بقلم : رشاد أبو شاور ... 10.03.2010
وصلني قبل أيّام إيميل من الدكتور كمال خلف الطويل، يحمل هذا السؤال: كيف تعرف الفلسطيني؟!
وفي الترويسة ملاحظة بالعاميّة يستخف بها الدكتور الطويل من المعلومات التي يراد لها أن تكون طريفة وفكهة، والتي لا ينطبق كثيرها على الفلسطيني، وهي: أي تخنتها شوي.
ولأنني أحد من روّجوا بعض المعلومات الطريفة عن الفلسطيني، وهي صحيحة، وفيها شيء من الدعاية والدعابة، وفضح لمن يتسببون له بالعذاب فوق ما يعانيه، فإنني سأعمد إلى تصحيح ما جاء في رسالة الدكتور الطويل والتي واضح أنه لا يتبناها، وهذا ما توضحه ملاحظته بأنها تخينة شوي.
عندما كنت آنذاك أعيش في الفاكهاني مع ألوف الفلسطينيين المحشورين في شقق، ومكاتب، متلاصقة، متواشجة، متنافرة، متنابذة، و..يعيش معهم مئات الإخوة العرب الفارين إلى الفاكهاني من ظلم يقع عليهم في أقطارهم، ناهيك عن عشرات الأشخاص الوافدين من بلدان أوروبيّة، وأمريكيّة، وأفريقيّة من تلك التي كانت تشتعل فيها ثورات تحرريّة بعد أن ذاقت وكابدت عنصريّة البيض لعشرات السنين، كوّنت انطباعات عن أبناء جلدتي الفلسطينيين، لم أكن قد خبرتها من قبل.
لاحظت أن بعض الفلسطينيين يسيرون في شوارع وأزقة الفاكهاني وهم يكلمون أنفسهم، بينما يتمشون منفردين، يحركون أيديهم بحركات عصبيّة محتجّة، وكأنهم يواصلون جدلاً صاخبا مع أحد ما، ربّما لا يجرؤون على مجادلته لتنفّذه وسطوته.
وبناءً على تلك الملاحظة استنتجت القاعدة التالية: إذا ما شاهدت شخصا يسير وحيدا في الشارع يكلّم نفسه، وسماته متوترة، غاضبة، محتجّة، محزونة..الخ، فاعلم أنه فلسطيني، وليس مجنونا، لأنه (في حاله)، لا يعتدي عليك، ولا يتهدد حياتك، وعيناه تنظران في داخله، وليس شذرا إليك، وهو يحمل هموما فوق طاقة البشر، ولذا فهو يكلّم نفسه محتجا على عالم لا يصغي له، وهو سبب تلك الهموم والمشاكل والرزايا.
وفي جلسات حوار فاكهانيّة، توصلت مع بعض الأصدقاء إلى أنك ستتعرّف إلى مضيفك، وتحدد فلسطينيّته، حتى لو لم تكن لديك فكرة عن انتمائه من قبل، إذا ما أحضر لك الشاي بالميرميّة شتاءً وصيفا، فالميرميّة عند الفلسطيني لا تطيّب مذاق الشاي وحسب، بل إنها مفيدة للمعدة، والتنفس، وللضغط، وللأعصاب..والحقيقة أن رائحتها (تُعيد) الفلسطيني إلى قريته، وبلدته، وأسرته التي لم يرها منذ أعوام طالت، ثمّ إنها تدل على (الهويّة) والانتماء.. رغم أن الميرميّة متوفرة في سورية ولبنان والأردن، وليست حكرا على فلسطين.
عندما تكون في جلسة، ويقف أحدهم ويعرض عليكم صادقا الدعوة للغداء، على مسخّن بالزيت، والخبز المشروح والكثير من البصل المحمّر..فاعلم أنه فلسطيني.
وإذا غدّاك شخص ما ملوخيّة ناعمة مع الكثير من الفلفل الأخضر، فاعلم أنه فلسطيني، لأن الملوخيّة ورق ماركة شاميّة مسجّلة، وقلما يطبخها الفلسطينيّون، اللهم باستثناء فلسطينيي الشام.
إذا دخلت بيتا ولفت انتباهك وفرة حقائب كثيرة، في الصالون، والمطبخ، والممرات، فاعلم أن (الساكن) في المكان فلسطيني لأنه متهيئ دائما للرحيل، والحقائب لزوم حشوها بالملابس، أمّا ما تراه من عفش وفرش وأدوات كهربائيّة فستباع برخص التراب، أو يتركها للأصدقاء، فالفلسطيني ينتسب لابن بطوطة قسرا واضطرارا، لا رغبة، وترفا.
إذا سمعت شخصا يقول بأنه استلف من مصروف البيت مبلغا، أي من أم العيال، فاعرف أنه فلسطيني، لأن الفلسطيني يترك كل شيء مع الزوجة، فهو غالبا، كائن مهدد بالتسفير، أو الاعتقال، أو..ما لا يخطر ببال، بل إنه - أي الفلسطيني - يسجّل غالبا، إلاّ ما ندر، ممتلكاته، متواضعة، أو نفيسة، باسم الزوجة، كونه مرشحا للموت، للاستشهاد، للاغتيال، للطرد من حيث يقيم، فهو دائما منشغل البال بأم العيال والأبناء والبنات، ويعمل على تأمينهم وفقا للمثل: القرش الأسود لليوم الأبيض. وأيام الفلسطيني سوداء دائما، ونادرا ما تكون رماديّة، ورماديتها لا تفرق عن السواد سوى في الدرجة.
