بقلم : نقولا ناصر* ... 29.05.2010
لا يخلط منظمو أسطول الحرية لغزة ولا منظمو استقبالهم في القطاع المحاصر بين دولة الاحتلال الإسرائيلي كمسؤول أول وأخير عن احتلال القطاع وحصاره وفرض عقوبة جماعية على أهله وتحويله إلى أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم وبين الدور المصري التابع في هذا الحصار، والإذعان العربي له، والتواطؤ الدولي معه.
غير أن التحدي الرئيسي الذي يمثله هذا الأسطول للاحتلال والحصار ينطوي أيضا ـ ـ بحكم الأمر الواقع وكتحصيل حاصل ـ ـ على رسالة وتحد للموقف المصري وموقف منظمة التحرير الفلسطينية من الحصار، لأن الحصار ما كان لينجح دون دعم دولي وإقليمي وحتى فلسطيني له، كما قال د. أحمد يوسف المستشار السياسي لرئيس الوزراء إسماعيل هنية، مما يحول التبعية للحصار والإذعان له والتواطؤ معه إلى شركاء في الحصار من الناحية العملية.
لا بل إن منظمي الإرسال والاستقبال معا يحرصون على تلافي أي خلط كهذا حتى لا يشوش على الرسالة التي يحرصون على إيصالها إلى الرأي العام العالمي بمسؤولية الاحتلال ودولته عن تجويع أهل القطاع وقتلهم "اقتصاديا" بالموت البطيء بينما يجري استخدام "السلام الاقتصادي" لقتل طموح أشقائهم في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن إلى تقرير المصير والحرية والاستقلال الوطني.
لكن الحكومة المصرية، بدلا من احتواء الرسالة الفرعية غير المقصودة لأسطول الحرية لغزة عن طريق الاكتفاء بالتزام موقف "المتفرج"، وهذا أقل كثيرا من "أضعف الإيمان"، فإنها تتخبط فتزج بنفسها في معركة إعلامية وإنسانية لا ينبغي لها سياسيا أن تكون طرفا فيها ولا ينبغي لا إنسانيا ولا عربيا ولا إسلاميا ولا قانونيا أن تكون متفرجة عليها.
لقد رفض أسطول الحرية رفضا قاطعا عرضا رسميا من دولة الاحتلال باستقبال سفنه في ميناء أسدود وإدخال ما يحمله من مساعدات إنسانية ومتضامنين عبر معبر بيت حانون (إيرز)، لأن الموافقة على عرض كهذا تنسف رسالة منظميه من أساسها كونها تعني موافقة منهم على الحصار ونظامه. ولا يختلف عن هذا العرض إعلان الخارجية المصرية يوم الاثنين الماضي عن استعداد لاستقبال مماثل لسفن اسطول الحرية في ميناء العريش، أو ميناء بور سعيد للكبيرة منها، ثم إدخال ما تحمله عبر معبر رفح، إلا في كونه إجراء مماثلا لكن على الجانب المصري من الحصار ونظامه.
وإذا كان تصريح الناطق باسم الخارجية المصرية السفير حسام زكي بأن وزارته لم تتلق إخطارا رسميا من منظمي الأسطول برغبتهم في دخول القطاع عبر مصر هو في حد ذاته دليل على حرص منظميه على عدم زج مصر في معركة إنسانية هي أولا وأخيرا مع دولة الاحتلال، فإن التخبط المصري قد ظهر واضحا كذلك في نفي محافظ شمال سيناء اللواء محمد موافي لتقارير إخبارية نسبت إليه القول إن ميناء العريش مستعد لاستقبال أسطول الحرية، بينما ظهر واضحا أيضا الموقف المصري "المتفرج" بقوله إنه لم يعلن ترحيبه أو منعه دخول الأسطول عبر ميناء العريش، كون أي إعلان كهذا هو قرار سياسي للدولة خارج سلطته "التنفيذية".
