بقلم : سهيل كيوان ... 17.06.2010
لسبب ما يختلف ذوقنا عن ذوقهم، يرون ما لا نرى ونرى ما لا يرون، يفرحون حيث نغضب ونفرح حيث يغضبون، ونادرا ما نلتقي في موقف موحد من فريق ما مثلما لا نلتقي بعشق شاعر أو قصيدة.
كثيرون منهم يحبون المنتخب الهولندي، ويقال إن هذا المنتخب ممتاز بالفعل ولكن لن تجد عندنا من يتعاطف معه، ومن يفعل فقد ارتد عن إجماع قومي اتخذ واستمر منذ عام 1974!
الإسرائيليون أيدوا المنتخب الهولندي بحماس عام 1974 وذلك مكافأة لموقف هولندا من الصراع الأصلي، يوم استخدم العرب سلاح النفط ، وهب الهولنديون لدعم وجمع التبرعات لإسرائيل خلال وبعد حرب أكتوبر، وهذا تجلى بإرسال المتطوعين إلى الكيبوتسات وتشجيع استعمال الدراجات الهوائية للتخفيف من فعالية سلاح النفط العربي! ولهذا كان عرب 48 منحازين لأي فريق ضد هولندا. والحمد لله لم يفوزوا بالكأس عام 1974 بفضل دعاء العرب وجهود الألماني باكنباور ورفاقه. ولكن الفرحة كانت أكبر من أن توصف عام 1990 عندما تعادل المنتخب المصري مع هولندا فخرجت مظاهرات البهجة وكأنها لحظات فك حصار طويل.
المنتخب الإنكليزي له أنصاره الكثيرون من الإسرائيليين، أما عندنا فأن تحب المنتخب الإنكليزي مثل أن تحب رجلا بينك وبينه دم وثأر قديم. ومهما حاولنا التحلي بالروح الرياضية فالدم ثقيل مهما تقادمت الجريمة،وستكون مفاجأة كبيرة لو رأيت عربيا عندنا يرفع علم بريطانيا ،وسوف ترتسم علامة دهشة وتعجب على وجوه الكثيرين. وقد وصف بعضهم اللقاء الأخير بين الإنكليز والأمريكان بالمثل الشعبي الذي يقول 'ناب الكلب بجلد الخنزير'. ولكنني شخصياً انحزت للأمريكيين ليس حبا بهم طبعاً بل اكتشفت عمق الكراهية المتأصلة فينا لخبث الإنكليز ولدغاتهم المميتة!
يفرح عرب 48 أكثر من غيرهم من العرب عندما يحقق فريق عربي إنجازا مثل إنجاز تونس عام 1978، وإنجاز السعودية عام 1994، وكانوا أكثر من شعر بالعار عندما سُحق الفريق السعودي أمام الألمان في مونديال 2002 لأنهم هم الذين يسمعون التعليقات الإسرائيلية اللاذعة لقدرات العرب، ولهذا تمنيت هذا الأسبوع على الألمان أن يسجلوا المزيد في شباك الأستراليين، ولم تشف غليلي الأهداف الأربعة، كنت أتمنى ثمانية أو أكثر، أولا لمحو عار الثمانية أهداف مقابل لا شيء في شباك السعودية، ثم عقابا للأستراليين التابعين لأمريكا بصورة عمياء!
هكذا كنا أكثر المبتهجين عندما دحرت إيران أمريكا عام 1998،طبعا لن تجد إسرائيليا واحدا أحب تلك النتيجة!
ولهذا اشتعلت سماء قرانا ومدننا العربية بالألعاب النارية وخرجت مسيرات تلقائية ملأت الشوارع لساعات تعبيراً عن الفرح لهزيمة أمريكا المعنوية..وصار اسم (علي دائي) على كل لسان! كذلك حظيت تركيا باحترام كبير عام 2002 ولكن لم تكن الصورة التركية واضحة بعد، ولو أن تركيا حققت هذا العام ما حققته قبل ثماني سنوات لرأيت سماءنا حمراء، ومن رأى شوارعنا قبل أقل من شهر أدرك ماذا أعني.
الجزائر في لعبتها الأولى في المونديال الحالي جعلت الكثيرين في حيرة من أمرهم وأحرجتهم وأحبطت مشاعرهم القومية! نحن متعطشون الى ما ينقصنا وهو الانتصارات، فالقصيدة الحماسية لا تغني عن نصر ولو بسيط!