الفلسطيني كائن قلق، غير مستقّر، وهذا ليس في طبيعته، ولكنه نتيجة للنكبات والمصائب، والمذابح، والمطاردات، والتسريح التعسفي، و..هو كخبز الشعير مأكول مذموم.
الفلسطيني كائن مُعمّر، ففي كل بلاد العرب له دور، ولكنه بلا (دور)، فهو كسنمار، جزاؤه معد قبل قيامه بالبناء، وكل ما يحصل عليه يعتبر تفضّلا، علما أنه يعطي، وغالبا لا يأخذ، وما يأخذه لا يدوم، فقد يسحب منه، وقد يطرد منه، و..ذلك حفاظا على حقوقه، ودعما له، وحرصا عليه!
ساركوزي إبن المهاجر اليهودي يترقّى في سلّم القيادة في فرنسا حتى يبلغ ذروة قيادة فرنسا: الرئاسة، ويجلس على كرسي ديغول ...
وباراك حسين أوباما ينتخب رئيسا للدولة (الأعظم) ..بينما الفلسطيني ملاحق في وثيقة، أو جواز، تسهّل سفره، وتمكّن أبناءه من العمل، والدراسة، والزواج، وسياقة السيّارة ..وهكذا فالفلسطيني خطر على الأمن الوطني، والقومي!
الفلسطيني كائن مشبوه في المطارات العربيّة، حتى لو كان يحمل جواز سفر مضبوطا، غير مزوّر..وموظفو المطارات والحدود البريّة والبحريّة مدربون على شمّ رائحته، وتمييز سحنته من بين سحن مواطني العالم، ولذا يعاد من حيث أتى، أو يزج به في سجن المطار، أو يرمى به على كراسي المطار ليقضي بضعة أيام دون سين أو جيم، وقد يفرض عليه النوم في غرفة في فندق المطار بالعملة الصعبة كما لو أنه سائح، رغم أنه يتنقّل في العالم بحثا عن أي عملة سهلة تساعده في تربية أبنائه، وصون كرامة أسرته!
الفلسطيني هو الذي يمكن طرده من مخيمات على الحدود إلى تشيلي والبرازيل ..حرصا على عروبته، وفلسطينيّته!
الفلسطيني هو الذي يمكن لأي (طامح) في بلد عربي أن يشّن عليه حملة، فيطالب بتجريده من جواز سفره، وحرمانه من كل حقوقه، وذلك ليتبوأ ذلك الشخص منصبا، ويشار له بالبنان أنه يدافع عن بلده!
الفلسطيني هو الذي يتابع نشرات التلفزيون والإذاعات، ويعرف أسماء المذيعين والمذيعات، وينفخ بغلّ: ما فيش أخبار مثل العالم والناس.
الفلسطيني هو العربي الذي يمكن لأي دولة عربيّة اعتقاله دون حساب للنتائج، أو اهتمام بردود الفعل، فهو مستباح تماما، وهو مُلكيّة عامة لكل نظم الحكم، يحق لها أن تفعل به، ومعه، ما تشاء..انطلاقا من الأخوة..والتضحيات التي قدّمت له ولفلسطين!
الفلسطيني هو العربي الوحيد المطلوب منه أن لا يذكر اسم بلده، لأن ذلك يعني أنه (إقليمي) متعصّب..وناكر للجميل!
الفلسطيني تعرفه عندما يتحدّث بحرقة عن عروبة الجزر الإماراتية، والخليج العربي، فهو موجوع بعروبته، شديد الحساسيّة تجاه كل حبّة تراب عربيّة تستباح.
الفلسطيني ينطبق عليه ما قاله شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه بالخلد نفسي
ولذا فالفلسطيني لن يقبل بأي وطن بديل، ويستحيل أن يرضى بتبديل وطنه فلسطين.
الفلسطيني هو الذي عناه المتنبي، عندما قال:
أنا من أمّة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
وبعد: أليس للفلسطيني أخطاء؟!
له..وأبرزها أنه ما زال يصدّق كلام من يحزّ عنقه وعنق فلسطين بالسكين، بينما عيناه تسيلان دموع التماسيح!!
الفلسطيني ولأنه عربي بامتياز، فإن الكيانات الإقليميّة والإقليميين..يناصبونه العداء، وهؤلاء ينغصون عليه عيشه، ويضعون الحواجز في طريقه، ويحرمونه من وضع كل طاقاته في مكانها..لفلسطين.. ولأمته!
حياة الفلسطيني جد جدّا، موت حقيقي، وغربة، ومع ذلك فالفلسطيني يضحك من كل قلبه..ولولا ذلك لطقّ ومات وانقرض...