بقلم : نقولا ناصر* ... 14.04.2010
إن أي إعلان فلسطيني من جانب واحد لدولة فلسطينية هو نقيض، أو ينبغي أن يكون بحكم الأمر الواقع نقيضا، ل"عملية السلام" الجارية منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وعلى المرجعية الأساسية لها المتمثلة بالاتفاق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي على التوافق المتبادل بالتفاوض فقط على حل نهائي للصراع، وبالتالي فإن أي إعلان كهذا ينبغي أن يكون خروجا على هذه العملية، وانقلابا على مرجعياتها، وعلى الاتفاقيات الموقعة المنبثقة عنها، وعلى الوضع الراهن الذي تمخض عنها، خروجا وانقلابا يستتبعان بالضرورة تغيير "معسكر السلام" الذي أفرزته وكل اللاعبين فيه، لأنه يمثل إعلانا مدويا بفشل العملية بكاملها، وانتهاكا لمرجعياتها واتفاقياتها ("أوسلو")، فإعلان كهذا لا يمكن أن يكون إلا "إعلان حرب لا سلام"، كما كتب الإسرائيلي مدير مركز أبحاث سياسة الشرق الأدنى في القدس المحتلة ديفيد بيدين، وهنا على وجه التحديد يكمن التناقض الرئيسي في صدور إعلان كهذا عن د. سلام فياض، رئيس حكومة قيادة لمنظمة التحرير الفلسطينية ما زالت تكرر إعلان التزامها ب"عملية السلام" ومرجعياتها والاتفاقيات الموقعة المنبثقة عنها حد المخاطرة بتأبيد الانقسام الوطني أحتراما لالتزامها.
وربما لهذا السبب قال فياض إن وثيقة إعلانه عن خطته لبناء مؤسسات دولة خلال عامين "لا يوجد في أي مكان" فيها "أننا نذكر الإعلان من جانب واحد عن دولة" لأن أي إعلان كهذا هو "إعلان سياسي وذلك في نطاق سلطة منظمة التحرير الفلسطينية" وهي التي "تقرره في الوقت الصحيح وفي السياق المناسب"، وربما لهذا السبب أيضا كتب د. غسان الخطيب مدير مركز الإعلام التابع لحكومة فياض قائلا إن هذه الخطة ليست جديدة بل هي "مماثلة لبرامج حكومات سابقة" وإن الاختلاف هو فقط في "الإطار السياسي العام" الذي أعلنت فيه حيث ينظر إليها "كبديل لعملية السلام المتفسخة"، ليدافع الخطيب عن هذه الخطة باعتبار "الأهمية الرئيسية لها" تكمن في سماحها للمفاوض الفلسطيني بالتحرك على "مسارين متوازيين"، أولا البناء العملي على الأرض مقرونا ثانيا بجهد مكمل لبناء دعم دولي للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.
وربما للسبب ذاته لم تجد اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا) الراعية ل"عملية السلام" أدنى سبب في خطة فياض يدعوها إلى القلق، ولذلك سارعت إلى تبنيها والإشادة بها في بيانها الذي صدر خلال شهر بعد إعلان فياض لخطته عام 2009 وكذلك في بياناتها اللاحقة ثم إلى دعم صاحبها ماليا وسياسيا وأمنيا دعما يعزز المخاوف الوطنية الفلسطينية من دوافعها وتوقيتها ومراميها، ليشيد ممثل الرباعية توني بلير بأداء صاحب الخطة ـ ـ وهو يحاول غسل يديه من دماء الحرب على العراق بالتمسح بعملية سلام عربية ـ إسرائيلية من المؤكد أن أوساخها ستلوث يديه أكثر مما تطهرها ـ ـ باعتباره أداء "من الدرجة الأولى قطعا ـ محترفا وشجاعا وذكيا"، بينما تجري على قدم وساق حملة إعلامية دولية لا يترك تركيزها واتساعها مجالا لعدم الشك في كونها منظمة تسوق للرجل باعتباره رجل دولة وخبيرا اقتصاديا مؤتمنا على أموال المانحين وتكنوقراطيا ينفرد بالمصداقية والأمانة والشفافية بموازاة حملة مماثلة "تشيطن" في الوقت نفسه كل القيادات الفلسطينية الأخرى وكل القوى الوطنية عبر الانقسام الراهن، وتروج ل"الفياضية" بديلا لهذه القوى جميعها، وهذا مصطلح استخدمه في مقال له في النيويورك تايمز كاتب العمود المعروف ثوماس فريدمان، الذي يدعي أنه صاحب فكرة مبادرة السلام العربية، والذي نسب إلى مسؤول في إدارة جورج بوش الأميركية السابقة رفضه الإفصاح عن اسمه في المقال نفسه لأنه لا يريد أن "يجعل حياة سلام (فياض) أصعب بوجود شخص مثلي يمدحه".
