بقلم : د.خالد الحروب ... 02.06.2010
ثمة حقيقة مدهشة في لحظتنا الراهنة تشير إلى أن التنوع الإسلامي الطائفي والإثني والفكري والسياسي يزدهر ويتصالح مع نفسه (وربما رغما عنه) في الأنظمة السياسية العلمانية, بدرجات مختلفة. النظام العلماني من ناحية نظرية لا يقدم تفسيرا معينا للدين على تفسير آخر ويترك للجميع حرية الممارسة وفق ما يقتنعون به طالما يتم ذلك وفق القانون ومن دون الاعتداء على حرية الآخرين. الترجمة التطبيقية لهذه القناعة تأخذ أشكالاً متعددة. وفي الشكل الغربي لها, واستنادا إلى الإطار الحرياتي للعقائد, ورغم كل النقد المتوتر والمضخم تجاه وضع الجاليات الإسلامية في الغرب, فإن الغرب العلماني يتيح أفضل مكان في العالم يكفل تعايش الصيغ المختلفة للإسلام, ويحمي التنوع الإسلامي. في المجتمعات الغربية هناك مساجد للسنة بمذاهبهم والشيعة بمذاهبهم, هناك المسلمون المتدينون والمسلمون العلمانيون. هناك الحركات الصوفية وهناك الحركات السلفية, وهناك تيارات إسلام "السنة والجماعة", وهناك الإسماعيلية والأحمدية والبهائية, وهناك المسلمات المحجبات والمسلمات غير المحجبات. وهؤلاء جميعا يتساوون أمام القانون, ولا يستطيع أي منهم التحكم في رقبة الآخر كما يحدث في بلدانهم الأصلية. وهكذا تتبدى المفارقة المحزنة والمخجلة حقا في غياب "أرض إسلام" تتيح لهؤلاء جميعا أن يتعايشوا مع بعضهم البعض متساويي الحقوق والواجبات, ومن دون أن تحتل فئة منهم موقع السيطرة والصدارة على حساب الفئات الأخرى. هذا التنوع والتعايش يحدث في "أرض الحرب" وفي "بلاد الكفار", وليس في بلاد المسلمين.
مناسبة هذا الكلام تفاقم العنف الإسلامي- الإسلامي في بلاد مسلمة كثيرة, ينطلق من قاعدة رفض الآخر وعدم الاعتراف بوجوده أصلا. فقبل أيام هاجم مسلحون في مدينة لاهور الباكستانية مسجدين تابعين للطائفة الأحمدية وفتحوا النار على المصلين فيهما وقتلوا أكثر من 80 شخصا وجرحوا العشرات, والفاعلون كما ورد ينتمون إلى فئات سنية متطرفة. في العراق وكما نشاهد بحزن و"انتظام" يتوالى انفجار القنابل المفخخة بحسب البوصلة الطائفية. في بلدان إسلامية وعربية أخرى نشهد تنويعات من العنف الطائفي بين الفئات الإسلامية من اليمن, إلى الخليج, إلى نيجيريا, إلى اندونيسيا وماليزيا. أما في نطاق العلاقات اللا عنفية, لكن الإقصائية, فحدث ولا حرج في طول وعرض العالم الإسلامي. في الدول ذات الأغلبية السنية تعاني بقية الطوائف من الظلم والحرمان ويشعر أفرادها بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وفي الدول ذات الأغلبية الشيعية, إيران تحديدا والعراق ربما, تواجه بقية الطوائف نفس الظروف تلك. أحد مكامن الخطر تأتي من القوانين والتشريعات والدساتير التي تتبنى مذهبا محددا وتشير بوضوح إلى انحياز الدولة إلى تفسيرات هذا المذهب, ثم تذهب خطوات أبعد في عدم اعترافها ببعض المذاهب الأخرى, أو على الأقل التشكيك فيها (مثلاً, لا تعترف غالبية دساتير البلدان الإسلامية ببعض المذاهب المعينة وتعتبرها خارجة عن الإسلام, ودساتير أخرى تحدد مذهبا معينا بكونه مذهب الدولة).
