بقلم : د.فيصل القاسم ... 18.04.2010
كما تساءلت في مقالة سابقة: ما قيمة صروحنا الخرسانية العملاقة إذا فشلنا في إدارتها أو تركناها خاوية على عروشها ؟ ما قيمة المستشفيات العربية الهائلة إذا كان من يديرها أجانب؟ ما قيمة المولات ومراكز التسوق الضخمة في المدن العربية إذا كان من يتدبر أمرها غريب الوجه واليد واللسان؟ صحيح أن العولمة تفرض على دول العالم أن تفتح حدودها بحيث تتدفق الرساميل والخبرات ليصبح العالم قرية واحدة. لكن السواد الأعظم ممن يديرون مرافقنا ومراكزنا وأبراجنا هم ليسوا خبرات وطنية، مع العلم أن لدينا فائضاً مالياً هائلاً لا نستغله إلا في بناء الحجارة. أما إذا قلت لي إن لدينا العديد من الخبرات الوطنية التي تدير المستشفيات والمصالح الحيوية في الغرب، فأقول إن هذه بمثابة تهمة للحكومات العربية أكثر منها مفخرة. فحكوماتنا فشلت حتى في الاحتفاظ بمن برع في مجاله، فدفعت به إلى المنافي لتستفيد من خبراته الدول الأجنبية. بعبارة أخرى لم ننجح حتى في استثمار طاقاتنا البشرية الماهرة، فهاجرت.
ومن المثير للاستغراب أننا ماضون في المسار ذاته، ألا وهو الاستثمار في الحجر على حساب البشر, وكل من لا تعجبه طريقة إدارتنا لمواردنا البشرية والمالية فما عليه إلا أن يضرب رأسه بأقرب حائط خرساني من تلك الحيطان التي نفاخر ببنائها ليل نهار. إنها معادلة غاية في الغرابة، كما يجادل الدكتور أحمد البغدادي. فالدول العربية، وخاصة الغنية منها، "تجمع النقيضين: الأموال والبطالة! فالأموال تتكدس دون أن تجد لها مسارب تنموية, والبطالة بين الشباب آخذة في التزايد. وللأسف فإن دولنا عاجزة إلى اليوم عن حل هاتين المشكلتين. وفي مناخ اقتصادي متخم بالمال, وعجز عن تلبية اقتصاد السوق من ناحية الموارد البشرية من المواطنين, أصبح هذا الاقتصاد يحمل الكثير من العجائب. ومن هذه العجائب ما نقرؤه في إعلانات تجارة السيارات, أو شركة اتصالات, أو أي مناسبة اقتصادية, حيث يقوم وزير التجارة أو من يمثله بقص شريط افتتاح معرض للسيارات الفخمة أو طرح منتج جديد في السوق, في حين أن كل هذه البهرحة الإعلامية لا تتعدى كونها مجرد عملية تسويق لمنتجات غربية أو يابانية أو صينية. والشركة في هذه الحالة ليست سوى وكيل محلي يقوم بتسويق هذه المنتجات الغربية والآسيوية. ومع ذلك يشعر بالزهو والافتخار الكاذب. ويزيد الطين بلّة أن كل هذا النشاط الاقتصادي لا يمكن له أن يتحرك خطوة واحدة بدون العامل الأجنبي والمدير الأجنبي, في حين لا يحصل المواطن الذي يعاني من البطالة على أي فرصة عمل, ليس فقط بسبب عدم تأهله فنياً لمثل هذه المشروعات, بل لعدم رغبة التاجر في توظيف عمالة غير مهنية وبمرتب عالٍ, في حين يرضى الوافد بربع المرتب. والتاجر وإن كان محقاً في ذلك من الناحية الاقتصادية, إلا أنه غير محق في عدم مساهمته الفعالة لتدريب الكوادر الفنية الوطنية للحلول محل العمالة الوافدة. ولولا ما تقدمه الحكومات من أموال في صورة "دعم العمالة الوطنية" لمن يعمل في القطاع الخاص, لما وجد المواطنون سبيلاً للعمل في القطاع الخاص". ويتساءل الكثيرون أيضاً: "وماذا بعد بناء الأبراج وجمع الأموال؟ البرج تلو البرج، والأموال تتكدس بلا حساب, ثم ماذا؟ لا تعليم جيد، والبلاد العربية، وخاصة الغنية منها، غارقة في طوفان العمالة الوافدة, والفقر يتنامى، والأميّة تتصاعد، والكل يحلب "البقرة الحلوب" ولا ندري متى يجف الضرع؟.... والسؤال: إلى متى نسعى وراء المال والبنيان لا لتعمير الأوطان؟ والوطن لا يُبنى بالمال، بل بالرجال. وللأمانة, ما عادت المجتمعات العربية قادرة على صنع الرجال المؤهلين لحمل المسؤولية. ألا يشتكي معظم الناس من رداءة التعليم الحكومي؟ ألا نرى كيف تغص بلادنا بكل الجنسيات وكأننا "بابل" القديمة, لا لشيء سوى إخضاعهم لخدمتنا! نبني الأبراج وحرياتنا المدنية والسياسية في الحضيض. نقوم بتجميع الأموال ونكدسها لكي نبني أبراجاً أخرى. تمتلئ هذه الأبراج بالأجانب وشبابنا عاطل عن العمل يبحث عن وظيفة تحفظ كرامته!! لدينا المال, لكن هل لدينا خطط خمسية أو عشرية للمستقبل القريب؟"
ويضيف الدكتور بغدادي:" إن بناء الأبراج السكنية وتكديس الأموال بهذه الصورة ليس في صالحنا، ما لم نحسن استثمارها في التعليم وتطوير البنى التحتية وبناء اقتصاد قوي، وتحصين المجتمع بقوى عاملة ومهارات وطنية".
