أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
القدس وترف الكلام!!

بقلم : نقولا ناصر ... 28.06.2010

(**آن الأوان لكي يتوقف من قدم تنازلات في القدس عن التفاوض باسمها أو التفاوض عليها)
إن التهويد المتسارع المتفشي كالسرطان في القدس المحتلة يحاصر الوجود العربي والإسلامي والمسيحي فيها حصارا يكاد يحوله إلى مجرد وجود رمزي لا صلة له بالواقع المعاش، وهو وجود يسابق الزمن الآن لكي لا يتحول إلى مجرد صفحات مطوية من التاريخ الذي تكتبه اليوم منفردة دولة الاحتلال الإسرائيلي بالجرافات والحديد والاسمنت، بينما المنتسبون إلى بيت المقدس من العرب والمسلمين والمسيحيين غارقون في محيطات من أثير المعارك الهوائية التي تبثها محطات الإذاعة والتلفزيون وفي بحار من مداد الصحف في جدل بيزنطي حول من هو المسؤول عما آل إليه هذا الوجود، مع أن الجميع يدركون بأن الكلام والكلمات قد تحولت إلى ترف لا يقدم ولا يؤخر في تقرير مصير الهوية العربية الإسلامية لمدينة الأنبياء والسلام والمقدسات.
وعرب فلسطيين بخاصة منقسمون اليوم بين مؤيد وبين معارض للمفاوضات، ويغيب عنهم جميعا كما يبدو أن هذه المفاوضات تستمر كمجرد معركة كلامية لم تحسم شيئا على الأرض منذ انطلاقها وأن وظيفتها الوحيدة كانت حتى الآن توفير غطاء خادع من السلام الكاذب لعملية تهويدها، بقدر ما يغيب عنهم جميعا أن التأييد والمعارضة كليهما لهذه المفاوضات قد تحولا بدورهما إلى مجرد ممارسة لفظية، لا سند لها ميدانيا، لمعركة القدس التي لا يمكن أبدا حسمها بالكلمات.
لا بل إن الأدهى والأمر أن المفاوضين ومؤيديهم مصرون على تجريد أنفسهم طوعا من كل الأسباب المادية التي يمكن أن تسند موقفهم التفاوضي، وعلى خوض معاركهم السياسية فقط مع القوى العالمية والإقليمية والعربية التي يمكنها أن تعزز هذه الأسباب بالدعم الملموس، وهم يدركون أو لا يدركون ـ ـ لا فرق طالما النتيجة واحدة ـ ـ بأن أي اتفاق يتم التوصل إليه بالتفاوض لا يمكن إلا أن يكون انعكاسا لموازين القوى على الأرض، بينما يكتفي المعارضون والمقاومون لهم ولمفاوضاتهم بالمعارضة اللفظية كما يبدو عليه الحال اليوم.
ويتناسون جميعهم أن حسم معركة القدس كان وما زال هو رأس الحربة لحسم حرب المشروع الصهيوني في فلسطين وبيت المقدس وأكنافه. إن عرب فلسطين وأشقاؤهم بعامة المنشغلون اليوم بالانقسام الفلسطيني، والمنقسمون حول ما هو الترتيب الأسلم لجدول الأعمال الفلسطيني، وهل هو رفع الحصار عن قطاع غزة فالمصالحة الوطنية ثم الانتخابات، أم هو المصالحة فالانتخابات ثم العمل بيد واحدة من أجل رفع الحصار عن غزة، يتناسون أن حصار القدس سابق على حصار غزة وأقدم منه كثيرا، ويتجاهلون الحقيقة المرة بأن من واصل التفاوض بينما القدس محاصرة منذ عام 1993 لن يجد أي حرج في مواصلة التفاوض وغزة محاصرة، فغزة ليست أعز من القدس عليه.
