشي علاقات الزيف والنفاق والكذب المعمم على كافة العلاقات، الحبيب يكذب على حبيبته وهي تكذب عليه، الزوج يكذب على زوجته وهي تكذب عليه، ويكذب الصديق على صديقه، والأب على ابنه والابن على أهله والأخ على أخوته..الخ، الكل يكذب والكل يدعي القيم السامية والمعرفة والإيمان.
إن مجموعة قصص (العري) وثيقة أدبية تشهد على أشكال المرض والشذوذ والجرائم الجنسية التي تنبع مما يعتبره (بوعلي ياسين) تناقضا بين الحاجات والواقع اللاانساني أو تناقض مبدأ اللذة مع المبدأ الأخلاقي القمعي..
وهكذا فالعري هنا ليس استعراضيا ولا مقحما لإثارة غرائزنا في مجموعة أمل حورية. بل هو عرينا أمام ذواتنا.. هو صورة حقيقتنا كما هي على أرض الواقع.. العري رسالة أمل باستبدال الأخلاق اللاعقلانية المنمطة البالية بأخلاق ذات قيم إنسانية جديدة تخدم العدالة الاجتماعية ومصالح الناس جميعا، وتساعدهم على حياة أفضل، بدل بقائها كأداة قمع مسخرة لاستمرار نظام الكبت الاجتماعي، رسالة تفجر الصمت المطبق عن كل ما له علاقة بالجنس والجسد.