أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
في العراق: يختلفون على الحكومة ويتفقون على برنامجها!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 24.05.2010

بعد سبعين يوما من إجراء الانتخابات في العراق أعرب رئيس المجلس الإسلامي عمار الحكيم عن "الخجل" لفشل الكتل الفائزة في انتخابات الساببع من آذار / مارس الماضي في تأليف حكومة، لكن الأيام تتوالى والحبل على الجرار، وما زالت الكتل الطائفية التي لا تشعر ب"الخجل" في "المنطقة الخضراء" تحتمي فيها، لا من قوات الاحتلال بوجهيه الأميركي السافر والإيراني الظاهر، بل من شعبها الذي قررت أن تسجنه داخل عاصمته بسور يطوقها ويحاصره فيها يزيد طوله على (350) كيلومترا لمنع التواصل بينه وبين مقاومته الوطنية، وما زالت هذه المنطقة دون حكومة، بينما انتهت ولاية رئيسها ونائبيه وحكومتها ورئيس وزرائها وبرلمانها.
ويستمر التصارع بين هذه الكتل على محاصصة حكومية طائفية على المناصب تضمن لكل منها حصة من عائدات الفساد المستشري، دون أي اتفاق بعد ما يقارب ثلاثة أشهر من الانتخابات، ليتساءل المراقب كم سوف يستغرق اتفاقها على أعضاء الحكومة إذا ما اتفقت على حكومة تؤلفها في أي وقت قريب، ليتضح انها جميعها مختلفة على الحكومة لكنها متفقة على البرنامج الأميركي ـ الإيراني للحكومة المرتقبة، ولذلك لا تبدو جميعها معنية بهذا البرنامج أو بالاختلاف عليه.
ولذلك أيضا اضطرت الإدارة الأميركية في واشنطن المعنية بتأليف حكومة سريعا تسهل إعادة نشر قوات احتلالها من العراق إلى أفغانستان إلى تعنيفهم جميعا وعلنا لحثهم على الإسراع في تأليف حكومة، وعلى الاهتمام أكثر ببرنامجها، لأنهم "يمضون الكثير من الوقت في مناقشة من هو الذي سيأخذ الفرصة الأولى لتأليف الحكومة" مع أن "الأمر الأكثر أهمية هو التحدث عن ماهية برنامج الحكومة الجديدة"، كما قال مساعد وزير الخارجية الأميركية جيفري دي. فيلتمان لصحيفة الواشنطن بوست الأسبوع الماضي.
وانضم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أواسط الشهر الجاري إلى هذا التحذير، وإن يكن بلغة دبلوماسية أقل صراحة، عندما حذر من أن "التأخير في عملية تشكيل الحكومة لن يخدم مصالح الشعب العراقي" وحث على "التحرك السريع والعمل معا بروح من الوحدة الوطنية لبناء حكومة متماسكة وشاملة".
وإذا كان فيلتمان وإدارته معنيون بهذا البرنامج لأهدافهم الخاصة، فإن الشعب العراقي لا بد وأن يكون معنيا أكثر به وهو يراقب الطفيليات السياسية الطائفية موغلة في تضليل شعبها بالتعتيم على حقيقة اتفاقها جميعا على البرنامج الأميركي ـ الإيراني المعد سلفا لهذه الحكومة ولذلك لا يسمعها أحد تختلف عليه.
لكن الولاء المزدوج لهذه الطفيليات، ما ظهر منه وما بطن، ما زال يسمح لها باللعب على الحبلين الأميركي والإيراني لكي تتجاهل التعنيف الأميركي، فيؤكد رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي عدم وجود أي نية لديه أو لدى خصومه في الاصطراع على حصة من كعكعة الاحتلال في تغيير الوضع الراهن، بقوله لصحيفة "المدى" إن عملية تأليف الحكومة الجديدة قضية "محسومة" لأن تاليفها "مستحيل خارج دائرة الائتلاف الوطني وائتلاف دولة القانون"، أي انه يصر على طائفية الحكومة المقبلة، وعلى استمرار الوضع الراهن، مبددا أية أوهام قد يكون البعض اشتراها من الدعاية التي وعدت بأن تكون الانتخابات الأخيرة نقطة تحول نحو "التغيير". وعدم تغيير الوضع الراهن، بل ترسيخه، هو بلا شك البند الأول في برنامج الحكومة المقبلة الذي يتفقون جميعهم عليه.
والبند الثاني بالتأكيد هو استمرار الاحتكام إلى إيران كمرجعية لحل الخلافات بين الكتل الطائفية الموالية لها، وكان "حج" قيادات هذه الكتل إلى طهران مباشرة بعد الانتخابات مؤشرا يصعب دحضه إلى ذلك.