كل العرب تواقون إلى نصر مخبوء في صدر كل واحد منهم، نصر يعوضهم شيئاً عن هزائمهم شبه اليومية وشعورهم المزمن بالظلم وغياب العدل الإجتماعي والسياسي بدءا من حرية الطعام والكلام في الوطن حتى القهر الكوني الشامل!
قد نحتفي بانتصارات لا تخصنا لا من قريب ولا من بعيد، ومع منتخبات ليس فيها ما يدغدغ مشاعرنا القومية كما فعل زين الدين زيدان عندما سحبنا من أنوفنا لننحاز إلى فرنسا!
هناك صلة خفية تربطنا بمن يشبهنا في تشريحه السياسي والاجتماعي، لو لعبت جنوب أفريقيا المتحررة من الأبرتهايد مثلا ضد الإنكليز أو الأمريكان أو الألمان أو الفرنسيين أو الطليان طبعا سيكون التحيز واضحاً لصالح شركائنا الخارجين للتو من مقلاة التمييز العنصري!
منذ الثمانينيات ومثل مئات ملايين البشر أحببنا من كان يسميه حماي (منادورا)، أحببنا مارادونا رمزا للإنسان المهمش المسحوق الذي بنى مجده ومجد بلاده الكروي بقوّته وجدارته وفنه فكان صرخة كونية ما زال صداها يتردد على أسطح منازلنا!
في لحظات من الصفاء أو الجنون أو التخاذل أحاول فصل كرة القدم عن السياسة،أن أكون موضوعياً، أن أنظر اليها كفن جميل فقط لأجل الفن! كرياضة تقرب القلوب، ولكن عبثا، لأكتشف انني مريض بأدلجة كل شيء، بدءاً من نوعية حذائي مروراً بمصدر الحلاوة الطحينية، حتى هذه اللعبة الجميلة، بل ويبدو لي أنها تفقد الكثير من سحرها إذا فصلت عن ثالث أكسيد السياسة!
كم يريحني أنني لم أر أي علم أمريكي أو بريطاني على سيارة أو سطح منزل عربي، ليس في قريتنا فقط، بل وفي كل المناطق العربية التي دخلتها في العقود الثلاثة الأخيرة!
لا بد من الإشارة الى أن الطليان حظوا باحترام خاص منذ مونديال حصار بيروت عندما أهدوا نصرهم الى منظمة التحرير الفلسطينية المجروحة، وما زال الكثيرون يتعاطفون معهم، ولكن بيرلسكوني وسياسته المنحازة لم تبق للصلح مطرحاً وأحرجت مؤيدي المنتخب الإيطالي.
ممكن ببساطة أن نقول إن عالمنا الكروي مواز لعالمنا السياسي، فهو منقسم بين مؤيدي الجلاد ومناصري الضحية أو المتعاطفين معها مع بعض الشواذ. فيما مضى كنا ننحاز تلقائياً الى ألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي، ولكن بعد انهيار الكتلة الإشتراكية لم يعد الأمر واضحاً، نشأت التباسات كثيرة يتلاعب بها أكثر من عامل واحد، وهذا مؤسف بالفعل، فهو يذهب بكثير من سحر هذه اللعبة. الشعوب السعيدة هي التي تشاهد كرة القدم بموضوعية وبمحبة بلا تحيز إلا لفريق بلدها أولا وبعد هذا لا تتحيز إلا للفن والأداء بعيدا عن السياسة وقذارتها التي أتلفت أذواقنا وحتى أخلاق بعضنا كما فعلت بين الجزائر ومصر!
بغياب الوضوح والحدود السياسية الفاصلة أنظر الى أسطح المنازل وأرى أن علم البرازيل هو الأكثر انتشارا! وهذا يعكس حبا قديماً وأصيلا لكرة القدم وللاعبي هذا المنتخب وفنيتهم، وحتى إلى عواطفهم تجاه اللعبة نفسها، وهو موقف نظيف من الأيديولوجيا، يليه علم الأرجنتين ثم الألماني فالطلياني،ولكن منعا لسوء الظن ترى إلى جانب كثير من هذه الأعلام عـــــلم الجزائر،كأن هؤلاء يقولون إن موقفنا وذوقنا وطموحنا الرياضي هو كذا ولكننا لم ولن نتخلى عن مشاعرنا القومية سواء هزم منتخــــب الجزائر أو ربح، فكريّات الدم الحمراء لا تتحول الى كريات قدم بيضاء وسوداء على الأقـــل في هذه المرحلة من التاريخ البشري، ولهذا ننــــتظر غــــداً وبقــــلوب وجلة لقاء الجزائر مع سوس البلاء...اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه..اللهم لا تشف الأعداء بنا يا قهار يا ستار...