أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
عندما يزايد الحكام العرب على شعوبهم في جلد الذات!!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 04.04.2010

لقد كانت القمة العربية الأخيرة فريدة من نوعها في تاريخ القمم العربية، فلأول مرة يتخلى الحكام العرب عن الخطاب الرسمي الخشبي الذي لم يعد يصدقه أحد منذ سنين، ليتحدثوا بلغة الشارع. ولولا أننا كنا نشاهد الزعماء العرب على شاشات التلفزيون وهم مجتمعون في مدينة سرت الليبية، لكنا ظننا أن المتحدثين ليسوا أبداً حكاماً، بل من المواطنين العرب البسطاء يدلون بآرائهم ومظالمهم عبر برامج البث المباشر التي تبثها الإذاعات والتلفزيونات العربية من طينة "فش خلقك"، أو "عبر عن رأيك" أو "بساط أحمدي" أو "منبر المشاهدين".
لأول مرة نسمع نغمة مختلفة تماماً، لا بل وجدنا أن زعماءنا يصرخون ويشتكون، ويزايدون على المواطنين العرب في شتم الواقع العربي، وجلد الذات، وضرورة الإصلاح، والنهوض، والتحرك، والفعل، ومواجهة التحديات.
لا بل إن أحدهم اعترف بحق المواطنين العرب بأن يكونوا متمردين وساخطين على الوضع القائم، وبأن زملاءه الحكام "في وضع لا يحسدون عليه".
وقبل انطلاق القمة استمعنا إلى بعض الزعماء وهم يعترفون بشجاعة نادرة بفشلهم في الوفاء بمتطلبات شعوبهم وأوطانهم، وبأن من حق الشعوب أن تفقد الأمل في حكوماتها، مع العلم أن بعضهم لم يكن يترك أي فرصة إعلامية إلا ويستغلها ليتغنى بإنجازاته ومآثره الوطنية والقومية الجوفاء.
لكنهم هذه المرة، على ما يبدو، آثروا الابتعاد عن الكذب والتدليس والضحك على الذقون، وأكل الحلاوة بعقول شعوبهم، بعد أدركوا أن الشارع راح منذ زمن بعيد يسخر من خطابهم الطاووسي المهترئ.
ويعود الفضل في ذلك طبعاً إلى وسائل الإعلام الحرة التي فتحت المجال أمام النخب والشعوب في الأعوام القليلة الماضية كي تعبر عن رأيها بحرية وجرأة غير مسبوقة بالأنظمة الحاكمة وفضح فسادها وتخلفها وعمالتها وارتهانها للخارج.
لقد ذاب الثلج وبان المرج.
ولم يعد بإمكان الحكام أن يغطوا عين الشمس بغربال، لم يعد بإمكانهم أن يكذبوا ويصوروا الأسود أبيض، والأبيض أسود، فراحوا يعترفون بالواقع المرير الذي تسببوا هم أنفسهم في صنعه.
لكننا نخشى أن تكون المزايدات على نبض الشارع والتقرب من الخطاب الشعبي مجرد خدعة لامتصاص النقمة، خاصة بعد أن انكشفت عورات الأنظمة العربية بشكل لم يسبق له مثيل بسبب الثورة المعلوماتية والإعلامية.
ويؤكد هذا الرأي الباحث والكاتب علي خليفة الكواري الذي يرى أن "حكام المنطقة العربية من حيث التكوين النفسي والقيمي وربما التطلعات العامة لا يختلفون كأشخاص عن بقية المواطنين. وهم يشعرون بالضغوط وربما الضيق كأفراد. وإذا أتيحت فرصة الجلوس مع أحدهم فإن السامع لا يجد فرقاً كبيراً بين كلامهم وما يمكن أن يقوله عن تردي الوضع العربي والإقليمي وتداعياتهما المستقبلية, ولكن ذلك الكلام ينطبق عليه القول السائر "أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أتعجب".
بعبارة أخرى فإن ما سمعناه من شكاوى لدى الحكام أنفسهم في قمة سرت ليس إلا مجاراة شكلية لرأي الشارع كنوع من تنفيس الاحتقانات المتراكمة في نفوس الشعوب العربية، لا أكثر ولا أقل.
