بقلم : د. خالد الحروب ... 05.05.2010
الفصل الأول في كتاب "المشروع النهضوي العربي" الذي يؤسس لرؤية قومية جديدة وجماعية حول كيفية الخروج من المأزق التاريخي الذي يواجه العرب يحمل عنوان "في ضرورة النهضة". وفي هذا الفصل هناك توصيف لحالة "التراجع" العربي والسياق الإقليمي والعالمي للتدهور, وتحليل لواقع غياب أي "مشروع نهضوي معاصر" (مع الإشارة والإشادة بمشروعين للنهضة يتوقف عندهما النص هما مشروع محمد علي في القرن التاسع عشر ومشروع جمال عبد الناصر في النصف الثاني للقرن العشرين, وسوف نناقش هذا الاعتبار الخلافي لاحقا). ثم يحدد الفصل طبيعة المشروع النهضوي وأهدافه وشكل العلاقة بين عناصره. يبدأ الفصل بوصف الحالة العربية الراهنة على أنها "تراجع" في محاولة تخفيفية ولنفي الإحباط الذي قد يرافق أي توصيف قاس وحقيقي مثل أنه واقع "انحطاط" أو واقع "تخلف". هذه نقطة ثانوية قد لا تكون مهمة, لكن الذي يلح على الذهن هو التساؤل عن خط المرجعية حضاريا وزمنيا وربما مكانيا والذي يُقاس على أساسه "التراجع", تراجع عن ماذا؟
بيد أن أحد الموضوعات المهمة والكبرى والخلافية التي يتضمنها هذا الفصل وتعتبر أيضا فكرة أساسية في المشروع برمته هي اعتبار أن النهضة العربية في العصر الحديث شهدت محاولتين رئيسيتين, متساويتي الأهمية تقريبا كما يُقرأ من النص الذي بين أيدينا. المشروع الأول هو المحاولة التحديثية التي قام بها محمد علي, لكنها أجهضت بسبب التدخل الخارجي والشروط والديون الأوروبية التي فرضت على محمد علي وأجبرته في النهاية على التوقف عن محاولته تلك. أما المشروع النهضوي الثاني فيتمثل في المشروع الناصري وثورته التي, بحسب النص, "أحدثت مكتسباتها استنهاضا لا سابق له لكل قوى الأمة وطموحاتها التحررية والقومية". وهنا من المفهوم بطبيعة الحال أن يحتل المشروع الناصري في أي رؤية قومية عربية موقعا مركزيا ومتقدما. لكن ليس من المفهوم أن تُدرج الناصرية بكل خلافيتها في نص يروم تقديم "مشروع نهضوي عربي" يستلهم مقبولية التيارات السياسية والأيديولوجية الأساسية الأخرى في العالم العربي. وكما ذكرنا سابقا فإن ادعاء النص التعبير "الجماعي" عن تيارات ورؤى متناقضة قاد إلى تقديم رؤية توافقية, أو بالأحرى تلفيقية, حاولت أن ترضي الجميع بصيغ دبلوماسية فضفاضة. بيد أن تلك الدبلوماسية لا يمكن أن تستطيع التعمية على المنعطفات والمحددات الأساسية في المصائر السياسية والأيديولوجية, لذا يشكل إدراج المشروع الناصري كحقبة أساسية وثانية "للمشروع النهضوي العربي" اللحظة التي تفترق عندها كل التيارات الأخرى مع التيار القومي. فالتيار الإسلامي, خاصة الإخواني, الذي يغازله النص أحياناً, لكن يرتبك أمامه في أحايين أكثر, لن يقبل باعتبار الناصرية الإنجاز النهضوي العربي الوحيد في القرن العشرين, فكلاهما ناصب العداء للآخر عقودا طويلة. كما أن التيار الليبرالي, على ضعفه, لن يقر على الأغلب التقييم القومي في النظرة إلى المشروع الناصري وإعلائه إلى المستوى الذي يشير إليه النص, خاصة أن كثيرا من الليبراليين يحملون الناصرية مسؤولية مباشرة في وأد المرحلة الليبرالية على علاتها في مصر, ومسؤولية غير مباشرة في إغلاق الطريق أمام أي نهوض ليبرالي في المنطقة. بكلمة واحدة, من حق التيار القومي اعتبار ما يشاء وترسيم خطوط المستقبل لنضالاته بالكيفية التي يرتئيها. لكن ليس من حقه افتراض أن ذلك الترسيم مقبول من الجميع ويشكل أساسا لبناء "كتلة تاريخية" كما يأمل.
