بقلم : نقولا ناصر* ... 10.05.2010
(*إذا كانت دول عربية يمكنها أن تجاري الرؤية الأميركية للسلام الإقليمي تلافيا لأي صدام معها فإن سوريا لا يمكنها ذلك لسبب بسيط هو أن لها أراض تحتلها إسرائيل منذ عام 1967)
يؤكد القرار الأخير الذي اتخذه الرئيس الأميركي باراك أوباما بتمديد العقوبات الأميركية على سوريا لمدة عام آخر، بدعوى أنها "دولة راعية للإرهاب"، أن مفتاح الحرب والسلام إقليميا ما زال موجودا في دمشق، والادعاء الأميركي يستند إلى دليل تدعيه دولة الاحتلال الإسرائيلي بأن دمشق تسلح حزب الله اللبناني بصواريخ "سكود"، وهو إدعاء تنفيه سوريا ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وحزب الله وقائد قوات الأمم المتحدة "اليونيفيل" في جنوب لبنان الميجر جنرال ألبيرتو أسارتا شيفاز لكن إدارة أوباما تتبنى الادعاء الإسرائلي على علاته وكأنه حقيقة، مما يدفع أي مراقب محايد إلى البحث عن أسباب أخرى للقرار الأميركي غير هذا الادعاء، وبخاصة توقيت القرار المتزامن مع التحفظ السوري على قرار اللجنة الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية بتأييد المبادرة الأميركية لبدء مباحثات فلسطينية ـ إسرائيلية غير مباشرة تمهد لاستئناف المفاوضات الثنائية المباشرة.
والمقترح الأميركي كما سبق أن أعلن الجنرال ديفيد بيترايوس قائد القيادة المركزية الأميركية التي تدير الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان وباكستان يستهدف تهدئة الصراع العربي الإسرائيلي لأن استمراره يهدد الأمن القومي الأميركي ويعرض حياة الجنود الأميركيين المقاتلين في هذه الحروب للخطر، لكن "عملية السلام" الجارية منذ عقدين من الزمن قد وصلت إلى طريق مسدود وتحاول واشنطن الآن إنعاشها، بينما وصلت إلى طريق مسدود أيضا "العملية السياسية" المماثلة التي ترعاها أميركا في العراق من أجل توليد نظام سياسي قيصريا يكون وكيلا لها في استتباب أمن داخلي يجعل من الممكن تحرير جزء من قوات الاحتلال لإعادة نشرها من العراق إلى افغانستان. وبينما فشلت زوبعة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في دق إسفين بين سوريا وبين لبنان في موقفهما الموحد في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي بالرغم من انسحاب القوات السورية من لبنان، يستمر كذلك الطريق الأميركي والإسرائيلي مسدودا في لبنان. وكذلك فشل الحصار الأميركي ـ الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة في تحرير مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية من القيود التي تفرضها على حريته في الحركة المقاومة الصامدة هناك. وكل هذه العوامل مجتمعة وغيرها ما زالت تحول دون نجاح واشنطن في بلورة "جبهة عربية ـ إسرائيلية ـ أميركية" تحكم الحصار على إيران، وتحول أيضا دون الجهود الأميركية الحثيثة لدق إسفين بين سوريا العلمانية وبين إيران الدينية مما يؤكد بأن التهديد الأميركي للأمن الوطني لكلا البلدين ما زال أقوى من أي خلافات بينهما حول نظام الحكم.
وكل هذه الطرق المسدودة مفتاحها الإقليمي في دمشق مما يثبت أن سوريا هي اللاعب الإقليمي الرئيسي في كل هذه الجبهات، وموقفها الممانع ما زال يمثل العقبة الرئيسية أمام ترتيب الأوضاع الإقليمية أميركيا. وقد أدركت إدارة أوباما هذه الحقيقة، وقررت كما أشارت الدلائل منذ بداية ولايتها الأخذ بتوصية مجموعة العراق (لجنة بيكر ـ هاملتون) التي رفضتها إدارة جورج دبليو. بوش السابقة بالانفتاح على سوريا، بعد ان مهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الطريق لها منذ قرابة عامين بدعوته الرئيس بشار الأسد إلى باريس، لكي تحاول تجاوز ثلاثين عاما من إدراج الإدارات الأميركية المتعاقبة لسوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكي يحاول أوباما تجاوز العقوبات التي فرضها سلفه بوش عليها عام 2004 قبل ان يسحب بوش السفير الأميركي من دمشق في السنة التالية.