وكان اللواء موافي دقيقا ومحقا، فالتبعية المصرية للحصار الإسرائيلي أو فك الارتباك المصري بهذا الحصار هو فعلا قرار سياسي سيادي مصري، وهذه قناعة فلسطينية رسمية وشعبية عامة تتجاوز الانقسام الفلسطيني الراهن لم تستطع تبديدها أو حتى إضعافها كل التفسيرات المصرية الرسمية لتسويغ الموقف المصري من الحصار، ولا استطاعت ذلك الذرائع التي تسوقها القاهرة لتسويغها، مثل استحقاقات معاهدة السلام المنفرد مع دولة الاحتلال، أو المعونات الأميركية المشروطة سياسيا لمصر، أو الالتزام المصري "بالشرعية الفلسطينية"، أو الالتزام بالاتفاق الخماسي المصري الإسرائيلي الفلسطيني الأوروبي الأميركي عام 2005 حول معبر رفح الذي تجاوزه الزمن ولم يكن أكثر من مجرد حلقة من حلقات تنظيم الحصار الإسرائيلي للقطاع.
وما زال المحاصرون يأملون ويناشدون أن تتخذ السيادة المصرية قرارها السياسي بهدم سور برلين الأميركي ـ الإسرائيلي الفاصل بين شعبي الأمة الواحدة على جانبي الحدود الوطنية بدلا من رفعه وتعميقه وفولذته وتطويله بحرا.
وإذا كانت مصر تجد مصلحة وطنية لها في استمرار إغلاق حدودها البرية مع القطاع، وهي منفذ القطاع العربي الوحيد إلى الحرية والحياة، وتسويغها ذلك بأن القطاع ما زال تحت الاحتلال، ردا على إدعاء دولة الاحتلال بأنها لم تعد القوة القائمة بالاحتلال في القطاع بعد إعادة نشر قواتها إلى خارجه عام 2005، فإن منفذ القطاع الآخر إلى الحرية والحياة هو المنفذ البحري، وهو ما يحاول المتضامنون الدوليون مع الشعب المحاصر فتحه الآن، ومصر لا تدعي أي سيادة لها على المياه الإقليمية الفلسطينية للقطاع، وبالتالي فإنها غير ملزمة فيها بأي من استحقاقات معاهدة صلحها المنفرد مع دولة الاحتلال، فلماذا لا تسهل كسر هذه الحلقة البحرية في الحصار المفروض على القطاع، بدلا من تعزيز إجراءاتها الأمنية منذ أوائل العام الحالي على امتداد الحدود البحرية المشتركة معه تعزيزا يعزز الحصار البحري عليه؟
تفتخر الدبلوماسية المصرية باحترامها للقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة، خصوصا على حدودها البرية مع فلسطين في القطاع، متحملة من أجل ذلك نقد شعبها نفسه قبل الانتقادات العربية والإسلامية وبخاصة الفلسطينية، لكن هذه الدبلوماسية لا تبدو الآن حريصة بالقدر نفسه على احترام حتى اتفاقيات أوسلو التي رعتها والتي منحت قطاع غزة مياها إقليمية لمسافة عشرين ميلا بحريا، لكنها قلصتها إلى (12) ميلا بحريا بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2002، ثم إلى (10) أميال في الشهر الرابع من عام 2006 وإلى (6) أميال في الشهر العاشر من السنة نفسها وبعد عدوانها الشامل على القطاع أوائل العام الماضي إلى ثلاثة أميال بحرية فقط، وهذه مساحة بالكاد توجد فيها أية أسماك، ناهيك عن تزاحم حوالي (700) زورق صيد مسجل في مياهها يعمل عليها حوالي ثلاثة آلاف صياد سمك فلسطيني يعيلون عددا مماثلا من الأسر التي تتكون من عشرات الالاف الذين قتل عدم احترام الاتفاقيات الموقعة صناعة الأسماك الفلسطينية التي يعتاشون منها.
ربما لا توجد سابقة في التاريخ المعاصر للوضع الراهن المفروض عدوانا وظلما على القطاع الفلسطيني المحاصر سوى معسكرات الاعتقال التي أقامها النازيون الألمان لمعارضيهم، بفارق أن الغاز الذي استخدمه النازيون كان ألمانيا صناعة واستعمالا بينما "الغازات السامة" التي قتلت (54) فلسطينيا أميركية "رشتها قوى الأمن المصري" على ذمة المنظمة العربية لحقوق الإنسان (1/5/2010). وإذا كان "من يلتزمون الصمت" على هذا العدوان "سوف يدفعون الثمن أمام التاريخ"، كما قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، فكم بالحري من يشاركون فيه، طوعا أو كرها.