ويتجاهل هؤلاء أيضا حقيقة أن معسكر "التفاوض فقط" في الانقسام الفلسطيني قد وافق على أن يكون مصير القدس "مؤجلا" كآخر بند في جدول الأعمال التفاوضي، مما منح الاحتلال مهلة زمنية طويلة لخلق حقائق مادية على الأرض في القدس فرضت نفسها كأمر واقع حتى على بعض مفاوضيه ممن وقع فعلا في مبادرات مثل "مبادرة جنيف" على تنازلات إقليمية في القدس تحت شعار "تبادل الأراضي" من أجل إثبات حسن نواياه السلمية، بقدر ما فرضت نفسها على "وسيط السلام" الأميركي الذي يراهن عليه هذا المفاوض لكي يتعهد رسميا لدولة الاحتلال الإسرائيلي بالاعتراف بالأمر الواقع الذي استجد في القدس بعد احتلالها عام 1967، أي الاعتراف بالمكاسب الإقليمية والتطهير العرقي ونقل السكان من القوة القائمة بالاحتلال إلى الأراضي المحتلة خلافا للقانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة.
وقد تحول هذا الأمر الواقع، مثله مثل الأمر الواقع الذي فرضه المشروع الصهيوني بتهويد غربي القدس قبل النكبة عام 1948، إلى مرجعية أساسية يوافق عليها الممثل الشرعي والوحيد المعترف به عالميا للشعب الفلسطيني، الذي يختار طوعا ومن جانب واحد اليوم التنازل ليس فقط عن القدس الغربية بل التنازل كذلك عن حقه حتى في التفاوض عليها، أو في الأقل حقه في التفاوض على حقوق عرب فلسطين فيها، في وقت تتجند المحاكم والحكومات الإسرائيلية لاسترجاع ممتلكات لليهود في شرقي القدس، لتتكرر تجربة معاهدة السلام الأردنية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تركت حقوق الأردنيين من أصل فلسطيني في الأرض والممتلكات معلقة في الهواء، فهذه حقوق فردية للاجئين الفلسطيينيين بغض النظر عن مواطنتهم أو جنسيهم التي يحملونها في المنافي والشتات وتمثل جزءا لا يتجزأ من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
وقد آن الأوان لكي تعود القدس إلى رأس جدول الأعمال السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي والمسيحي ، ولكي يتوقف أو يوقف من قدم تنازلات إقليمية وسياسية في القدس عن التفاوض باسمها أو التفاوض عليها.
وفي هذا السياق لا بد من التوقف عند مفارقتين، الأولى أن المفاوضات عادة تعقب الصراع وأن من يفاوض عادة هو من يقود الصراع لكن المفاوض الفلسطيني الحالي يعتمد التفاوض في حد ذاته شكلا وميدانا وحيدين لصراع لفظي يخوضه العدو الصهيوني بقوة السلاح أساسا.
والمفارقة الثانية أن هذا المفاوض الفلسطيني الذي قدم كل تلك التنازلات المجانية ما زال مسموحا له بمواصلة التفاوض بالرغم من أنه بات يتخلى حتى عن أوراقه التفاوضية اللفظية مع أن "خصمه" التفاوضي لا يتنازل سياسيا حتى عن مسمياته ومصطلحاته التوراتية في وقت يحرض فيه على سور وآيات قرآنية كريمة بقدر ما يحرض على بعض الكتاب المقدس المسيحي ناهيك عن أدبيات شكسبير الانكليزي ... ويلقى استجابة !
لقد أثيرت مؤخرا ضجة لحسن الحظ أنها لم تستمر طويلا لأن الصين رفضت إصدار بيان مشترك مع دول الجامعة العربية يعترف بالقدس "الشرقية" عاصمة للدولة الفلسطينية التي كانت الصين من أوائل الدول غير العربية وغير الإسلامية التي اعترفت بها قبل ان يصبح "حل الدولتين" عنوان الحل الدولي للقضية الفلسطينية بوقت طويل.
