بقلم : نقولا ناصر ... 26.06.2010
للإجابة على التساؤل الذي يلح على كل مواطن فلسطيني حول الموقف الفلسطيني الراهن، ربما تفيد العودة إلى السؤال التالي الذي وجهه مراسل الوول ستريت جورنال الأميركية إلى رئيس "دولة فلسطين" ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية وحركة "فتح" محمود عباس في مقابلة معه في العاصمة الأردنية عمان في العشرين من شهر كانون الأول / ديسمبر العام الماضي: "طالما أنت لا تتفاوض على دولة فلسطينية، ما هي خطتك؟" فأجاب: "نحن الآن ننتظر ما يكون عليه الموقف الأميركي .. ونحن ننتظر لنرى ما سيتمخض عنه اجتماع (اللجنة الدولية) الرباعية". وما زال "الانتظار" هو عنوان موقف عباس وكل المؤسسات التي يقودها.
وغداة قمته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في الثامن والعشرين من الشهر الخامس من العام الماضي كرر عباس التأكيد على استراتيجية "الانتظار" هذه في مقابلة مع الواشنطن بوست، قائلا إنه سينتظر ضغط إدارة أوباما على رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو للقبول ب"حل الدولتين" علنا ولتجميد التوسع الاستيطاني لأن "الأميركيين هم قادة العالم"، مضيفا كذلك: "وأنا سوف أنتظر قبول حماس بالالتزامات الدولية".
ولم يتغير شيء لا في موقف دولة الاحتلال ولا في الموقف الأميركي ولا في موقف حماس ولا في موقف عباس الذي ما زال ينتظر في الوقت الحاضر ما ينقله إليه المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل، الذي التقى عباس يوم الجمعة قبل الماضي، من "أجوبة إسرائيلية" على أسئلة وجهتها قيادته إلى إدارة أوباما كما قال مؤخرا أحد كبار مفاوضيه، ياسر عبد ربه، الذي أضاف مستدركا بأن "إسرائيل لم تقدم شيئا" حتى الآن. وقد التقى عباس مع أوباما للمرة الثانية خلال سنة في منتصف الشهر الجاري وطرح الأسئلة نفسها وهو ما زال ينتظر أجوبة عليها لا يبدو أنها ستأتي في أي وقت قريب.
وبينما يريد عباس كل الأضواء مركزة على "رفضه" استئناف المفاوضات المباشرة، فإن العلاقات بينه وبين كل المؤسسات التي يقودها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي وحكومتها مستمرة، بل تتعزز. وربما يكون أبلغ وصف لهذه العلاقات ما قاله عباس نفسه للوول ستريت جورنال قبل حوالي ستة أشهر: "اليوم من الهام جدا أن نفهم بأن العلاقات بيننا وبين الإسرائيليين مستمرة مع كل أذرع الحكومة الإسرائيلية دون استثناء، الدفاع والأمن والمياه والصحة، مع كل الوزارات دون اسنثناء، الاتصالات مستمرة. والشيء الوحيد غير المستمر هو المفاوضات السياسية".
ووصف عباس نفسه "للتعاون" مع دولة الاحتلال يغني عن أي اقتباس آخر من منتقديه. فخلال زيارته الأخيرة لواشنطن العاصمة كان حريصا أثناء لقائه مع قادة المنظمات اليهودية والصهيونية الأميركية من الأطياف كافة على "إقناعهم" بصدق نواياه السلمية. ومما قاله لهم: "أستطيع أن أخبركم بوجود تعاون مطلق وكامل بين أجهزتنا وبين الأجهزة الإسرائيلية في مجال الأمن .. فأنا حريص على أمن إسرائيل، وأقولها بصراحة .. وكسلطة فلسطينية، وطوال ثلاث سنوات، لم يقع حادث واحد ضد إسرائيل في الضفة الغربية."
لكن نتيجة هذا الانتظار و"التعاون" لم تتغير، إذ "من الواضح أن هذه الاستراتيجية قد فشلت. ولم ينجح أي قدر من التعاون والسلبية والإذعان للجانب الآخر. فالوضع الفلسطيني اليوم أسوأ كثيرا مما كان عليه في سنة 1993، وتوجد حاجة لمقاربة مختلفة"، كما كتبت المعلقة الفلسطينية المغتربة غادة الكرمي في "الأهرام ويكلي" قبل سنتين تقريبا (24/1/2008).
وعباس نفسه أيضا يغني عن الاقتباس من منتقديه لوصف ما وصفته الكرمي بأنه "سلبية وإذعان". فقد أبلغ قادة المنظمات اليهودية والصهيونية الأميركية بأنه "لا أحد ينكر التاريخ اليهودي في الشرق الأوسط. إن ثلث القرآن الكريم يتحدث عن اليهود في الشرق الأوسط، في هذه المنطقة. ولا أحد من جانبنا في الأقل ينكر أن اليهود كانوا في فلسطين، كانوا في الشرق الأوسط." وهذا "التاريخ" هو ركن أساسي من أركان الرواية الصهيونية لإقناع الرأي العام العالمي بمسوغات اقتلاع عرب فلسطين من وطنهم التاريخي لإقامة دولة الاحتلال الاستيطاني اليهودي مكانهم فيه.
أما الركن الآخر في الرواية الصهيونية لتسويغ ذلك فهو "المحرقة" (الهولوكوست) النازية، ولم يهمله عباس إذ قال: "ربما قبل أربعة أو خمسة اشهر أرسلت سفيري في وارسو للمشاركة في ذكرى الهولوكوست، وأرسلت سفيري في موسكو للمشاركة في المناسبة نفسها."