إن الذي يعترف بهذا الكم الهائل من المشاكل والإخفاقات يجب أن يفعل شيئاً لحلها ومعالجتها، وأن لا يكتفي فقط باللطم والعويل، خاصة وأن أولئك الحكام، على عكس الشعوب المغلوبة على أمرها، يمتلكون أدوات الحل والربط والعلاج، فهم الذين يتحكمون بوسائل الإعلام، والثروات، والجيوش، وصنع القرار وبالتالي، بدل التذمر والشكوى عليهم التحرك إذا كانوا صادقين في شكواهم، لكنهم لن يتحركوا لأساب كثيرة، أولها أن دوائرهم الانتخابية ليست في بلدانهم لدى شعوبهم، بل في عواصم القرار الغربية مثل واشنطن ولندن وباريس، بعبارة أخرى، فهم مسؤولون أمام أسيادهم في الغرب وليس أمام الشعوب، ويجادل الكواري في هذا الصدد قائلاً:" إن علاقة الدول الغربية الكبرى مع دول المنطقة العربية, تقوم على أساس تفاهم مع الأنظمة الحاكمة ومقايضة ضمان استمرار حكم تلك الأنظمة وحماية السلطة المطلقة للحاكم مقابل أخذ الحكام "بنصيحة" القوى العظمى في الغرب والانسجام مع رؤيتها الإستراتيجية, في ظل الوجود العسكري والنفوذ الاقتصادي وإعطاء الأفضلية للمصالح الاقتصادية والتجارية للدول الأجنبية الحامية....وعلى من أراد الوصول للحكم بالوارثة أو من خارجها, أن يتفاهم مع القوى الحامية مباشرة أو من خلال حلفائها الإستراتيجيين، وأن يقوي علاقته بهم. وقد نتج عن هذا التفاهم والتحالف والحماية, استمرار حكم الأنظمة نفسها منذ عقود. ولذلك لم يتغير حاكم من حكام المنطقة بأي أسلوب كان, إلا بعد أن توافق الدول الحامية على تغييره وفقاً للأسلوب المناسب الذي تراه.
وجدير بالملاحظة هنا، حسب الكواري، أن دول الحماية اتخذت دائماً الموقف الداعم لحكومات المنطقة في مواجهاتها لحركات الإصلاح ومساعي التغيير السياسي وغطت سياسات حكومات المنطقة إعلاميا ودبلوماسياً إلى جانب القوة العسكرية, إن لزم الأمر.
وبناء على هذا التحليل، علينا أن نأخذ "صحوة ضمير" الحكام المفاجئة في مؤتمر القمة الأخير بكثير من الحذر، فلو كانوا فعلاً صادقين في تذمرهم من الوضع العربي المتردي لاستقالوا من مناصبهم، لأن خمسة بالمائة من الكوارث التي تسببوا بها لشعوبهم كفيلة بأن تطير أي حاكم في العالم من منصبه، لا بل أن تعرضه للمحاكمة كمجرم خطير من العيار الثقيل.
فعندما يعترف الحكام المنتخبون ديمقراطيا بأخطائهم فإن ذلك يكون عادة مقدمة أكيدة للتكفير عن الذنوب والتنحي عن السلطة، وهذا لن يفعله الحكام العرب أبداً، فكلنا يعرف أن الذين تسببوا في ضياع الأرض والهزيمة أمام الأعداء مثلاً ظلوا يحكمون حتى خطف عزرائيل أرواحهم، علماً بأن أي جنرال يحترم نفسه لا يستقيل فقط عندما يخسر المعركة، بل ربما ينتحر.
بقي أن نقول إن اللهجة السياسية الجديدة التي بدأ يتبناها الحكام العرب لن تنطلي على الشعوب. صحيح أنها طازجة من حيث الشكل.
أما في العمق، فلا طعم جديداً لها أبداً، فالعويل الرسمي الذي أتحفنا به قادتنا المنتخبون غربياً، والمزايدات على الشعوب العربية في جلد الذات ، ينطبق عليها المثل الشعبي الشهير: ضربني وبكى وسبقني واشتكى. وسلامتكم.