أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
باحث يطرق طرقا صعبة !!

بقلم : رشاد أبو شاور ... 19.05.2010

منذ عرفته مطلع السبعينات، ترك لدي انطباعا بأنه مستقّل الشخصيّة، عنيد في الدفاع عن مبادئه، مجادل نزيه يتميّز بأريحيّة تدفعه للتراجع عن الخطأ إن اقتنع بصواب رأي مجادله. مُعتد بشخصيته، يتأبّى على التبعيّة لفرد، أو لحزب، وهو ما أدى به إلى الخروج على الطاعة (الأيديولوجيّة) الحزبيّة، وانتهاج سبيل البحث عن الحقيقة باستقلاليّة.
بدأ قّاصا، وناقدا أدبيّا، وانخرط في (الثورة) الفلسطينيّة، وبقي على علاقة عميقة بوطنه العراق، وبالحراك السياسي العراقي، معارضا، ومجتهدا، لا يخشى أن يفصح عن أفكاره، وأن يبادر إلى خيارات مُكلفة كان بمقدوره أن يتجنبها، ولكن وفاءه لوطنه دفعه إلى تلك الخيارات على ما تجرّه من متاعب.
غاب لسنوات بعد الرحيل عن بيروت، في هولندا، وبعد سنوات، ظهرت نتائج تلك
(الغربة) التي أبت عليه كرامته، وطموحه الفكري، أن تكون فسحة لحياة دعة وراحة وتبطّل.
كتابه الأوّل الذي شدّ الانتباه كان (إرم ذات العماد)، فهو العائش في ذلك البلد الأوروبي، انشد إلى زمن بعيد، ومكان مستحيل، فغاص في التاريخ والجغرافيا، وتحرّك بين الوهم والخيال والحقيقة، وعاد ببحث ممتع، يدل على جهد وجديّة وطرافة.
بعدئذ، صرنا نلتقيه بين فترة وأُخرى، في دمشق، وكلّما عاد من غيبة تمتد لعام، تزيد أو تنقص، يفاجئنا بكتاب جديد لا يقّل طرافة، وجدّيةً، عمّا سبقه.
في السنوات الأخيرة، أغنى الباحث فاضل الربيعي، المكتبة العربيّة بعدّة كتب، تعاملت مع التراث، أتت بجديد غير مسبوق، لهذا الباحث الذي يقضي جُلّ وقته مواظبا في المكتبات، لا في الثرثرة، والتسكّع، والتكسّب بشعارات الليبراليّة والديمقراطيّة، والبكاء على ما مضى!
كتابه (أبطال بلا تاريخ) يبدأ بالتساؤل: كيف يكون البطل بلا تاريخ؟ هل ثمّة حقّا أبطال بلا تاريخ، ومع هذا فنحن نُصدّق ما يروى عنهم؟ هل بوسعنا أن نميّز داخل المرويات الإخباريّة العربيّة القديمة كما عرضها الطبري (الملوك والرسل)، والمسعودي في (مروج الذهب)، وابن الأثير في (الكامل)؟!
كتابه هذا مساهمة في نقد مصادر روايات الطبري، وابن هشام، والمسعودي، ورؤيتها للشخصيات التاريخيّة العربيّة.
يرى فاضل الربيعي أن ليس التاريخ مليئا بالأساطير، بل إن الأساطير مليئة بالتاريخ ...
لا يهرب فاضل الربيعي إلى التاريخ البعيد، تجنبا لحقائق الواقع والتاريخ المعاصر الذي نعيش فصوله، ولذا نراه يكتب: (الخوذة والعمامة) حول الاحتلال الأمريكي، وموقف المرجعيّة الدينيّة في العراق منه، وفي هذا جسارة، ومساءلة للمرجعيات، فالقدسيّة والولاء للوطن لا للأفراد والطائفة.
فاضل االربيعي من القلائل الذين توقفوا أمام التحولات، والصراعات السياسيّة في العراق، ونقد أدوار وتجارب التيّارات السياسيّة: الحزب الشيوعي، البعث، حركة القوميين العرب، في كتابه (الجمهوريّات العنيفة).
(دونكيشوت) حقيقي فاضل الربيعي، مع فارق إنه لا يقاتل طواحين الهواء، وإنما يقاتل الطواغيت المتحكمين بالعقول والمصائر، الرابحين من خسارات وطن وشعب وأمّة.
الجهد الأكبر والأشمل، والذي سيكون له تاثير كبير في مسيرة هذا الباحث والمفكّر، بدأ مع دراسته (قصّة حب في أورشليم)، والذي سخّره لغرام الملك سليمان بالآلهة العربيّة سلمى...
اعتمد الربيعي في دراسته المعمّقة على الشعر العربي الجاهلي، والجغرافيا العربيّة اليمنية، ليصل إلى حقائق مدهشة هي كشف جديد: نشيد الإنشاد وُجد في (اليمن)...
الكتاب السفر، كتاب العمر بالنسبة لفاضل الربيعي هو (فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم)، والذي يقع في جزأين، من الحجم الكبير، في حوالى 1300 صفحة، إضافة للخرائط التي تُثبّت الأمكنة اليمنيّة، وتضاهيها بما ورد في التوراة، لتنسفها من أساسها.