ثم تابع ليطمئنهم أكثر بتبنى مطلب لهم ولدولتهم يمثل ركنا أساسيا ثالثا في استراتيجيتهم "السلمية"، وهو الاعتراف بدولتهم ومبادلة هذا الاعتراف بدولة فلسطينية على "22 في المئة من كل فلسطين. نحن نقبلها، لا مزيد من المطالب. لا مزيد. نهاية المطالب (الفلسطينية طبعا) .. نهاية الصراع"، وهو ما رفضه الراحل ياسر عرفات في قمة كامب ديفيد الثلاثية عام ألفين لأنه يترك حق العودة للاجئين الفلسطينيين معلقا في الهواء.
وبالمثل خاطب عباس الركن الرابع الأساسي في استراتيجيتهم "السلمية" الذي لا يكتفي بتجريد أي دويلة فلسطينية مأمولة من وسائل الدفاع عن نفسها سواء بالتسلح أم بأي شكل من أشكال الدفاع المشترك مع الدول العربية الشقيقة، ولا يكتفي بتجريد عرب فلسطين من حق المقاومة ووسائلها، بل يصر على اجتثاث أية افكار "مقاومة أو عربية" من عقولهم وثقافتهم الوطنية باسم "وقف التحريض">
لذلك أشاد عباس أمامهم ب"ثقافة السلام" السائدة في الضفة الغربية ـ ـ التي جعلت تقريرا تلفزيونيا يصف رام الله مؤخرا بأنها "عاصمة رقص الديسكو في الشرق الأوسط" ـ ـ فقال لهم: "يعيش الشعب الفلسطيني الآن في ثقافة جديدة في الضفة الغربية. اذهبوا الآن، اذهبوا إلى الضفة الغربية وقولوا للناس: دعونا نذهب إلى انتفاضة جديدة، فإنكم لن تجدوا شخصا واحدا (يذهب). لماذا؟ لأن ثقافة السلام انتشرت بينهم ... وهكذا انتقلت الثقافة من ثقافة عنف إلى ثقافة سلام". وكان عباس قد تعهد: "أنا لن أسمح بأي انتفاضة جديدة .. أبدا، أبدا"!
غير أنه بالرغم من كل هذا "التعاون والإذعان"، فإن الأجوبة التي ما زال عباس "ينتظرها"، كمكافأة، دون أن تأتي من واشنطن ردا على أسئلته، تأتيه أجوبة مناقضة لتوقعاته يوميا وميدانيا من دولة الاحتلال.
فعلى سبيل المثال، ما زالت "الدولة الفلسطينية" التي يعتبرها عباس الركن الأساسي الذي يسوغ استراتيجية "الانتظار" التي ينتهجها أملا في أن صحوة للمجتمع الدولي يستقوي بها على دولة الاحتلال تعتبر "نقيضا" لهذه الدولة، لأنه "كلما منحنا شرعية لدولة فلسطينية كلما جاءت هذه الشرعية اكثر على حسابنا" ولذلك فإن الدخول حتى في محادثات غير مباشرة مع عباس هو "تعامل مع عدو" ، كما قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عوزي آراد لمجلس محافظي الوكالة اليهودية الذي انعقد في القدس المحتلة يوم الأربعاء الماضي، ومع ذلك ما زال هذا "العدو الفلسطيني" ينشر "ثقافة السلام" بينما يستعد آراد ودولته للحرب على قدم وساق.
وكمثال آخر، أقر نتنياهو اقتراحا وافق عليه الخميس الماضي حوالي 2500 عضو في اللجنة المركزية لحزب الليكود الذي يقود الائتلاف الحاكم في دولة الاحتلال بوقف التجميد الجزئي والمؤقت للتوسع الاستيطاني في 26 أيلول / سبتمبر المقبل، اقتراحا "يعزز ويدعم المستوطنين في يهودا والسامرة. وتختار اللجنة المركزية استمرار البناء والتطوير في كل مناطق أرض إسرائيل، ومنها النقب والجليل والقدس الكبرى ويهودا والسامرة".
إن السلام الذي افتقده عرب فلسطين منذ بدء الغزوة الصهيونية لفلسطين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وبخاصة منذ النكبة عام 1948، هو فعلا حاجة ملحة لعرب فلسطين قد لا يوجد في العالم اليوم شعب آخر بحاجة ماسة لها كالشعب الفلسطيني.
لكن نشر "ثقافة السلام" كسلاح دفاعي وحيد، واعتماد "الانتظار" استراتيجية وحيدة، لمواجهة استراتيجية حربية خالصة وآلة حربية لا ترحم تسعى فقط إلى فرض الاستسلام على عرب فلسطين لا إلى السلام معهم، إنما يعد فقط بتصفية القضية الفلسطينية وشعبها.
وربما توجد عبرة ودلالة تاريخية في حقيقة أن أهم داعيتين للسلام والعنف معروفين في عالم اليوم، وهما المهاتما غاندي الهندي ومارتن لوثر كينغ الأميركي، قد قضيا ضحيتين للإرهاب الذي تحول إلى دولة في فلسطين. لذلك ربما يحتاج عباس إلى شعب آخر لكي يفهم قوله: "منذ سبعينات القرن العشرين الماضي، آمنت بالسلام، وعملت من أجل السلام، ومن أجل العلاقات والاتصالات بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين. وحتى الآن أنا مقتنع بأن السلام هو الخيار الوحيد".
وأمام هذا الإصرار، لا يبقى أمام عباس سوى أحد خيارين: إما تغيير شعبه ليصبح شعبا آخر، وهذا خيار مستحيل لأن القادة هم الذين يتغيرون عادة وتبقى الشعوب دائما، أو استبداله بشعب آخر وهذا ليس خيارا لعباس لكنه بالتأكيد خيار لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تتربص الفرص السانحة فقط لاستكمال اقتلاع ما تبقى من عرب فلسطين فوق تراب وطنهم!