بقلم : د.خالد الحروب ... 12.05.2010
يتعامل "المشروع النهضوي العربي" مع موضوع العولمة بشكل إيجابي وأكثر عمقا من قراءات كثيرة لكتاب قوميين نظروا للعولمة نظرة عدائية بحتة ولم يروا فيها سوى تحول من تحولات الإمبريالية الرأسمالية (مثل جلال أمين ومنير الحمش وكثيرين غيرهم). فهنا يقول النص: "وإذا كان صحيحا أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي, فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة, وسيكشف المستقبل المنظور أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى, ستنقل الإنسانية كلها إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي.. وأنها ستحدث آثارا إيجابية لم تكن متصورة لدى من صمموا عملية العولمة.. فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد, وبذلك يُعد منطقا متهافتا ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربتها". هذا النص, وبتجاوز التلميح التآمري التسطيحي لفكرة "تصميم العولمة", ينقل الرؤية القومية إلى أفق جديد أكثر رحابة في التعامل مع العولمة من ردود الفعل الأولية المتشنجة التي تورطت فيها نخب قومية وعربية كثيرة.
ويأتي تناول مسألة العولمة في إطار قراءة وتحليل السياق العالمي والإقليمي الذي حدث في قلبه التدهور العربي العام واستمر. وهو تحليل طغت عليه الآنية على حساب المنظور الإستراتيجي والتحليل السياسي للوضع الراهن الذي مازال قيد التشكل, إضافة لعدم توازن حجم الاهتمام المُعطى للحقب والعقود الزمنية. فالقارئ يتوقع تحليلا يجمل السياق العالمي والإقليمي منذ "تجربة النهضة الأولى" لمحمد على مرورا بـ"تجربة عبد الناصر في النهضة الثانية" وصولا إلى الوضع الراهن. لكن التحليل الذي يقدمه النص يمر سريعا على حقب زمنية واسعة, ليتوقف بإسهاب في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة الولايات المتحدة على السياسة العالمية وصولا إلى نزعة الهيمنة الإمبراطورية عند إدارة جورج بوش, ثم التغير الحاصل عند إدارة أوباما. لنتأمل مثلا هذا الاقتباس الذي يحلل للموقف الأمريكي بعد غزو العراق عام 2003 وغرقه في التوصيف الذي ما زال قابلا للتغيير, وربما التغيير الحاد: "... وبدا لوهلة أن الولايات المتحدة تشقّ طريقها بثبات نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي. غير أن المقاومة العراقية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الولايات المتحدة أوقفت تقدم المشروع الأمريكي، وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي إلى نموذج التعددية، فواصلت القوة الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس مصالحها الوطنية، بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك، عودة اليسار إلى السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية، عبر صناديق الاقتراع. وإذ رفعت هذه العودة العزلة عن كوبا وفنزويلا، أذنت بتحجيم النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية التي كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر شعوب وبلدان العالم الثالث، وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات العدوانية الأمريكية في العالم. ولا شك أن مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة في مطلع 2009، وخطابها السياسي التصالحي، وبعض مبادراتها تجاه بعض الخصوم، قد أفضى إلى تراجع التوتر في عدد من الساحات التي شهدت أقصى درجات العدوانية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن. ومع ذلك، فإن إمعان النظر يظهر أن المحصلة النهائية لهذه التطورات لم تمس جوهر السياسات الأمريكية، ناهيك عن التمسك بالتصعيد في أفغانستان، الأمر الذي يؤكد من جديد أن مفتاح التغيير إلى الأفضل بيد العرب وحدهم".
مشكلة الاعتماد على هذا التحليل انه يقوم على عناصر متحركة في السياسة وقابلة للتغيير والنقض والتناقض, وأن استبطانه كخلفية في صياغة رؤية مستقبلية بعيدة المدى تثير أسئلة كثيرة حول المنهج, فضلا عن غموض السيناريوهات التي ما زال العالم يقف على مفترق طرقها. فمثلا يرى النص كيف أذنت التحولات بكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر شعوب وبلدان العالم الثالث, وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات العدوانية الأمريكية في العالم. من وجهة نظر إستراتيجية هناك عدم دقة في هذا التوصيف. ففي حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتشار العولمة تحركت كتل بشرية هائلة باتجاه "الأمركة" من ناحية سياسية وثقافية وتموضع إستراتيجي, وأهم تلك الكتل الهند بمليارها السكاني. إضافة إلى التوسع الأمريكي السياسي والإستراتيجي في شرق أوروبا ثم في آسيا الوسطى وعلى الحدود الروسية. وهناك توسعات أخرى في إفريقيا تحدث على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي, في وسط وغرب القارة مثلا. أي أن حلقة "الأطباق الأمريكية" توسعت ولم تتحجم. كما أن صعود الصين وقوة روسيا بوتين قد توفر وقد لا توفر مساحات إضافية لقوى الممانعة للسياسة الأمريكية. فهذه القوى الكبرى لها مصالح عملاقة ليس بالضرورة أن تتناقض كليا في المنطقة العربية بما يوفر انشقاقات وتضارب يتيح فرص مناورة عربية أو حتى عالم ثالثية. المثل الأهم هنا هو الملف النووي الإيراني الذي تزداد مساحات التوافق الدولي (الأمريكي, الأوروبي, الصيني, الروسي) على نوع السياسة الجماعية التي يجب تبنيها. النقطة المهمة هنا هي أنه بغض النظر عن صوابية ودقة أي تحليل راهن فإن منهجية الاعتماد عليه تظل موضوع شك كبير بسبب طبيعة الظرف الدولي المتغير. فضلا عن ذلك هناك علامة تعجب إضافية هنا إزاء حقيقة عمق وطول النقاش الذي حظي به "المشروع النهضوي العربي" إذا أخذنا بالاعتبار الغلبة البارزة فيه لراهنية تحليل "السياق العالمي والإقليمي". فبحسب مقدمة المشروع نفهم أن النقاشات والحوارات التي رافقت صياغته تمتد إلى عشرين سنة تقريبا, حيث بدأت إرهاصاته في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. إذا كان الأمر كذلك كيف يمكن أن يتم التوسع في تحليل جله الأكبر متعلق بآخر عدة سنوات فقط, في حين أنه من المؤكد أن النقاشات في حقبة التسعينيات مثلا لم تكن تُستنفد في سياسات جورج بوش وبوتين وصعود الصين وحرب العراق الثانية, وسوى ذلك مما هو راهن حاليا؟
لكن بعيدا عن كل ذلك من المهم القول إن خلاصة تحليل السياق العالمي والإقليمي المحيط بالتدهور العربي كانت جريئة ومهمة إذ تقول: ".. الأمر الذي يؤكد من جديد أن التغيير إلى الأفضل هو بيد العرب وحدهم". بهذه الخلاصة في ربط عناصر البيئة الإقليمية والدولية بما يحدث وما يمكن إحداثه عربيا يقطع الفكر القومي ورؤيته للمستقبل مسافة مهمة إلى الأمام بتركيزه على العامل الداخلي وعدم انتظار التغيير من الخارج, وهي خلاصة كان بالإمكان بلورتها بشكل أكثر وضوحا وأكثر ترسخا, عوض الغرق في تحليلات سياسية قريبة من التحليلات الصحفية اليومية في التمهيد لها.