أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
نظرية النشوء الديموقراطي في العراق المحتل!!

بقلم :  علي الكاش ... 05.04.2010

(*البقاء للأفسد)
جوهر الديمقراطية أن يتعلم الأمي قبل المثقف أبجديتها ويتفهم بأنها ليست تغميس الأصابع بالحبر أو وضع ورقة الإقتراع في الصندوق. وبهذا أصبح البلد ديمقراطيا ومارس الناخب حرية التعبير في أختيار من يمثله بأجواء ديمقراطية. فهذا النوع من الممارسة إذا أقتصرت على هذه الرؤية الضيقة هي من أبشع جرائم الإنتحار الديمقراطي وخاصة في البلدان التي تحبوا على أرضية الديمقراطية ولم تتعود المشي بعد كالعراق المحتل. فالديمقراطية أعمق بكثير من هذه الممارسات الروينية والسطحية. إنها تتطلب حزمة من المراسيم والمعلومات أبسطها معرفة المرشح بصورة جيدة والتأكد من توجهه الوطني ونزاهته وأخلاقه ومسيرته ومستواه العلمي من ثم الإطلاع الدقيق على برنامجه الإنتخابي ومصداقيته وواقيعته ومدى إنسجامه مع رؤية الناخب وتطلعاته. من ثم إجراء المفاضلة بين المرشحين لتحديد من هو الأجدر بإستحقاق صوت الناخب.
العشائرية والمذهبية والعنصرية والإقليمية والمصلحية والإنتهازية من أشد أعداء الديمقراطية وبدون تقليم أظافرها لا يمكن نجاح المسيرة الديمقراطية في أي بلد مستقل ذو سيادة فما بالك ببلد محتل من قبل ثلاثة أطراف أجنبية تتصارع كالذئاب على إفتراسه. علاوة على حكومة من العملاء واللصوص الذين لا يملكون قطرة من الشرف والغيرة على بلدهم وشعبهم. كل همهم تأمين مصالحهم ومصالح أسيادهم الأمريكان والإيرانيين والصهاينة. الديمقراطية قبل هذا وذاك واجب على الحكومة يؤمن التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الإقراع وهو أيضا حق للمواطنين في المشاركة في صنع القرارات التي تؤمن الحفاظ على المصالح الوطنية والقومية العليا عبر معرفة ما يجري داخل مؤسسات الدولة لتدقيق وتشخيص الأخطاء والإنحرافات في مسيرة العملية السياسية.
مرت أربع سنوات عجاف على الشعب العراقي دفع ثمنها الباهض من دماء أبنائه وثرواته الوطنية علي يد زمرة من العملاء يدعون الإسلام وهم من أشد أعدائه. وتلاشى الحبر البنفسجي المزيف من الاصابع بسرعة متحولا إلى اللون الأحمر الدموي، كان الدرس قاسيا بقساوة الصخر. بعد أن تحول الوطن إلى أطلال وخرائب ودول طوائف دون أن يجرؤ الشعب الغارق في الطائفية والعنصرية والجهل والفقر والبطالة على الكلام متشبها بصمت مراجعه الهياكل العظمية. وكلما حاول أن يفتح فمه ليشكو حاله المزري وأوجاعه زرقته طبابة المرجعية الراشدة بإبرة من الأفيون الصفوي الفاعل في وريده الظاهر فيتراخى سابحا في متاهات مغلقة كعقله فتتراءى له أشباح آل البيت تتوسله في المحافظة على المذهب، وتخيلات مأساة الحسين وهو يقتل من جديد، فينسى حاضره ومستقبله، ليلف ويدور حتى يسقط في غيبوبة المظلومية وهو لا يدرك بأنه يعيش زمن المظلومية في أبشع وأذل صورها. ومن الأولى به أن يبكي على حاله وليس على حال غيره. شب ضائع يتأرجح بين مراجع نتنة لا تؤمن بحقه في العيش الكريم. وأحزاب سفيهة شرهة كالذئاب بل أشرس وأفتك منها.