ومع أن واشنطن لم ترفع اسم سوريا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ولم ترفع عنها العقوبات التي فرضها بوش، فإن المدرسة الأميركية قد أعيد فتحها في العاصمة السورية، وسمح بتصدير تكنولوجيا الانترنت إلى سوريا، وسمحت واشنطن بمنح تأشيرات دخول للمواطنين السوريين، واستثني السوريون من إجراءات الأمن الاستثنائية في المطارات الأميركية، ثم عين البيت البيض روبرت فورد سفيرا اميركيا جديدا في دمشق بانتظار مصادقة الكونغرس على تعيينه، وبدأ حوار سوري ـ أميركي يتضح من تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم لإذاعة مونت كارلو مؤخرا أن الجانبين اتفقا على ثلاثة مراحل لتحسين العلاقات الثنائية.
لكن هذا المسار الإيجابي للعلاقات الثنائية انقطع فجأة، فعلق الكونغرس مصادقته على تعيين فورد سفيرا لبلاده في دمشق ليؤخر إرساله إليها، بعد أن أرسل اوباما إلى الكونغرس قراره بتجديد الأمر التنفيذي رقم 13338 الذي أصدره بوش في الحادي عشر من ايار / مايو عام 2004 لمدة عام آخر لأن سوريا مستمرة في دعم المنظمات الإرهابية وبرامج الصواريخ والسعي إلى الحصول على أسلحة دمار شامل مما يمثل "تهديدا مستمرا غير عادي واستثنائي للأمن القومي للولايات المتحدة ولسياستها الخارجية واقتصادها".
غير أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كانت أقل مراوغة من البيت الأبيض في الأسباب الأميركية الموجبة لإصدار أوباما لقراره، فليس الأمن القومي الأميركي هو المهدد بل إن"هذه التهديدات لأمن إسرائيل هي تهديدات واقعية ومتنامية ويجب معالجتها" كما قالت كلينتون للجنة الأميركية اليهودية، مضيفة أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بسبب هذه التهديدات "تواجه بعض أصعب التحديات في تاريخها" من إيران وسوريا والجماعات التي يؤيدها البلدان مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس في قطاع غزة، لتؤكد مجددا أن بلادها مصممة على إجبار البلدين على تغيير مسارهما لأن نقل الأسلحة لهذه الجماعات، وبخاصة الصواريخ الأطول مدى، يمثل "تهديدا خطيرا لأمن إسرائيل"، وليس لأمن الولايات المتحدة كما ادعى أوباما في قراره، كما كانت أكثر إيضاحا لما ينبغي على سوريا أن تفعله أميركيا عندما قالت: "نود أن نرى سوريا تلعب دورا بناء أكثر لتنخرط في جهد لحل صراعها القائم مع إسرائيل".
وبما أن سوريا ملتزمة بالسلام كخيار استراتيجي وبمبادرة السلام العربية فإن الترجمة الوحيدة لتصريحات كلينتون هذه هي أن الولايات المتحدة تضغط عليها للقبول بسلام أميركي بشروط إسرائيلية، وإذا كانت دول عربية يمكنها أن تجاري الرؤية الأميركية للسلام الإقليمي تلافيا لأي صدام معها فإن سوريا لا يمكنها ذلك لسبب بسيط هو أن لها أراض تحتلها إسرائيل منذ عام 1967.