لكن التقارير الأخيرة التي تحدثت عن استعداد مقتدى الصدر لإعلان نفسه "مرجعا شيعيا" خامسا في العراق بعد عودته من قم، وما نقلته الأسوشيتدبرس عن نسخة قالت إنها حصلت عليها من الاتفاق غير النهائي بين ائتلافي "دولة القانون" و"الوطني" من أن الجانبين اتفقا على أن تكون لمرجعية آية الله السيستاني الكلمة الفصل في حل أي منازعات بينهما وأن كلمته ستكون "ملزمة"، إنما هي تقارير تؤكد استمرار المرجعية الإيرانية والطائفية "الملزمة" في برنامج أي حكومة مقبلة، أيا كان رئيسها.
مما ينذر أولا باستمرار التوتر الطائفي، وثانيا باستمرار التهديد بتفجير الصراع الطائفي مجددا، وثالثا باستمرار الصراع الدموي بين أطرف هذا المعسكر الطائفي ذي الولاء الخارجي الإيراني، ورابعا باستمرار توفير المسوغات التي تستدرج ردود فعل طائفية مقابلة توفر الحاضنة المثلى لاستمرار لعب "القاعدة" لدورها في المشهد الدموي العراقي المأساوي، وخامسا باستمرار استغلال الصراع الطائفي كأفضل سلاح في مواجهة المقاومة الوطنية العراقية للاحتلال، وكل هذه العوامل وغيرها سادسا مسوغ لتأخير انسحاب قوات الاحتلال، وسابعا باستمرار استعداء المحيط العربي وتأخير تطبيع العلاقات العربية ـ العراقية.
ومن المؤشرات الدامغة على قوة النفوذ الإيراني في العراق العجز الأميركي حتى الآن عن تجنيد النظام الذي أقاموه في بغداد في خدمة المواجهة الأميركية مع إيران، فالذين نصبهم الأميركيون حكاما في "المنطقة الخضراء" ما زالوا يرفضون فك ارتباطهم بالأجندة الإيرانية.
وبدأت تتصاعد الآن الأصوات الأميركية للضغط عليهم قائلة إن الوقت قد حان من أجل ربط "المساعدات الأميركية" لهم في المستقبل وكذلك الدعم الأميركي لهم لإخراج العراق من وصاية الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بانضمامهم دون مواربة ومراوغة للجهود الأميركية ضد إيران.
غير أن السفير العراقي في واشنطن سمير الصميدعي يقول إنهم لا يريدون أن يكونوا "مخالب" لأحد في المواجهة الأميركية ـ الإيرانية، أما رئيسه جلال طالباني فإنه "لا يعتقد" بأن لإيران برنامجا نوويا عسكريا بسبب "قيمها الإسلامية"، بينما يكرر وزير الخارجية هوشيار زيباري القول إن "من حق إيران" امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية.
في العشرين من الشهر الجاري كشف قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال ديفيد بيترايوس تكتيكات "الشرطي الطيب والشرطي السيء" السرية التي كان يستخدمها عندما كان قائدا لقوات الاحتلال في العراق مع السفير الأميركي السابق في بغداد رايان كروكر لابتزاز ما يريده المحتلون من وكلائهم المحليين. ويتساءل المراقب عما إذا كانت هذه التكتيكات ما زالت صالحة الآن أم أن النفوذ الإيراني قد حيدها.
وردود الفعل العربية على استمرار الوضع الراهن في العراق متباينة. كمثال: خلص وفد من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي زار الإمارات العربية المتحدة والعربية السعودية في الفترة من 3 ـ 12 الشهر الجاري إلى أن النفوذ الإيراني في العراق يمثل مصدر قلق "أول" لكليهما، لكن الأولى قلقة من الانسحاب الأميركي المقرر بنهاية الشهر الثامن المقبل بينما الثانية تعتقد بأن على الولايات المتحدة الالتزام باتفاقية إطار العمل الاستراتيجي الموقعة مع العراق في مواعيدها. وكمثال ثان: فإن استمرار الوضع العراقي الراهن لا يدعو للتفاؤل بالطموح السوري إلى استيعاب العراق ضمن تكتل إقليمي يضم أيضا تركيا وإيران.
إن مجموعة من المؤشرات تشكك في صدق إدارة باراك أوباما في ترك العراق لشعبه كما سبق له أن أعلن. أما صدق من جاء بهم الاحتلال الأميركي إلى سدة الحكم في بغداد في التخلص من الضمانة الوحيدة لبقائهم في سدة الحكم فإنه ليس موضع تساؤل أحد من العراقيين لكي يتوقع منهم أن يضعوا التخلص منه على رأس جدول أعمال أي حكومة مقبلة.
فالاحتلال الذي يغير طاقم حكمه في العراق الآن لا يشير بذلك إلى أي نية حقيقية في الانسحاب وإلا ما الضير في بقاء مسؤولي الاحتلال الحاليين طالما أن قواته سوف تبدأ انسحابها بعد أشهر. فوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس عين مؤخرا الجنرال لويد جيه. أوستن قائدا جديدا لقوات الاحتلال في اعراق بديلا للجنرال راي أوديرنو.
والسفير كريستوفر هيل سيغادر في تموز / يوليو المقبل ليحل محله السفير الأميركي لدى تركيا جيم جيفري.