إنتهت مهزلة الإنتخابات ولم تنته مهازل الأحزاب السياسية وصراعاتها الدموية من أجل كرسي الحكم. حتى بتنا نسمع أمورا أغرب من الخيال! عندما أفتى حزب الدعوة وذيوله الخائبة بأن فوز قائمة إنتخابية ما، لا يعني بالضرورة أنها هي التي تشكل الحكومة! ورفع الأمر إلى سيرك القضاء لأخذ الحكمة من البهلوانات المسيسة، فأيدوا دعوة المالكي وبصموا بأصابعهم القذرة على دعوته الخرقاء بعد أن استعانوا بقرعة وجفر الإمام وهما مناهج تطبيقية يستضيئون بهما لإتخاذ القرارات المصيرية.
تأييد بهلوانات القضاء لهرطقة المالكي الديمقراطية أمر طبيعي فمصالحهم مرتبطة أيضا بالمالكي الذي أشترى ضمائرهم ودفع الثمن نقدا من جيب العراقيين. المالكي بدوره لا ينطق عن هوى نفسه وإنما بوحي الأخطبوط الفقيه في طهران وأذرعه في النجف. سيما أن المجلس الأعلى والآية(تحت التدريب) مقتدى الصدرعجل الله تخرجه الميمون إستحسنا أطروحتة الفنطازية. فأرجعونا مرة ثانية إلى المربع الأول كأن شيء لم يكن.
ويبدو أن أياد علاوي وهو ثعلب في السياسة ودهاليزها السرية قد إستوعب المغزى من لعبة الفقيه والإلتفاف على نتيجة الإنتخابات. لذلك صرح في مقابلة له مع هيئة الإذاعة البريطانية( BBC ) بأن إيران" تتدخل بصورة مباشرة في العملية الإنتخابية في العراق، وتعمل بشكل واضح لمنعي من تولي رئاسة الوزراء وفقا لإستحقاقي الإنتخابي". مؤكدا بأن هذا التدخل يثير القلق" فالسفر شرقا أصبح أهم بكثير من الذهاب غربا أو جنوبا أو شمالا! بل أصبح الإتجاه لإيران أهم من الذهاب للأشقاء العرب". سيما أن الولي الفقيه وجه الدعوة إلى الأحزاب الشيعية كافة للحضور إلى طهران لتسليمهم أوامره الصارمة بشأن تشكيلة الحكومة القادمة. في حين لم يوجه دعوة مماثلة لأياد علاوي بالرغم من كونه شيعي ومن أتباع آل البيت! كانت تلك غمزة مكشوفة من الولي الفقيه بعدم الترحيب بعلاوي رغم ان الأخير كان متحمسا لزيارة ولاية الفقيه اسوة بالآخرين من خدم ملالي قم.
كما غمز علاوي بدوره للطرفين الأمريكي والبريطاني مستغربا موقفهما المحير أزاء تدخلات إيران في الشأن العراقي والإلتفاف على حقه في تشكيل الوزارة، بقوله " في الوقت الذي تدعي فيه إيران بإنها جارة مسلمة فأنها تتدخل في كل تفاصيل الحياة في العراق وتريد أن تفرض على العراقيين ما تشاء من أسماء وصيغ وهذا أمر مرفوض ولا نقبله اطلاقا". ويمكن أن نستنتج من الموقف الأمريكي بأن إدارة اوباما قد سلمت العراق إلى إيران على طبق من فضة ونفضت يديها منه" سواء كان ذلك بصفقة بين الشيطانين أو إعترافا بنتيجة صراع القوى بين الطرفين. ولذلك نلاحظ إن ردة الفعل الأمريكية كانت باهته ولا تتناسب مع قوة الحدث وزخمه! فقد صمت الكونغرس والإدارة ولم يصدر سوى تصريح بليد من السفير الأمريكي في العراق كريستوفر هيل" إن جميع جيران العراق لديهم مصلحة في الإنتخابات العراقية وترغب في أن تكون أكثر تأثيراً في تشكيل الحكومة القادمة" ثم شرح موقف بلاده المربك" إننا أوضحنا في وقت سابق عن رغبنا بأمتلاك العراق علاقات طيبة مع جيرانه الذين يلزمهم العمل بفعالية أكثر على احترام سيادة العراق"! هذا هو الرد الأمريكي البارد على التدخل الإيراني الساخن في الشأن العراقي العمل بفعالية أكثر لا غير! ولم تتطرق الإدارة إلى مناورة المالكي تجاه نتيجة الإنتخابات!