وفي هذا السياق يلفت النظر ترحيب "إسرائيلي" مماثل، ربما يلخصه وصف رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس لفياض بأنه "بن غوريون فلسطين"، أو تلخصه ما قالت الجروزلم بوست إنه"أول خطة فلسطينية جادة لبناء دولة منذ تأسست م.ت.ف. عام 1964"، لا بل إن صهيونيا يمينيا متطرفا مثل دوري غولد ـ ـ المستشار الحالي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والمستشار لنظير نتنياهو الأسبق آرييل شارون وسفير دولة الاحتلال الأسبق لدى الأمم المتحدة الذي يرأس "مركز القدس للشؤون العامة" ـ ـ قد وصف خطة فياض بانها "إيجابية وشجاعة" في تقرير لمركزه ناقد لها مع ذلك. غير ان دعوة فياض، واستجابته، للمشاركة في مؤتمر هرتزليا العاشر "للأمن القومي الإسرائيلي"، بعد إعلان خطته، وفي ذروة مقاطعة للمفاوضات والاتصالات مع دولة الاحتلال أعلنتها في رام الله الرئاسة المفترض أن حكومته هي حكومتها، بدد أية شكوك في كون هذه الخطة تتساوق مع خطة نتنياهو ل"السلام الاقتصادي" التي يزعم انها تدعم بناء دولة فلسطينية "من الأسفل إلى أعلى" في إطار "شراكة إسرائيلية ـ فلسطينية".
وإذا كانت الأضواء قد سلطت على مشاركة فياض في هذا المؤتمر بسبب المقاطعة الفلسطينية المعلنة للاتصالات مع دولة الاحتلال فإن هذه لم تكن المشاركة الأولى له فيه، ففي عام 2007 شارك فياض في مؤتمر هرتزليا أيضا وأكد حرصه على "الشراكة الإسرائيلية ـ الفلسطينية" في "المستقبل" في وقت كانت نتائج الانتخابات التشريعية لمجلس الحكم الذاتي الفلسطيني قبل عام فقط قد أكدت بأن اغلبية الفلسطينيين تحت الاحتلال يطمحون إلى النقيض تماما، وليس إلى ما قاله فياض آنذاك للمؤتمر: "لكن الأهم هو أنني أريد أن اعلن رؤية للسلام مع إسرائيل. إنني أسعى إلى سلام دافئ مع إسرائيل.. إنني أسعى إلى روابط سياسية قوية مع إسرائيل، وأسعى إلى روابط إقتصادية قوية .. نعم إننا نسعى إلى علاقات دافئة معكم. نحن لا نريد ببساطة أن نصل إلى نقطة حيث نكتفي بقبول أحدنا للآخر فقط، .. نحن لا نريد أن نخرجكم من حياتنا، إننا نريد أن نعيش معكم، كجيران لكم وأنداد".