يُضاف إلى التمييز الطائفي تمييز إثني وقبلي. بحيث تختلط أحجام الأكثرية والأقلية بالانتماءات الدينية, ويتقدم أو يتأخر موقع الفرد تبعا للتعريف والانتماء الإثني المشرعن بالصيغة المذهبية. وفي الحالات القصوى يتفاقم هذا التمييز الإثني سواء كان له علاقة بخلفية دينية أم لا إلى حدود حرمان الفرد من الجنسية وحمل جواز السفر, أو التمتع بحقوق مدنية معينة أسوة ببقية المواطنين. معنى ذلك أن الأفراد, المواطنين في هذه الدول, لا يتساوون أمام القانون إما بشكل معلن أو خفي. يحدث هذا ويترسخ في ظل سياقات وصياغات قانونية تزعم أنها تنبثق من إعلانات المواد الأولى للدساتير والتي تتباهى بأن الإسلام والشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع.
والشيء المقلق والمحزن في آن معا هو أن التشريعات القانونية التمييزية لا تثير انتباه أو انتقاد الغالبية, بل ثمة تواطؤ مشين قوبل بها. وإذا تأملنا في طروحات القوى والتيارات الرئيسة المسيطرة على الشارع في العالم العربي والإسلامي, وهي التيارات الإسلامية, فإننا لا نعثر إلا على ما يؤكد على التمييز القانوني ضد "الآخر المختلف" حتى داخل سياق التنوع الإسلامي. كل تيار من التيارات الإسلامية (الإخوانية, السلفية, التحريرية, القاعدية, الشيعية, الصوفية, الجهادية,...) يعتبر نفسه الممثل الشرعي الحقيقي والنقي للإسلام فيما بقية التيارات والأحزاب "منحرفة" عن الفهم الحقيقي للدين بهذه الدرجة أو تلك. معنى ذلك أن التمييز القائم حاليا في التشريعات والذي يميز مثلا بين السنة والشيعة أو يعلي رتبة مذهب سني على بقية المذاهب سوف تُُضاف له مستويات تمييزية أسوأ وأكثر خطرا. فحتى داخل مذهب سني واحد سوف ننتهي إلى خلافات حادة وربما دموية بين حركات وتفسيرات حركية للإسلام. يكفي التأمل في حدة العنف اللفظي التي تتضمنها بعض الفتاوى هذه الأيام, وصادرة عن مفتين لا يتبنون العنف. فعلى سبيل المثال وصف أحد كبار المفتين السعوديين علماء آخرين يخالفونه الرأي ولا يحرمون الاختلاط بأنهم "خونة لله ورسوله". إذا كان هؤلاء العلماء وعلى مكانتهم الدينية والافتراضية المتقدمة في تراتبية النظرة الدينية للمجتمع "خونة" لأنهم اختلفوا مع صاحبنا في قضية مدنية لا تتعلق بالكفر والإيمان, فكيف وأين سيكون موقع من هم أقل منهم دينا, أو أكثر اختلافا من ناحية مذهبية أو طائفية؟ وما هو "الحكم الشرعي" الذي يراه هذا "العالم الجليل" بشأن "خونة الله ورسوله"؟
لذلك كله يبدو من المشروع أن يتوقع كثيرون حروبا دينية وطائفية بشعة في حال نجحت معظم التيارات الإسلاموية في السيطرة على السياسة والحكم في بلدانها. ولئن كان في هذا مبالغة وتخوف غير مبرر, فإن الأدبيات والممارسات التي بين أيدينا غير مطمئنة. صحيح أن هناك عدداً, قليل مع الأسف, من المفكرين والمثقفين الإسلاميين الذي يحاولون تقديم صيغ تصالحية ومستنيرة. بيد أن تأثير هؤلاء في التيارات العريضة محدود جدا, وأصواتهم تضيع وسط جعجعة المتطرفين. والفكرة الأساسية التي تسيطر على تفكير وتنظير المتطرفين كما الغالبيات الإسلاموية وتنتقل أيضا إلى عموم الناس العاديين هي أن هناك شيئا ما اسمه "الإسلام الحقيقي النقي" الذي هو الحل والذي ما أن يُطبق حتى تنتهي كل المعضلات. وكل جماعة صغيرة أو كبيرة, وكل مفتٍ عميق أو ضحل في علمه يزعم أن ما ينطق به هو ذلك "الإسلام الحقيقي النقي". من زاوية تعددية وتنوعية ليس ثمة مشكلة في أن يدعي أطراف مختلفون في تعبيرهم عن فكرة واحدة والتنافس على شرعية تمثيلها. لكن المشكلة تكمن في الرغبة في إقصاء كل المتنافسين الآخرين ونزع كل الصفات عنهم, وكل الحقوق القانونية, والوصول في الحالات القصوى إلى شرعنة التخلص منهم جسديا فيما لو تمكن الطرف الذي يعاديهم من الوصول إلى السلطة.