إن المخرج من هذا المازق الأخلاقي والإنساني والقانوني والسياسي والإعلامي الذي تجد الحكومة المصرية نفسها فيه له منفذان: إما أن تمارس مصر سيادتها بفتح معابرها بصفة "دائمة" مع قطاع غزة، فتحول "الأنفاق" إلى جزء من التاريخ، وتستكمل هذه السيادة بتعديل معاهدة صلحها مع دولة الاحتلال، كما قال السفير رئيس المجموعة العربية في المجلس المصري للشؤون الخارجية إيهاب وهبة، أو بتسهيل فتح المنفذ البحري للقطاع إلى العالم الخارجي في الأقل بالاستنكاف عن أي مساهمة في استمرار إغلاق منفذ لا سيادة لها عليه لكن تنسيقها الأمني مع دولة الاحتلال يمنح الأخيرة سيادة أمنية على المياه الإقليمية الفلسطينية التي لم تدع دول الاحتلال سيادتها عليها بل اعتبرتها حسب الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير "منطقة لصيد الأسماك" و "منطقة نشاطات اقتصادية" فلسطينية بانتظار الاتفاق على وضعها النهائي.
إن أسطول الحرية لغزة ـ ـ بحكم الأمر الواقع وكتحصيل حاصل أيضا ـ ـ يوجه رسالة غير مباشرة إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي ما زال موقفها من حصار القطاع يوفر "شرعية فلسطينية" لموقف مصري ما كان ليتغير لو لم تتوفر له هذه الشرعية لأن أسبابه مصرية خالصة في المقام الأول.
في سنة 1988، وردا على قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي بإبعاد مئات من قادة الانتفاضة الأولى، وبعد أن أدان مجلس الأمن الدولي بالإجماع إبعادهم كانتهاك لميثاق جنيف الرابع، تشجعت منظمة التحرير فاستأجرت زورقا يونانيا غيرت اسمه إلى "العودة" بهدف الإبحار إلى حيفا وعلى متنه 135 مبعدا فلسطينيا ومئات الصحفيين قبل ان تتراجع المنظمة بعد أن اعتبر رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك اسحق شامير المحاولة بمثابة "إعلان حرب" وأمر وزير حربه اسحق رابين بمنع إبحاره "بكل الطرق" فاغتالوا مسؤولي المنظمة الثلاثة الذين نظموا رحلة "العودة" في ليماسول ثم فجروا زورقها.
والمفارقة أن رئيس المنظمة الحالي محمود عباس كان عضوا في قيادة المنظمة آنذاك، لكنه اليوم لا يكتفي بالامتناع عن أي تضامن من المنظمة وحكومتها مع المتضامنين الأجانب مع شعبه المحاصر في القطاع بل إنه لا يجد ضيرا في وصف سفن كسر الحصار بأنها "سخيفة ودعاية كاذبة ورخيصة ومزايدة لا أول لها ولا آخر"، بينما يدعو رئيس وزرائه د. سلام فياض إلى "رفع الحصار عن قطاع غزة فورا ودون شروط" في تعميم لم يستطع التغطية على إغفاله الإشارة المباشرة إلى دعم أسطول الحرية، في الأقل لفظيا، كما فعل عضو اللجنة المركزية في حركة فتح د. نبيل شعث الذي رحب "بهذه المبادرة" مؤكدا "رغبة فتح العمل بالوسائل السلمية، مع كل القوى المناصرة للحرية والعدالة في العالم، من أجل كسر الحصار الإجرامي الذي تفرضه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على شعبنا في غزة"، دون أن يترجم لا هو ولا فتح ولا المنظمة ولا حكومتها هذا الترحيب إلى مساهمة ملموسة في أسطول الحرية لغزة. وبإمكان المراقب أن يتوقع النتائج الإيجابية لأي مساهمة كهذه لو حدثت في تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية وخلق جو إيجابي قد يساهم في إنجاز المصالحة الوطنية، ناهيك عن توفير "شرعية فلسطينية" لتضامن دولي مع الشعب الفلسطيني المحاصر في وقت عز فيه التضامن العربي.