وفي هذا السياق "الدافئ" لرؤية فياض و"الفياضية"، فإن الصراع الدموي الدائر منذ ما يزيد على قرن من الزمان ليس صراعا بين الاحتلال الاستيطاني الطارد للاخر العربي الفلسطيني، ف"الصراع في المنطقة ليس له علاقة بنا على الإطلاق، إنه بين الراديكاليين وبين المعتدلين"، كما قال في مقابلته مع هآرتس في الثاني من نيسان / أبريل الجاري. ولهذا السبب على الأرجح فإن فياض، عندما امتدحه شمعون بيريس بوصفه أنه "بن غوريون فلسطين"، لم يعلق حتى الآن على تحريض بيريس له في المناسبة نفسها بقوله: "إن عدو الفلسطينيين هو حماس، وليس إسرائيل، ويجب عليهم أن يحاربوا حماس". وهذا هو السبب على الأرجح الذي جعل فياض يدخل التاريخ الفلسطيني باعتباره أول رئيس وزراء فلسطيني على الإطلاق يأمر بفتح النار على مقاومين فلسطينيين مطلوبين للاحتلال، وبالتالي لحكومته في إطار التنسيق الأمني مع الاحتلال، في قلقيلية العام الماضي ليسقط ستة شهداء من حماس وجنود السلطة وعابر طريق، حيث انتقد قادة أمنيون بصفة غير رسمية عدم منح المطلوبين "مزيدا من الوقت للاستسلام"، على ذمة نيوزويك الأميركية.
كما لم يعلق فياض حتى الآن على القنبلة التي فجرتها هآرتس في السابع من تشرين الثاني / نوفمبر عام 2009، عشية زيارة لنتنياهو إلى واشنطن، أي بعد قرابة شهرين من إعلان فياض لخطته، بأن نتنياهو كان "طيلة أشهر" يبحث خطة فياض مع كبار معاونيه/ مما يثير أسئلة حول ما إذا كانت هذه الخطة قد وصلت إلى نتنياهو قبل إعلانها أم بعده، وكيف وصلت إليه، وهل تم تنسيقها معه او مع مستشاريه، إلخ!
*قنوات اتصال
إن كشف هآرتس عن بحث خطة فياض في حكومة دولة الاحتلال "طيلة أشهر" بعد شهرين من إعلانها يثير بدوره أسئلة عما إذا كانت لفياض قنوات اتصال خاصة مع دولة الاحتلال غير القنوات المعروفة بين القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير وسلطتها وبين دولة الاحتلال، بقدر التساؤل عن قنوات اتصال مماثلة له مع الأميركيين، تفسر "الثقة" التي تجعل فياض يحدد "إعلان الدولة الفلسطينية منتصف عام 2011" من خلال التعاون والتنسيق مع المجتمع الدولي، ويثير تساؤلا مشروعا عما إذا كانت هناك "صفقة" من وراء ظهر الشعب الفلسطيني وحتى منظمة التحرير الفلسطينية، في تكرار لسيناريو مفاوضات أوسلو السرية التي جرت من وراء ظهر الوفد الفلسطيني الرسمي المفاوض بقيادة الراحل د. حيدر عبد الشافي.
ومن هنا التقارير الإسرائيلية عن "تفاهم سري" مع إدارة باراك أوباما للاعتراف بالدولة الفلسطينية فور إعلانها (أسبوعية "فوروورد" اليهودية الأميركية في 11/11/2009)، وكذلك حديث رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو عن عدم حصوله على "رد واضح" من الإدارة الأميركية على طلبه من أوباما خلال قمتهما الأخيرة في واشنطن ان يعده الأخير باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس أمن الأمم المتحدة إن عرض موضوع الدولة الفلسطينية عليه، وهو ما تعلن قيادة منظمة التحرير المفاوضة عزمها عليه لإضفاء شرعية دولية على خطة فياض.
في الأول من مثل هذا الشهر عام 2007 أجابت هآرتس على بعض هذه التساؤلات كما يلي: "إن علاقة فياض الوثيقة مع المؤسسة الإسرائيلية يمكن قياسها من القصة التالية. قبل حوالي سنتين، تزوجت ابنة دوف فايسغلاس الذي كان عندئذ رئيسا لمكتب رئيس الوزراء. وكانت الدعوة قد وجهت أيضا لفياض وهو حتى اليوم يتمتع بعلاقة دافئة مع فايسغلاس. وعندما وضعت ترتيبات الجلوس، وضع فياض إلى جانب رئيس الوزراء آنذاك آرييل شارون. وأجرى الاثنان حديثا مطولا."