كم سنة سلخ فاضل الربيعي من عمره لإنجاز هذا الكتاب الذي يفضح ترهات كتّاب التوراة القدماء، ومروّجي (الحق التاريخي) اعتمادا على التوراة تلك، ويفضح التزييف، سابقا ولاحقا، بالحقائق الداحضة المتبدية للعيان في أرض اليمن، من جبال، ووديان، وبأسماء وأمكنة ما زالت على عهدها، ورسوخها، لم تبدلها السنون؟
يعتمد الربيعي على كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني، ويطرح في مقدمته للكتاب أسئلة مثيرة حقّا، منها: هل وصف الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب) الأرض نفسها التي وصفتها التوراة؟ مثل هذا السؤال الذي لم يكن مطروحا من قبل، كان في مواجهتي، وأنا أكرّر طلب استعارة الكتاب من جامعة ليدن بهولندا، حائرا متسائلاً: أين حدث الخطأ في قراءة نصوص التوراة؟ هل ثمّة من خطأ أصلاً، أم أن القراءة الغربيّة للتوراة، وهي قراءة استعماريّة في الجوهر، هي التي ساهمت في تضليل العالم، وفي تحريف التاريخ؟!
في مقدمة كتاب (اختلاق إسرائيل القديمة) الصادر عن سلسلة (عالم المعرفة)، لأستاذ الدراسات الدينيّة (كينث وايتلام)، والذي كلفته نزاهته في مجابهة أكاذيب المؤرخين التوراتيين الطرد من عمله كأستاذ في الجامعة، وتشريده بعيدا عن وطنه، والكتاب من ترجمة الدكتورة سحر الهنيدي، جاء ما يلي: إن الصهيونيين يعتقدون أن رسم الخرائط، وأعمال المسح الميدانيّة، وإطلاق الأسماء التوراتيّة على الأرض، تعطيهم حق ملكيتها.
اعتمادا على كتاب الهمداني (صفة جزيرة العرب)، وعلى ألوف القصائد الشعريّة، درس الربيعي جغرافيّة اليمن، وقارنها بالجغرافيّة التوراتيّة، قارن بين النصوص العربيّة والعبريّة، بدأب استمر حوالي ثمانية أعوام، وأنجز ما كان يحتاج لجهد مؤسسة.
سأورد مثالاً على انتفاعه بالشعر وهو يعيد قراءة (التوراة):
أحيي الغر من سروات قومي
لقد حُييت عنّا يا مدينا
فإن يك آل إسرائيل منكم
وكنتم بالأعاجم فاخرينا
يتساءل الباحث: فمن أين جاء اعتقاد الشاعر العبّاسي أن بني إسرائيل هم من أهل اليمن، إن لم يكن هذا الأمر صادرا عن معرفة مباشرة بالقبيلة القديمة وتاريخها وأنسابها؟
عن كتاب (الإكليل وصفة جزيرة العرب)، يكتب: بدأت حكاية الاكتشاف المثير هذا، عندما كنت أعيد قراءة الهمداني بعيد وصولي إلى هولندا بقليل، وأشدّ ما أثار دهشتي أنني وجدت الهمداني يسرد الأسماء نفسها الواردة في التوراة دون أدنى تلاعب.
عن الشعر العربي، وما يقدمه من حقائق جغرافيّة وتاريخيّة، يكتب في المقدمة: لقد وصف الشعر العربي القديم، بالفعل، المواضع ذاتها وبالأسماء ذاتها، التي سجلتها أسفار التوراة دون أدنى تحوير، أو تلاعب، وتماما كما فعل الهمداني...
يتساءل الربيعي في الفصل الأوّل: ماذا يفعل الاعرابي في الصحراء عندما ينفد الماء عنده، ويهدده خطر الموت عطشا؟..سوف يرفع الأعرابي عقيرته في غناء أبيات من الشعر القديم، غالبا ما تتضمن تحديدا دقيقا لمواضع الماء في الصحراء. ما من مرتحل، أو مهاجر في صحراء بلاد العرب القديمة، إلاّ وتزوّد بشيئين ثمينين، هما: الماء والشعر..والشعر عند العربي القديم مكنه من تتبع أسماء الأماكن اسما بعد اسم حتى بلغ مقصده...
دار الفكر في دمشق، ناشرة الكتاب المثير هذا، أرسلت إلى اليمن تطلب النصح من أساتذة التاريخ المتخصصين، وتستشيرهم في نشره، فكان جواب الدكتور يوسف عبد الله، والأستاذ حسن العمري، بالترحيب بالكتاب، والجهد المبذول فيه.
بعد (نظرية) الدكتور كمال صليبي (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، ها هو الباحث فاضل الربيعي، يُتحف المكتبة العربيّة بعمل كبيرالأهميّة، يميط التزييف التوراتي، ويسهم في إعادة كتابة تاريخ فلسطين القديم علميّا، وهو ما يؤكّد على أن فلسطين قضيّة عربيّة كانت وستبقى ...