في خضم هذه الفوضى الديمقراطية جاء صوتا هاتفا من أعماق طهران ليصحي غفاة البشر في بغداد فقد تمخض فكر السيد مقتدى الصدر عن رقعة بالية لإصلاح الفتق الإنتخابي من خلال ترشحه خمسة أشخاص يشكل ثلاثة منهم مثلثا متساوي الاضلاع للجرم والفساد وطالب اتباعه بالتصويت لأحدهم أو لغيرهم ـ وهل هناك من يصوت لغيرهم بعد ترشيح السيد؟ ـ وطلب فتح أبواب الحسينيات والجوامع ونصب السرادق لتنفيذ الوصية الشرعية! والأنكى من هذا كله نشر فرق جوالة للمشاركة في العرس الانتخابي علما ان مراسم العرس السابق لم تنته بعد! وهذه الفرق الانتخابية الجوالة تذكرنا بفرق الغجر الراقصة مع أن الأخيرة الغرض منها أشاعة البهجة بين الحضور وليس إزعاجهم. لكن لابد من الإعتراف بأنها أبرز اختراع في تأريخ الأنتخابات الديمقراطية واللاديمقراطية وللسيد حق إمتلاك براءة إختراعها لوحده بدون منافس!
من الطبيعي أن يكون إبراهيم الجفري أول مرشحين السيد لأنه أفضل وقود لإشعال الفتن الطائفية وسبق أن خبرناه في الحرب المدنية عام 2006. وربما للسيد رغبة في احيائها طالما انه يتلقى فنونها على أيدي أفضل أساتذتها في قم. وتلاه المرشح عادل زوية الذي لم تجف بعد دماء قتلاه في جريمة بنك الزوية. والثالث جعفر الصدر إبن عم مقتدى! وهو مثل مقتدى إستمد مكانته وسمعته من مكانه( السيد الوالد) على حد تعبير السيد. ولن نسمع لجعفر صوتا إلا في بداية هذا العام كأنه أحد شخصيات قصص أجاثا كريستي يدخل بغته في الأحداث ويتصدرها! من ثم نوري المالكي رئيس أفشل حكومة في العالم بعد الصومال وهايتي. وإنتخابه لأربع سنوات أخرى يعني التغيير فعلا مثل شعار قائمته لكن التغيير بالطبع من السيء إلى الأسوأ! فمن فشل في إقامة مشروع واحد في العراق خلال أربع سنوات. وتستر على أكبر جرائم العصر في الفساد المالي والإداري لا يمكن إئتمان جانبه مطلقا. وآخرهم أياد علاوي الفائز في الإنتخابات الحالية وهذا رغم تشيعه ونجاحه الباهر في إستقطاب أصوات السنة إلى جانبه داخل وخارج العراق. لكنه فشل في إستقطاب أبناء طائفته الذين أنخرطوا تحت جناح الأحزاب الطائفية حسب توجيهات المرجعية الراشدة.
الغريب في البدعه الديمقراطية الجديدة إن الصدرهدم العملية الإنتخابية من أساسها المتداعي أصلا. ولا نود مناقشة الموضوع من الناحية القانونية لأنه يمثل إنتهاكا حارقا خارقا للدستور وشرعية المفوضية العليا للإنتخابات رغم مساوئها. لكن الأنكى هو تجاهل الصدر لحقيقة أن تياره لم يحظ سوى بـ (40) من مقاعد البرلمان أي أكثر بقليل من 10% من مجموع المقاعد. وهذا يعني بأنه يمثل تيار معين وطائفة محددة وليس جميع العراقيين وفي دعوته تجاوز خطير على حقوق 90% من المقاعد البرلمانية المتبقية.
كما أن تصويت الصدريين سيتم بلا رقابة دولية أو عربية أو محلية (رسمية وغير رسمية) لذلك فإن النتائج ستكون كما يرغب الصدر فليس من المعقول أن ينتخب الصدريون أياد علاوي وينسوا معارك النجف وكربلاء حيث لقنهم درسا قاسيا. وليس من المعقول ان يصوتوا للمالكي وينسوا صولة الفرسان عندما شتت شملهم وحرق جثثهم وعرض بقية الجثث الأخرى على سيارات قواته. وليس من المنطقي أيضا ان يصوتوا لعادل عبد المهدي حتى وأن دخلوا مع المجلس الأعلى في قائمة إنتخابية واحدة حسب توجيهات الولي الفقيه فالخلافات الحادة موجودة تظهرمابين وقت وآخرللسطح. لذلك سينحصر التصويت بين عرابهم الطائفي إبراهيم الجعفري وأبن عم مقتدى السيد جعفر الصدر.