وفايسغلاس هذا، لمن قد يكون قد نسي، هو من سوغ تجويع الفلسطينيين بالحصار حتى الاستسلام بقوله: "نحن لا نجوع الفلسطينيين بل نساعدهم على تخفيف أوزانهم. يجب أن نوصل الفلسطينيين إلى الهزال لا الموت"! ولمن يكون قد نسي ايضا، فإن فايسغلاس هو المفاوض الإسرائيلي الرئيسي على نص الرسالة التي بعث بها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى شارون في الرابع عشر من نيسان / أبريل عام 2004 والتي وصفها الفلسطينيون ب"وعد بلفور الثاني"، وأن زواج ابنته تم في ذروة حملة شارون وحصاره للمقاطعة في رام الله ل"إزالة عرفات"، وهو القائل إن "كل هذه الرزمة المسماة الدولة الفلسطينية، بكل ما يستتبعها، قد سحبت إلى الأبد من أجندتنا .. وكل هذا بمباركة رئاسية (أميركية) وبتصديق كلا مجلسي الكونغرس" الأميركي.
وربما تفسر هذه القنوات "الدافئة" تنقل فياض اليومي بين مجلس الوزراء في رام الله وبين بيته في القدس المحتلة، وقد فسر داني بن ـ سيمون مدير المكتب الصحفي لحكومة دولة الاحتلال ذلك بانه من "المفارقات الصغيرة في إطار المفاوضات" المفترض انها غير جارية حاليا، وسط حملة متصاعدة لمنع أي تواجد أو نشاط حتى لو كان رمزيا للمنظمة وسلطتها في القدس المحتلة، ناهيك عن إغلاق المدينة أمام بقية عرب فلسطين تحت الاحتلال. لكن هذه "المفارقة الصغيرة" تنسجم مع "الحميمية" في علاقات الجانبين، كما وصفها فياض نفسه في خطابه أمام مؤتمر هرتزليا عام 2007: "بفحص السنوات الست الماضية لهذا الصراع (وللتذكير كانت هذه هي سنوات "انتفاضة الأقصى" التي كان ياسر عرفات أهم شهدائها)، فإنني سأصف العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية خلال هذه الفترة بأنها كانت حميمة أكثر من اللازم.. قد يصدمكم هذا الوصف .. غير أن طبيعة العلاقات اليوم بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين قد وصلت إلى مستويات الإدارة التفصيلية، حيث إسرائيل ضالعة في التفاصيل الدقيقة لحياة الفلسطينيين".
إن مثل هذا الشذوذ عن المزاج الوطني الفلسطيني العام ليس وليد اليوم، ف"الفياضية" بدأت بوادرها مبكرة. فعلى سبيل المثال، بينما كان الشعب الفلسطيني ما زال يلملم جراحه إثر إعادة احتلال مناطق سلطة الحكم الذاتي بعد اجتياحها في العام السابق، وبينما كانت حملة شارون تتسارع "لإزالة عرفات" وحصاره في المقاطعة برام الله بعد منعه من حضور قمة بيروت العربية التي أقرت "مبادرة السلام العربية"، وفي ذروة الانشغال الوطني بالدفاع عن النفس، كان انشغال فياض منصبا في سنة 2003 على فساد السلطة الفلسطينية آنذاك، كما تشير تصريحاته عن حصة القيادة من تجارة الاسمنت وعائدات هيئة البترول، وهي التصريحات التي عتم انضمامه إلى عرفات في حصاره بعدها على شذوذها عن الأولويات الوطنية في حينه، والتي أهلته ـ ـ سياسيا، وليس مهنيا كونه مؤهل من الناحية الأكاديمية والمهنية كخريج لجامعات أميركية وخبير مخضرم في الاحتياطي الفدرالي الأميركي والبنك وصندوق النقد الدوليين ـ ـ لفرضه وزيرا للمالية وقيما مفوضا أميركيا وأوروبيا على "الإصلاح" الفلسطيني الذي لم يحاسب أي مسؤول عن الفساد حتى الآن بعد أن أستمر فياض وزيرا للمالية ثم رئيسا للوزراء طوال أكثر من سبع سنوات كان وما زال يستغلها بدلا من ذلك لشق "طريق ثالث" يكون بديلا لكل القوى التي قادت وما زالت تقود النضال الوطني الفلسطيني.