تستحق معالجة نص "المشروع النهضوي العربي" للإسلاميين ومشروعاتهم في المنطقة العربية وقفة مفصلة, فهي معالجة تتسم بالحيرة والارتباك. فهناك ابتداء هاجس التميز حيث يجتهد النص لرسم خطوط واضحة تعبر عن الموقف القومي, لكن هناك أيضا هاجس التجميع والتنظير لبناء "كتلة تاريخية" تكون الرافعة للمشروع. وفي نفس الوقت هناك الإرث التاريخي العدائي بين القومية العربية والإسلامية الإخوانية. إضافة إلى هذا وذاك هناك افتراض ضمني في النص وعند كاتبيه بأن الرؤية القومية هي الطريق الأساس وما خلاها لا يتعدى سوى وجهات نظر أو رؤى سوف, أو يجب, أن تصب في المسار والأهداف التي يرسمها القوميون. يتكشف ذلك في مواقع عديدة في النص, وخاصة عند الاضطرار للحديث أو التلميح عن الإسلاميين. ومن ذلك ما يرد في هذا الفصل من تسجيل للمقاومات السياسية والفكرية الكبرى التي ردت ورفضت السيطرة الغربية أو حالة الضعف العربي العام أو الهزيمة أمام إسرائيل. يورد النص أنه ردا على ذلك كله كانت هناك "ثلاثة ردود فكرية وسياسية نهضوية.. هي المشروع النهضوي في القرن التاسع عشر, والفكر القومي المعاصر بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي, ثم المشروع القومي الناصري في النصف الثاني من القرن نفسه". نلاحظ هنا أن النص أضاف مرحلة ثالثة للنهضة العربية ووسطها ما بين مشروع محمد علي ومشروع عبد الناصر, وهي حقبة الفكر القومي بين الثلاثينيات والخمسينيات. وهذه الإضافة محيرة لأنه لم يلحقها تفصيل, كما أنه لم يتم ترقيتها لتعتبر مشروعا موازيا للمشروعين المذكورين, وربما كان السبب في افتقادها إلى تعبير سياسي ومشروع على الأرض ينقلها من مجرد "النشاط الفكري" إلى التجسد السياسي. لكن لنقل إنه لم يكن المقصود هنا الإشارة إلى ما يمكن اعتباره "مشروع نهضة" بل أوسع من ذلك إلى ما يقع تحت وصف "رد الفعل الفكري والسياسي". وفي هذه الحالة, وهي على الأغلب ما قصده النص, ثمة مشكلة أخطر تبرز في وجوهنا وهي إقصاء ردود الفعل غير القومية من التحليل التاريخي للعقود قيد التأمل. أين رد الفعل الاشتراكي في بلدان مثل سوريا, والعراق, والجزائر, وحتى اليمن الجنوبي, وهو رد الفعل الذي حمل شعارات مناهضة للإمبريالية وأعلن الوقوف ضد الأطماع الخارجية. هل نفهم هنا أن الرؤية القومية لا تعتبر الفعل الاشتراكي وحقبته ومناطق تجسده غير جدير بأن ينتمي إلى أي فعل نهضوي أو أقله أن يُصنف كرد فعل فكري وسياسي على ما واجهه ويواجهه العالم العربي؟ الحذف الثاني هو رد الفعل الإسلامي الأصولي. فكما نلاحظ تتوقف ردود الفعل الفكرية والسياسية عند المشروع الناصري, ومعنى ذلك أنه منذ وفاة عبد الناصر سنة 1970 والعالم العربي ليس فيه ردة فعل فكرية وسياسية قوية وعلى الدرجة التي تؤهلها للاندراج إلى جانب ردات الفعل الثلاث المذكورة في النص. نعرف جميعا أنه منذ منتصف أو نهاية السبعينيات يسيطر المشروع الحركي الإسلاموي على جزء هام من الرأي العام والشارع العربي, إن لم نقل الجزء الأهم. وكان حريا بالتحليل القومي أن يذكر هذه الحقيقة الموضوعية حتى وإن اختلف معها. أما إن لم يعتبرها ردة فعل سياسية وفكرية نهضوية تقدمية فلنا أن نفهم أنه يعتبرها ردة فعل رجعية ولا تنتمي إلى النهضة, لكنه آثر أن يسكت عنها كليا ويترك الحقبة الزمنية من السبعينيات وحتى الآن تعاني من فراغ "ردات فعل", وهذا يشير إلى ارتباك في التحليل وعدم وضوح رؤية. ومرد هذا, مرة ثانية, إلى المداراة الفكرية والأيديولوجية التي تورط فيها نص "المشروع النهضوي العربي", فلا عاد يعبر بوضوح ومن دون مواربة عن رؤية قومية, ولا هو قدم مشروعا "جبهويا" تتساوى فيه التيارات والقوى السياسية والأيديولوجية ليس فيه أفضلية قيادية للرؤية القومية.
إمعانا في الحيرة والارتباك يتحدث النص أيضا عن ضرورة عدم اليأس وأن "قوى المقاومة الحية في الأمة ما زالت قادرة على صد موجات التراجع", ويشير إلى "انتفاضة الحجارة" في فلسطين في أواخر الثمانينيات, وإجبار "المقاومة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية على إخلاء قطاع غزة وتفكيك مستوطناته عام 2005", وإلحاق هزيمة بالكيان الصهيوني عام 2006 في جنوب لبنان, و"تمكن المقاومة العراقية من تعويق المشروع الأمريكي في العراق...". لكن النص يتفادى القول إن هذه "القوى الحية" هي عمليا القوى الإسلامية التي لا تتفق أيديولوجيا مع الرؤية المؤسسة لـ"المشروع النهضوي العربي". وفي كل الحالات المذكورة كانت مساهمة التيار القومي في "القوى الحية" متواضعة في أحسن الأحوال, وحتى لا نقول منعدمة.
يعمل فصل "في ضرورة النهضة" على وصف مظاهر التراجع العربي الذي يدفع إلى وجوب الاستنهاض. وهنا أيضا هناك تحليلات غير دقيقة. فمثلا يشير إلى مظهر تزايد وتائر الاستبداد والتسلط في النظم السياسية العربية, فيما يمكن القول إن هناك راهنا انفتاح نسبي في معظم البلدان العربية مقارنة بحقب وعقود ما قبل التسعينيات. كما أن تحليل السياق العالمي مقصور على حقبة الثمانينيات وما بعدها, ولا يحلل العقود التي سبقت وكان فيها التيار القومي وشعاراته الوحدوية هي الطاغية في الساحة. لكن هناك مقاربة عملية وموضوعية لمسألة العولمة نناقشها في المقالة القادمة.