بقلم : د.خالد الحروب ... 03.03.2010
في خارطة العالم المنشورة على كامل غلاف العدد الأخير من مجلة التايم الأمريكية (8 مارس 2010) تختفي أوروبا كليا ويحل مكانها الماء, ويظهر البحر المتوسط وكأنه ابتلعها. على يمين ويسار الخارطة تظهر أجزاء من الولايات المتحدة ومن الصين, فيما العالم العربي يبرز أكثر في غياب أوروبا. العنوان الكبير الذي يحتل قلب الغلاف يقول: أين ذهبت أوروبا؟ متبوعا بعنوان فرعي: "على الاتحاد الأوروبي أن يقرر إن أراد أن يكون قوة عالمية", وهو عنوان المقال الرئيسي للمجلة. تعيد المجلة تدوير جزء من النقاش الذي يتفاعل في السنوات الأخيرة في أوروبا حول دور ومكانة القارة وخاصة الاتحاد الأوروبي في العالم متعدد الأقطاب والذي نشهد تسارع تحولاته. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة بالسيطرة على السياسة الدولية وسيادة الأحادية القطبية لأزيد من عقدين من الزمان, وأوروبا تواجه السؤال الصعب حول الدور والمكانة. اشتدت حدة السؤال في السنوات الأخيرة في ضوء بروز وتصاعد نفوذ وحضور وقوة دول كبرى تزاحم الولايات المتحدة على تفردها بالسيطرة العالمية.
قبل عدة أشهر نشر أحد أهم خزانات التفكير المعنية بمستقبل أوروبا (Centre for European Reform) ومقره لندن ورقة بحثية جمعت أطراف السجال وأبرزتها في مقاربة صادمة لم تترك مجالا لدفن الرؤوس في الرمال – بل طالبت الأوروبيين بمواجهة سؤال الدور والمكانة مباشرة. الورقة التي كان عنوانها "هل تؤول أوروبا كقوة عالمية إلى الفشل؟" رسمت صورة تشاؤمية حول وضع القارة الأوروبية ومكانتها في السياق العالمي للتنافس بين القوى الكبرى الصاعدة, وذلك ضمن العالم متعدد القطبية. وينطلق كاتبها, تشارلز غرانت, من الفكرة التي يتوافق عليها عدد كبير من منظري العلاقات الدولية راهنا وهي أن العالم يتبلور وفق شكل قوى دولية متعدد الأقطاب. وفي هذا الشكل تظل الولايات المتحدة بطبيعة الحال واحدة من الأقطاب, لكن الصين تحتل فيه بسرعة وثبات موقعا مركزيا. والقوى المرشحة لأن تحتل مواقع أخرى في العالم متعدد الأقطاب هي الهند وروسيا وربما البرازيل وجنوب أفريقيا واليابان. قد تتسارع أو تتباطأ وتيرة دخول واحتلال دولة ما مكانة رئيسية في الشكل الجديد, وربما تسبق دولة لا تتمتع باحتمالات كبيرة لأن تكون قطباً دولة أخرى أكثر احتمالاً, وهكذا. لكن الغائب الأكبر في هذا السجال والسباق والاحتمالات هو أوروبا واتحادها. ما الذي يحدث لأوروبا ولماذا لا تأخذها بقية القوى بالجدية اللازمة؟
يشير مقال التايم إلى "الصفعة" القوية التي تلقاها الاتحاد الأوروبي خلال مؤتمر كوبنهاجن للمناخ في شهر ديسمبر العام الماضي 2009. في ذلك المؤتمر أراد الاتحاد الأوروبي أن يعزز منطق "القوة الناعمة" التي يتبناها عن طريق صوغ معالم الاتفاقية العالمية التي تداعت للتوافق عليها دول العالم صغيرها وكبيرها. وكانت المقاربة الأوروبية تأمل أن تقبل الولايات المتحدة والصين تحديدا, ثم الهند والبرازيل وعدد آخر من الدول, المقترحات الأوروبية. لكن المؤتمر الذي طالت أيامه وتعرض لاحتمالات الفشل الكامل, تم إنقاذه عبر اتفاقية لا تحقق الطموح الأوروبي بل والإنساني إزاء تخفيض نسب الدمار البيئي الذي تتسبب فيه الدول من خلال وتائر التصنيع والتنمية المرتفعة التي تنتهجها كل الدول. واتفاقية الإنقاذ تلك تم الوصول إليها من خلال اجتماع مصغر بين باراك أوباما ووفود الصين والهند وجنوب أفريقيا. بقية الدول وبما فيه الأوربية ما كان عليها إلا أن توقع الاتفاقية تلك. تعتبر تلك "الحادثة" الآن لحظة مفصلية في منحى انحدار النفوذ والحضور الأوروبي على مستوى العالم, وتشير إلى الدول متصاعدة القوة والتي تسير حثيثا باتجاه احتلال مواقع رئيسية في العالم متعدد الأقطاب الجديد. عدم وجود ممثلين عن الاتحاد الأوروبي في ذلك الاجتماع المصغر اعتبر إهانة مضاعفة لأوروبا التي تستضيف المؤتمر, وهي تتوازى مع نظرة الدول الكبرى لموقع الاتحاد في السياسة الدولية الحاسمة والمؤثرة.