أما قنواته الخاصة مع الأميركيين التي أهلته لوصف وسائل الإعلام له بأنه "رجل أميركا" الفلسطيني فإن تفاصيلها قد أصبحت سرا مكشوفا حد أن يقول نائب رئيس حكومة دولة الاحتلال الحالي وسفيرها في واشنطن حتى عام 2006 داني أيالون إن "الرصيد غير المحدود الذي استحقه (فياض) من الأميركيين هو ما يعطيه قوته". كان عمر فياض حوالي خمسة عشر عاما عند احتلال الضفة الغربية عام 1967، وقد التحق بعهدها بالجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها وأكمل دراساته العليا في ولاية تكساس بالولايات المتحدة حيث ظل فيها حتى عام 2001 عندما انتدبه صندوق النقد الدولي ممثلا له في فلسطين، وبالتالي ما زالت أمام فياض سبعة عشر عاما أخرى يقضيها كراشد في فلسطين حتى يوازن الأربعة وعشرين عاما التي قضاها في حضن الثقافة السياسية الأميركية. وربما تكون هناك دلالات لما يتذكره الأستاذ المشرف على أطروحته للدكتوراه، وليام بارنيت، بأن فياض كان طالبا مدينا دائما لأنه كان باستمرار يسعف أصدقاءه الذين كانت أوضاعهم المالية أسوأ من وضعه، وعندما سأل صحفي بارنيت كيف تأقلم وافد فلسطيني في بلد جورج دبليو. بوش، أجاب: "أنا يهودي، وقد اختارني لأكون المشرف على أطروحته، فهل يجيب ذلك على سؤالك؟"
وفي فترة السنة الفاصلة بين حقبة رشده الأميركي وبين عودته "من فوق ومن الخارج" إلى النخبة الفلسطينية التي تتصدر القيادة الفلسطينية، كان فياض مديرا إقليميا للبنك العربي من أول عام 2002 حتى الشهر السابع من العام نفسه، وفي الرابع والعشرين من الشهر الثاني عام 2004 دهمت قوات الاحتلال فرع البنك في البيرة واستولت على سجلات ووثائق استخدمتها في رفع دعوى ضد البنك العربي تتهمه ب"غسل الأموال" ودعم "الإرهاب" اثناء ما كان فياض مديرا إقليميا له وتطالبه بتعويض ضحايا أميركيين بمبلغ (875) مليون دولار أميركي، وما زالت الدعوى جارية، لكن اللافت للنظر أن اسم فياض لم يرد كمتهم فيها.
لا تغيير في الوضع الراهن*
إن خطة فياض لإعلان دولة فلسطينية في غضون عامين قبل نهاية عام 2011 في سياقاتها الحالية هي خطة محكوم عليها بمصير مماثل للفشل الذي أصاب "عملية السلام" الجارية منذ عقدين من الزمن لأنها تطرح كمجرد صفحة جديدة من صفحات هذه العملية العقيمة التي عادت بأوخم العواقب على القضية الفلسطينية ووحدة قواها الوطنية ورسخت الاحتلال ومدت في عمره، ولأنها تطرح كمخرج مأمول من الطريق المسدود الذي وصلت إليه هذه العملية، وبالتالي فإنها لن تقود إلى أي تغيير في الوضع السياسي الراهن لأنها جزء منه ولأن أصحابها يتخذون من هذا الوضع مرجعية لهم، كما أنها لن تغير أي شيء ميدانيا على الأرض لهذا السبب على وجه التحديد، فأي خطة لإعلان دولة فلسطينية من جانب واحد بالضد من الوضع الراهن ستكون بالتاكيد ثورة عليه تتطلب استراتيجية فلسطينية مغايرة تماما للاستراتيجية الحالية ومنها خطة فياض.