من المدهش حقا أن تكون تحضيرات الصدر أفضل وأسرع وأرخص وأكفأ من عمل المفوضية العليا للإنتخابات بفيالقها البشرية! فقد طبع الصدريون الملايين من إستمارات الإقتراع وبسرعة فائقة. وحدد يومان فقط للتصويت ومثلهما لإعلان النتائج في الوقت الذي استغرقت فيه المفوضية ما يقارب الثلاثة أشهر من التحضير ولغاية ظهور النتائج! وكان من الأفضل ان تودع العملية برمتها للصدر ليقوم بواجبه الشرعي بدلا من إستخدام مئات الآلاف من العاملين داخل العراق وخارجه وإنفاق اكثر من نصف مليار دولار على المفوضية ومثلها أيضا على الدعاية الإنتخابية وفتح(52000) مركز إنتخابي وإشغال المنظمات الدولية والعربية والمحلية بعملية فارغة لا جدوى منها.
من الطبيعي أن يختار أبناء الشوارع رئيسا لعصابتهم أو ممثلا عنهم لكن ليس من المنطقي أن ينتخبوا رئيسا للحكومة! ومن حقهم أن يتجمعوا أمام الجوامع والحسينيات ليلطموا وينحبوا ويستجدوا المارين ولكن ليس لينتخبوا أهم شخصية رسمية. ومن الطبيعي ان يجمعوا أصواتهم في حاويات القمامة ولكن ليس في صناديق الإقتراع. لذلك فأن دعوة الصدر هي واحدة من شطحاته العبثية التي أوقفتنا أمام حقيقة أن هذا الرجل قليل الإستعياب والسنوات الثلاث التي قضاها في إيران لم تكن مثمرة ولم يستفد منها البته. سواء في تقويم لسانه وإيقاف عثراته، أو في التأني وإعتماد المنطق وبعد النظر في إطلاق التصريحات والدعوات.
إن الخرق الصدري للدستور الذي وافق عليه وإشترك في صياغته وصوت لجانبه يعاني من قصور وضعف وتسطح وهشاشة وعدم إدراك بل وفهم حجم المسئولية القادمة لتعديل هيكلية النظام السياسي وتفاعلاتها الحقيقية وإنعكاساتها على مستقبل العراق وشعبه. ويجهل أن دعوته البالية تفسح المجال لبقية رؤساء الكتل للتبجح باللجوء إلى نفس طريقته بالإستعانة بالشارع والطائفة لإنتخاب رئيس وزراء من خارج أبواب البرلمان. وستكون النتيجة تطبيقا نموذجيا لدول الطوائف أو ما يسمى بإنعدام الدولة ( Statelessness).
نأمل أن تكون طروحات الصدر بمستوى لائق وعقلاني يتناسب وخطورة المرحلة التي يعيشها العراق في ظل وجود إحتلال متعدد الأطراف جاثم على صدرشعب مهزوم ومحبط، مختطف العقل ومغيب الإرادة، وطن يفتقر إلى النخب الوطنية الميدانية المخلصة. وشحة في القيادات الدينية والشعبية التي تثق به ويثق بها ليسلمها زمام أموره مطمئنا بالوصول إلى برً الأمان. إننا بحاجة إلى جمع وليس تنفراد، وتكامل وليس إنفراط، ووفاق وطني وليس تخاصم وتحزب. وتعايش إجتماعي توافقي وليس متعرج. لعلنا بذلك نتدارك ما تبقى من بقايا وطن نحره الإحتلال الأمريكي الإيراني الصهيوني، ومزقه التخندق الطائفي والإحتراب العنصري, ومص دماء أبنائه الفساد المالي والإداري, وأشلته الإخافاقات في كل مرافق الحياة. فهل يعي الصدر حجم المسئولية ويتوقف عن ارهاصاته فالوقت والظرف لا يتحمل بعد؟ هذا ما ستكشفه قوادم الأيام.

كاتب ومفكر عراقي