كثير من المقاربات التي تقول بتحلل موقع ومكانة أوروبا, وكذلك الرمزية الحادة في إزالتها عن خارطة العالم للتدليل على نفوذها المتراجع تنطلق من مفهوم القوة, والقوة العسكرية تحديدا. يعيب نقاد أوروبا غيابها عن الساحات الساخنة في العالم: من العراق, إلى أفغانستان, إلى باكستان. وكذلك غياب تأثيرها في القضايا الملحة على أجندة الاهتمامات الغربية مثل قضية الملف النووي الإيراني. أوروبا مثلت خلال عقود ماضية "القوة الناعمة" التي تشارك في السياسة العالمية كأنها الطبيب والجمعية الخيرية التي تأتي بعد حدوث الكارثة أو وقوع الحرب التي تقوم بها "القوة الخشنة" وحاملتها الأكبر الولايات المتحددة. هناك بطبيعة الحال تجربة تاريخية مريرة لا تزال طازجة في القرن العشرين عندما كانت أوروبا هي مسرح صراعات القوى الخشنة ودفعت أثمانا باهظة لتلك الصراعات. وعلى أرضية تلك التجربة القاسية تأسس المشروع الأوروبي الاتحادي الذي مثل ريادة وفرادة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد استهدف المشروع المتدرج والمتأني تقليم عنف القوميات الأوروبية (الألمانية والفرنسية تحديدا) وإعادة تركيب العلاقات البينية الأوروبية على قاعدة المصالح, وعلى قاعدة التهديد السوفياتي الذي تطور سريعا خلال الحرب الباردة. في عقود تلك الحرب تكاملت "خشونة" الولايات المتحدة مع "نعومة" أوروبا وأسقطتا الاتحاد السوفياتي وكتله الشرقية ونموذجه الاشتراكي المنافس. بعد انقضاء تلك الحرب افترقت القوتان حيث تضعضع التكامل الذي وحده التهديد الشيوعي المُشترك. ومنذ تاريخ حرب العراق الأولى في أوائل التسعينيات وحتى حرب الحدود الأفغانية الباكستانية الراهنة, وواشنطن مستمرة في إدارة منطق "القوة الخشنة" في الوقت الذي تتهم فيه أوروبا بالتردد وعدم المساهمة في الجهد العسكري بشكل يناسب حجمها.
مشكلة الاتحاد الأوروبي المعروفة, ومكمن قوته وفرادته أيضا, هي في تميثله لدول ذات سيادة لا تتنازل بسهولة عن أجزاء من سياداتها خاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية أو الدفاعية. نجح الاتحاد الأوروبي في خلق إقليم تجاري واقتصادي مفتوح وناجح, وخلق نموذجا تتمنى مناطق وأقاليم كثيرة في العالم الوصول إليه. فمستويات الرفاه المعيشي, والسلم الأهلي, والأمن الداخلي, والضمان الاجتماعي, مع الحريات الفردية, عالية وهي الأفضل في العالم. لكن ذلك كله لا توازيه قوة عسكرية تدخلية تفرض نفوذ هذا الاتحاد في العالم كما هو نفوذ أمريكا مثلا.
بيد أن النقد المتأسس على منطق القوة والنفوذ (الهوبزوي – نسبة إلى توماس هوبز) يتسم بأحادية لا تأخذ بالاعتبار قوة النموذج الأوروبي التعاوني (الكانتي – نسبة إلى إيمانويل كانت). منطق القوة والفرض هو المنطق الأسهل في تسيير شؤون الصراعات: الأقوى يفرض على الأضعف إرادته. لكن منطق التعاون والصيغ المشتركة هو المنطق الأكثر إنسانية والأكثر تحدياً والأعمق وعدا من ناحية مستقبلية. بعض ما يقدمه النموذج الأوروبي هو نموذج المستقبل الذي تقوده القيم العميقة, وهو يطرح على العالم التأثير بقوة النموذج, وهو ما لا يملكه النموذج الأمريكي في سياساته الخارجية الكابوية.