باختصار ليست العبرة أبداً في تشييد مدن ومجمعات هائلة ذات مواصفات هندسية وخدمية حديثة، بل في خلق جيل قادر على بناء الأوطان بعقله وقدراته الجسدية الوطنية لا بمهارات الخارج وعضلاته. ولنتذكر أن هناك مدينة كبرى في أفريقيا تم بناؤها بأفضل المواصفات، لكنها غدت مسكناً للطيور والفئران لأن الذين بنوها لم يفكروا كيف سيستثمرونها، ناهيك عن أنهم لم يفكروا بتأهيل الأشخاص الذي يمكن لهم إدارتها واستغلالها بالطريقة الأمثل.
لا أقول إن مدننا العربية الجميلة لن تجد من يسكنها، على العكس من ذلك، فإننا نتفوق على كل دول العالم في الإنجاب والتكاثر، لكننا نتخلف عن الجميع في مسألة التنمية البشرية، إلى حد أن لدينا أكثر من سبعين مليون أمي لا يعرف القراءة والكتابة، هذا في الوقت الذي أصبح تعريف الأمية في البلدان المتقدمة بعدم قدرة الشخص على استخدام الكومبيوتر والإبحار في الشبكة العنكبوتية حتى لو كان يملك خمس شهادات دكتوراه. كم أضحك وأنا أرى بعض المسؤولين في بعض الدول العربية الكبيرة والفقيرة وهم يتباهون بمدنهم السياحية الضخمة، بينما يعاني الكثير من شعبهم من عدم قدرته على فك الحرف.
تتباهى بعض الدول العربية الكبرى بعدد سكانها الهائل الذي يقترب من المائة مليون، مع العلم أن العدد الفعلي للسكان فيها لا يتجاوز الستة عشر مليوناً، وأعني بذلك العدد الفعلي أولئك الذين يحصلون على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والمدنية، أما بقية السكان فهم غير مشمولين بأي حقوق ولا تنمية، وبالتالي فهم بالنسبة للوطن أشبه بالزائدة الدودية بالنسبة للجسم.
كان الفيلسوف اليوناني برمنيديس يقول:"لإنسان معيار كل شيء". ليت عالمنا العربي يأخذ بهذه المقولة، التي قام عليها بناء النهضة العالمية الحديثة، والتي ليست فقط مقولة فلسفية، بل هي أيضا دليل عملي إلى واقع يحتل الإنسان مركزه، بوصفه المخلوق الوحيد الذي كرمه الله بالعيش على قيم معنوية، بينما يعيش غيره من المخلوقات على الأشياء والغرائز، وبعث إليه الأنبياء والرسل، وأوصاهم به خيراً، وكافأه بالخلود في الجنة.
هل يجوز أن يُعامل الإنسان وكأنه سقط متاع، يتساءل ميشيل كيلو. "وهل يحق لكل من مد شارعاً أو أقام بناء أو أشاد مطاراً اضطهاده والاعتداء عليه والتنكر لحقوقه؟ إذا كان صحيحاً أن التقدم هو أساسا تقدم البشر لا الحجر، ألا يكون تقدم الحجر في أوطاننا ستاراً يحجب تأخير الإنسان: ركن الحياة وعمود الوجود؟"