ومساعد وزيرة الخارجية ستيوارت إي. جونز الذي يدير حاليا "بلقنة" البلقان سوف يحل محل الرجل الثاني في السفارة الأميركية في بغداد روبرت فورد المرشح سفيرا أميركيا في دمشق.
وفي أواخر آذار / مارس الماضي أبرمت وزارة الخارجية الأميركية مع شركة "تريبل كانوبي" عقدا تقارب قيمته مليار دولار أميركي لتحل محل "بلاكووتر" في توفير الجنود المرتزقة لحماية موظفي الحكومة الأميركية في العراق.
أما استقالة المدير القومي لستة عشر جهاز مخابرات أميركي دنيس بلير مؤخرا بعد صراع مع البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية (السي آي إيه) حول تعيين كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية والمخابرات في الخارج (النيويورك تايمز والواشنطن بوست) واختيار أوباما جون برينان المتقاعد من السي آي إيه خلفا له فإنهما مؤشر إلى تشديد قبضة الاحتلال الأميركي على العراق.
وفي التاسع والعشرين من الشهر الماضي أعلن مساعد وزيرة الخارجية ديفيد جونسون أن إدارته "اتفقت" مع حكومة المالكي على برنامج يستغرق "خمس سنوات" لنقل المسؤوليات من جيش الاحتلال إلى الحكومة العراقية، بينما أعلنت إدارته أن المسؤولية عن "تدريب الشرطة العراقية" سوف تنتقل من جيش الاحتلال إلى "حكومة العراق ووزارة الخارجية الأميركية" بعد الموعد المقرر لانسحاب "مقاتلي" الاحتلال في الأول من تشرين الأول / أكتوبر عام 2011.
وقد بدأ مسؤولون عسكريون ومدنيون أميركيون يعلنون عن "أسباب فنية" كمسوغ لتأخير سحب قوات الاحتلال في المواعيد المعلنة. في كانون الثاني / يناير قال الجنرال أوديرنو أن الالتزام بالمواعيد المعلنة يتطلب البدء في سحب (12) ألف جندي في المعدل شهريا اعتبارا من الشهر الجاري. لكن ثلاث مسؤولين أميركيين في بغداد ومسؤول كبير في البنتاغون أبلغوا وكالة الأسوشيتدبرس أن ذلك لن يتسنى قبل حزيران / يونيو المقبل، وأن "التركيز على العراق تجدد في البنتاغون مؤخرا"، وأنه تجري "إعادة النظر في كل الخيارات"، لأنه "ما زال هناك عمل لا بد من إنجازه هنا" كما قال الميجر جنرال ستيفن لانزا المتحدث العسكري الأميركي في العراق، ولأن "خطر التمرد دفع المسؤولين العسكريين للتفكير في كيفية إبقاء أكبر عدد ممكن من القوات على الأرض، لأطول فترة ممكنة، بينما يجري سحب كل القوات الأميركية باستثناء 50 ألفا قبل 31 آب / أغسطس"، كما قالت الوكالة نفسها.
إن أوباما الذي تراجع عن وعود كثيرة أعلنها في مستهل عهده منها خطة للانسحاب من العراق خلال "16 شهرا" مددها بعد ذلك إلى "19 شهرا" لا يمكن الوثوق في أنه لن يمدد بقاء قوات الاحتلال في العراق. ومع ذلك لا أحد من المختلفين على الحكم في بغداد يتحدث عن برنامج الحكومة المقبلة حيال هذا الاحتمال، أما المقاومة الوطنية فبرنامجها واضح تماما ومعلن.

وباستثناء "التيار الصدري"، لم يتحدث أحد كذلك عن أي برنامج حكومي لإعادة النظر في العقود "غير الشرعية" التي وقعها المالكي مع شركات النفط الأجنبية دون مصادقة حتى برلمان نظامه عليها، بينما تستعد حكومة المالكي المنتهية ولايتها لجولة مناقصات نفطية جديدة، ولمناقصات حول استثمار ثلاثة حقول غاز عراقية، وتكاد تكون قد استكملت عقدا مع "رويال دوتش شل" لاستخراج الغاز من حقول قرب البصرة، أو لإعادة النظر في توكيل "تولت ميرتشنت بريدج" ببيع عشرات الشركات المملوكة للدولة إلى مستثمرين أجانب ضمن برنامج "الخصخصة"، ومنها مصانع الاسمنت في محافظة كربلاء.
أما تعديل الدستور الذي سنه الاحتلال، وتعديل القوانين المستندة إليه، ومنها قانون الانتخاب، وما يرتبط بذلك من المصالحة الوطنية، والحفاظ على وحدة أراضي العراق الإقليمية، ومحاربة الفساد، وتوفير الخدمات الأساسية، والاستقرار الأمني، وبناء الدولة، وحماية الحدود، وإعادة المهجرين في الداخل واللاجئين العراقيين في الخارج ومحاسبة المسؤولين عن كل المآسي والمصائب التي حلت بالعراقيين منذ الغزو، إلخ.، فإنها ليست في برنامج أي حكومة مقبلة ما زالوا مختلفين على تأليفها !