فترحيب كل أطراف "عملية السلام"، وبخاصة الأميركيين، بهذه الخطة وإشادة قادة الاحتلال بصاحبها، بالرغم من استمرار تحذيرهم له من العمل بها "من جانب واحد"، وهو الأمر الذي ينفيه فياض نفسه، هي دلائل تؤكد أنها خطة تنسجم مع الترتيبات الأميركية الإقليمية التي تسعى واشنطن إليها في المنطقة وتتساوق مع خطط حكومات دولة الاحتلال ل"سلام اقتصادي ـ أمني" طويل الأمد وترتيبات انتقالية طويلة الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تبقيها عمليا تحت الاحتلال، ومنها طبعا "الدولة المؤقتة" التي تنص عليها المرحلة الثانية من "خريطة الطريق".
وليس من المتوقع أن ينجح فياض في الحصول على "تعاون" المجتمع الدولي إياه الذي تقوده الولايات المتحدة في إضفاء شرعية الأمم المتحدة على خطته لكي يتجنب أتهامه بالعمل "من جانب واحد"، فهذا "المجتمع الدولي" الذي خذل المفاوض الفلسطيني في الضغط على دولة الاحتلال من أجل الوفاء بالتزاماتها الأكثر تواضعا بموجب الاتفاقيات الموقعة (على سبيل المثال إزالة ما يسمى المستعمرات الاستيطانية "العشوائية" المطلوب إزالتها منذ تسع سنوات) ليس من المتوقع أن يدعم فياض أو غيره في خطة أكثر طموحا، وكما أثبتت تطورات العام الأول من ولاية باراك أوباما فإن ثوابت العلاقات الاستراتيجية الأميركية ـ الإسرائيلية أقوى من أي قنوات خاصة "حميمة" قد تكون لفياض مع كلا الحليفين وغيرهما، فتصريح خافير سولانا ممثل الاتحاد الأوروبي في الثاني عشر من تموز الماضي الذي دعا مجلس الأمن الدولي إلى الاعتراف بدولة فلسطينية قبل التوصل إلى اتفاق على قضايا الوضع النهائي فقد طواه التاريخ مع صاحبه ولم يعد مجديا أن يبني فياض آماله على مثله. لكن حتى لو افترض المراقب جدلا أن هذا المجتمع الدولي قد استجاب لطموح فياض، فإن أي استجابة كهذه لن تخرج على مرجعيات عملية السلام الفاشلة التي دفعت فياض إلى إعلان خطته كمخرج لها.
ومن الواضح الآن كذلك أن خيبة أمل الشعب الفلسطيني في استراتيجية قيادته التفاوضية، وفي مفاوضيها، وفي "عملية السلام" تهدد بانتفاضة وطنية ثالثة ضد الاحتلال والوضع الفلسطيني الراهن معا، انتفاضة يحذر الكثيرون من اندلاعها ويدعو الكثيرون إليها، ومن الواضح أنه يجري الترويج لخطة فياض في سياق الجهود المحمومة المبذولة لمنع اندلاعها، حد أن يستعين الوزير في حكومة فياض المتحمس لخطته محمود الهباش في ذلك، بصورة انتقائية، بسيرة النبي محمد (صلعم) الذي، كما قال، أمضى (13 سنة) دون أن يرفع سلاحا أو يأمر بدفاع عنيف ضد من ألحقوا الأذى به وبصحابته
(19/3/2010).
وإذا كان الإعلان عن خطة فياض في حد ذاته دليلا على عدم وجود شريك "حكومي" تفاوضي في الجانب الآخر كما تكرر القول القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير، فإن نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد ترومان في القدس المحتلة ونشرتها هآرتس في السادس من الشهر الجاري تؤكد بأن أغلبية الناس في دولة الاحتلال الذين انتخبوا الحكومة الحالية ليسوا جاهزين كذلك لأي جنوح إلى السلام، وهو ما أشار إليه الرئيس السوري بشار الأسد مؤخرا، إذ قال (31%) منهم إن حل الدولتين لن يكون ممكنا أبدا، بينما يرى (20%) أنه قد يكون ممكنا بعد أجيال كثيرة، و(19%) أنه سيكون ممكنا بعد جيل، أي أن (70%) منهم يعتقدون بأن حل الدولتين مستحيل حاليا، ومع ذلك يصر فياض في خطته على محاولة تغذية شعبه بأمل خادع كالسراب، لكن بيع الأوهام للشعوب أمر في منتهى الخطورة وبخاصة على باعة الوهم أنفسهم.