ومع ذلك تحرص الدبلوماسية السورية على محاولة تحييد الولايات المتحدة في صراعها الرئيسي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكان تعليق وزير خارجيتها المعلم على قرار أوباما بتجديد العقوبات عليها تذكيرا بأن "دمشق وفت بالتزاماتها لواشنطن" وبأن "العلاقات بين البلدين تجاوزت الحوار السياسي وباتت في مرحلة تنفيذ الالتزامات" وبأنه "إذا لم يقم كل طرف بما عليه في المرحلة الأولى فمن الصعب الانتقال إلى للمرحلة الثانية ومن ثم الثالثة". ومن الواضح من قرار أوباما وتصريحات كلينتون أن واشنطن هي التي تتنصل من التزاماتها "التي تم الاتفاق عليها بين الجانبين" كما قال المعلم. وإذا كان قرار أوباما قد تزامن مع المعارضة السورية للمقترح الأميركي ببدء مباحثات فلسطينية ـ إسرائيلية غير مباشرة فإن تصريحات كلينتون قد تزامنت مع زيارة وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك لواشنطن حيث كرر المزاعم عن التسليح السوري لحزب الله اللبناني بصواريخ "سكود" وهي المزاعم التي اتخذها أوباما مسوغا لقراره وكلينتون ذريعة لتصريحاتها.
لقد وصفت دمشق الاتهامات الأميركية بأنها "حملة مفبركة" تذكر بتلك التي شنتها واشنطن ضد النظام الوطني العراقي لتسويغ الغزو فالاحتلال الأميركي للعراق بحيث "يبدو ان الإدارة الأميركية الحالية تحاول تكرار السيناريو نفسه" كما قال المعلم. وإذا كان هذا الوصف السوري يمكن التشكيك الأميركي فيه فإن تكرار رئيس الوزراء اللبناني الحريري له يعطيه مصداقية لا تدع مجالا للشك في أن للحملة الأميركية أسبابا أخرى لا علاقة لها بكل المسوغات التي ساقها أوباما لإصدار قراره، ولها أهداف عدوانية لا تقتصر على سوريا، لأن "الشائعات الزائفة حول صواريخ سكود هي ذريعة فقط لتهديد بلدي" كما قال الحريري لصحيفة ستامبا الإيطالية أواخر الشهر الماضي.
وإذا كان يمكن التشكيك الأميركي في التفسير السوري واللبناني للمزاعم الأميركية ـ الإسرائيلية فإنه بالتأكيد لا يمكن التشكيك في تأكيد قائد قوات اليونيفيل الميجر جنرال شيفاز بأنه "لدينا حوالي 12 ألف جندي وثلاثة ألوية للجيش اللبناني في منطقة صغيرة .. وليس لدينا أي دليل على وجود أية صواريخ سكود في منطقة عمليات اليونيفيل. فهذه الصواريخ كبيرة وأنا متأكد من عدم وجودها لأن إخفاءها صعب جدا" كما نسبت الديلي ستار اللبنانية إليه القول. لا بل إن الناطقين الرسميين باسم وزارة الخارجية الأميركية لم يستطيعوا تأكيد نقل هذه الصواريخ إلى حزب الله عندما استدعوا كبير دبلوماسيي السفارة السورية في واشنطن للاحتجاج على "إمكانية" نقلها.
إن حملة واشنطن المفبركة ضد سوريا هي بمثابة ضوء أخضر أميركي لعدوان إسرائيلي على سوريا أو لبنان أو كليهما، مما يستدعي موقفا عربيا تضامنيا لا يسوغ تكرار السيناريو العربي الذي وفر غطاء لغزو العراق واحتلاله، كما أن الأصوات الإسرائيلية التي تهدد بأن يكون أي عدوان كهذا مدخلا إلى تغيير النظام في سوريا لا ينبغي أن تجد لها مدخلا في "المعارضة" السورية يكرر سيناريو "المعارضة العراقية" التي كشفت سبع سنوات من الاحتلال الأميركي أنها لم تكن أكثر من طابور خامس للغزو فشل الاحتلال حتى الان في تحويله إلى نظام سياسي يكون وكيلا محليا للاحتلال، مما يقتضي حرصا على الوحدة الوطنية السورية كخط أحمر له استحقاقاته لدى الحكم والمعارضة على حد سواء، خصوصا بعد أن أثبت فشل "عملية السلام" الأميركية أن عدم انهيار المناعة السورية أمام الاستراتيجية الأميركية ـ الإسرائيلية هو مصلحة قومية للأمن العربي لأن مفتاح الحرب والسلام الإقليمي ما زال موجودا في دمشق.