أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
مدن من حروف !!

بقلم : ريم عبيدات ... 04.03.2010

عبر العالم اللغوي لكل منا تعيش ذواتنا المفكرة والمعبرة غواية أبنيتنا المختلفة الكلمات والمعاني، وتتسلق التراكيب إلى أدمغتنا برشاقة ضارية لتبني حيلها وألعابها من خلال تشييد العالم الكبير الذي فيه نتشكل ونفكر . اللغة أكبر من أن تكون مجرد تراكيب وجمل، كلمات وحروف، فهي حياة داخل الحياة، صمت داخل الصمت، وضجيج أمهر من كل الضجيج . أصوات مركبة وعديدة داخل كل صوت . بناء يشمل كل التفاصيل والأبنية والأثاث، عبره نعيش، نتخيل، نتمدد، نكبر، ونواصل، وفيه نشعر بذواتنا المتنوعة والعصية في كثير من الأمور على فهمنا لحالة المدن والحواضر بل والعوالم التي إليها نركن ونصير .
ولكن هل اللغة قائدة أصيلة لفعل الحياة وصاحبة القول الفصل والمسير والمخطط لما نحن عليه ومن نكون وإلى أين نذهب، أم أنها لحن اختياري نعزفه وفقاً لخياراتنا المختلفة في هذه الحياة، ويمكن تحييده وتهميشه إلى وسيلة اتصال صماء، تقوم بواجبها أسوة بكافة الأدوات من حولنا .
أليست اللغة تتعدى كثيراً حاجز التراكيب والكلمات وأدوات التعبير اللفظية، لتمنحنا أيضاً المواقف والأحكام والأحاسيس والتي عبرها نستنتج أنها رائدة في تأثيرها في الحياة ككل، ومواقفنا العقلية والنفسية والاجتماعية كما والمهنية والموقفية .
فهل إذن نرث هذه اللغة وراثة وتناسلاً وامتداداً طبيعياً لذواتنا العائلية والعرقية كما لون البشرة والعينين، وشكل الشعر، أم نذهب ذهابنا لخيار راهن ورغبة وكينونة وبقاء ومستقبل .
لكثيرين من هؤلاء الذين جاؤوها حالمين مختارين، ولم يرثوها وراثة فروع شجرة الجينات، تشكلت علاقتهم وفقا لآليات عميقة من العشق والتلاقح والنشيد المستمر . واكتسبت إبداعاتهم أهميتها من ذلك الانسجام الرائع بين ذواتهم ومنتجاتهم الإبداعية . ورسمت مساحتهم الكبيرة على مشهد إبداعي عالمي حقيقي، فاللغة بوصفها خياراً تملك القدرة على الشموخ والتمظهر وبناء العوالم المتفردة لشخوصها ومجتمعاتهم من حولهم .
الروائي الجزائري الكثيف الإبداع واسيني الأعرج والذي تعلم لغات أوروبية عدة قبل العربية وعمل بها يصف علاقته بالعربية قائلاً:
“لم تأتني اللغة العربية على طبق من ذهب أو عن طريق التوريث العائلي، ولكني ذهبت نحوها وهذا فخري . وانتمائي إلى اللغة العربية ليس انتماء مغلقاً ومضيفاً في موقع آخر بأنها “لغة جميلة ولم يقتلها إلا أهلها من الذين يريدونها أن تكون مطلقة التقديس ومحنطة” .
وكأنه يقول إنه حين تصاغ العلاقة بيننا وبين لغتنا كعلاقة حب، تصبح أثيراً متقداً للإدهاش المتواصل، التي تخلقها حالة الفضول العقلي للتميز في العالم اللغويالمديد لكل منا،والذي يتوصل بعلاقتنا بكل المفاهيم المركبة التي تصوغ الوجود فينا ومن حولنا، كحالة الوعي والهوية والوطن والذاكرة والتاريخ .
تحدٍ كبير ذلك الذي تورثه الفكرة لقراراتنا في جعل اللغة خيار المستقبل الأجمل، فكيف يمكن إذن أن نحول علاقة أبنائنا بلغة يتبارون للهروب من تعلمها إلى خيارهم الأجمل الذي إليه يتوقون ويتفوقون وبه يختالون ويتميزون وفي إحساسهم بها يصيرون أجمل؟