وإذا كان يمكن الجدل نظريا حول الطعن في مضمون خطة فياض فإن الطعن في شكلها غير قابل للجدل قطعا، إذ عندما عين رئيسا للوزراء أول مرة في 15 حزيران / يونيو 2007 ولم يصادق المجلس التشريعي على تعيينه سوغت الرئاسة في رام الله التعيين بوجود حالة طوارئ وطنية، وعندما أعيد تعيينه في هذا المنصب في 19 أيار / مايو 2009 ظلت المقومات الدستورية لممارسة مهامه مفقودة حتى الآن لتظل حكومته حكومة تصريف أعمال، ومع ذلك فإنها تعرض خطة سياسية بامتياز وتفرضها كبرنامج "وطني" دون تصديق تشريعي عليها أو موافقة وطنية، ولا يسع المراقب إلا التساؤل باستهجان عن الأسباب التي تجعل القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير الفلسطينية تمنح حكومة بهذه المواصفات صلاحيات سياسية استراتيجية أقامت الدنيا ولم تقعدها للدفاع عنها باعتبارها صلاحيات حصرية خاصة بمنظمة التحرير في مواجهة حكومة حماس الشرعية عام 2006 ثم لاعتبارها شرطا مسبقا للدخول مع حماس في حكومة وحدة وطنية بعد ذلك.
وفي السياق العام لخطة فياض فإن تصريحاته التي أثارت جدلا مؤخرا عن استعداده لتوطين اللاجئين في "الدولة الفلسطينية"، وما قاله في معهد أسبن الأميركي في تموز / يوليو الماضي عن استعداده لقبول المستوطنين اليهود مواطنين في هذه الدولة إذا اختاروا البقاء والعيش فيها لأنه يؤمن ب"القيم العليا للتسامح والتعايش والاحترام المتبادل لكل الثقافات والأديان"، هي تصريحات لا يمكن تفسيرها إلا بكون "مبادرة جنيف" المرفوضة وطنيا تمثل مرجعية لخطته، ومما يؤكد ذلك أن الموقع الفلسطيني على هذه المبادرة، ياسر عبد ربه، كان هو منظم الحملة الانتخابية لقائمته، وما زال هو المروج الأول له ولخطته، بينما يضم طاقمه الوزاري قيادات في هذه المبادرة التي انبثقت عن "تحالف السلام الفلسطيني" الذي يتزعمه عبد ربه نفسه، ومن هؤلاء على سبيل المثال مستشار فياض الإعلامي جمال زقوت.
أما إخضاع الهيكل الإداري لمنظمة التحرير الفلسطينية لقراره المالي، والإحالات بالجملة على التقاعد لمخضرمي النضال الوطني في قوى الأمن الوطني، واستبدالهم بخريجي دورات التدريب التي ينظمها الجنرال الأميركي كيث دايتون، في كتائب الأمن الوطني الثمانية وكتائب الحرس الرئاسي الأربعة المقرر الانتهاء من تدريبها في شهر نيسان / أبريل من العام المقبل، أي قبل شهرين من الموعد الذي حدده فياض لإعلان الدولة، إضافة إلى منتسبي الشرطة الذين يدربهم البريطانيون وغيرهم، فإنها استعدادات توفر له "بديلا أمنيا" للقوى الوطنية، بينما يوفر له تحالف السلام الفلسطيني بديلا تنظيميا لهذه القوى على المستوى الشعبي،فهذه الاستعدادات تؤهله للحلول محلها جميعا،إذ هذا هو التفسير الوحيد لسياسة تحريض بعضها لمواصلة "الحرب" التي تقودها حكومته على البعض الآخر، مما يجعل إنهاء الانقسام الفلسطيني الراهن أولوية وطنية ملحة قبل أن يجد المستجيبون لهذا التحريض أنفسهم خارج التاريخ فجأة.