لكن من أثاروا هذه الضجة التزموا صمتا مريبا حيال الاتحاد الأوروبي الذي رفض اقتراحا مماثلا من السويد في كانون الأول / ديسمبر الماضي، ربما لأن أوروبا هي "المانح" الأكبر عالميا لتمويل التنازلات الوطنية للمفاوض الفلسطيني وتمويل استمرار الوضع الراهن للقضية الفلسطينية التي أصبح اسمها "قضية الشرق الأوسط".
لا بل إنهم ما زالوا يراهنون على الرئيس الأميركي باراك أوباما كوسيط للسلام وهو الذي مهد لانتخابه سيدا للبيت الأبيض بخطابه أمام أكبر جماعة ضغط صهيونية أميركية وأقواها نفوذا في صنع القرار الأميركي تجاه القدس وهي منظمة "إيباك" في مثل هذا الشهر من عام 2008 عندما تعهد قائلا: "دعوني أكون واضحا ... أي اتفاق مع الشعب الفلسطيني يجب أن يحافظ على هوية إسرائيل كدولة يهودية .. وسوف تظل القدس عاصمة لإسرائيل، ويجب أن تظل غير مقسمة".
فما الذي تغير في موقف أوباما من القدس بعد سنتين، وبعد أن أصبح رئيسا لبلاده، مما يسوغ استمرار الرهان عليه عربيا وفلسطينيا؟ ألم يكن هو من دفع الرئيس محمود عباس بعد أن تراجع عن وعوده له ليكون أول مسؤول فلسطيني من منظمة التحرير يعبر عن "خيبة أمله" في الإدارة الأميركية منذ راهنت المنظمة على الولايات المتحدة كوسيط للسلام؟ هل تراجع عن تعهدات سلفه جورج بوش الخطية لدولة الاحتلال الإسرائيلي بشأن "الحدود" والقدس واللاجئين والمستعمرات الاستيطانية "الكبرى"؟ أم تخلى أوباما عن تجديد "تأجيل" نقل السفارة الأميركية من تل الربيع (تل أبيب) إلى القدس مرة كل ستة اشهر كسيف مسلط على رأس المفاوض الفلسطيني؟
إن تبني الإدارات الأميركية المتعاقبة لفكرة أن تكون "الأحياء العربية" المحاصرة بالمستعمرات الاستيطانية اليهودية والتي تتقلص مساحتها يوميا "عاصمة" للدولة الفلسطينية المأمولة هو موقف قاصر عن الحد الأدنى للمفاوض الفلسطيني نفسه ناهيك عن كونه موقفا لفظيا لا احترام له عمليا في واشنطن ويندرج في باب ترف الكلام والكلمات الذي أدمنه كل المعنيين بالصراع العربي الإسرائيلي حول القدس باستثناء دولة الاحتلال، مما يثير التساؤل حول تصريحات مضللة في مبالغتها بالتفاؤل مثل تصريح رئيس وزراء سلطة الحكم الذاتي في رام الله د. سلام فياض الذي بشر مواطنيه في عيد سبت النور المسيحي الماضي بالاحتفال بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس في كنيسة القيامة العام المقبل.
وفي باب ترف الكلام تدخل تصريحات المفاوض الفلسطيني المتكررة بأنه ،مثلا، لن يكون هناك أي سلام طالما "القدس الشرقية" محتلة، فما الذي يجري إذن منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ثم منذ توقيع اتفاق أوسلو بعد عامين عندما بدأ حصار القدس وتم عزلها عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وبأن المفاوض، كمثال ثان، لن يوقع أي اتفاق لا يضمن أن تكون هي عاصمة الدولة الفلسطينية.
إن من يستمع إلى لغط الكلام هذا لا يجد تفسيرا له سوى كونه محاولة ساذجة لتضليل الجمهور الفلسطيني بخاصة في القدس نفسها لمنح المفاوض المزيد من الوقت الوطني الفلسطيني الثمين للاستمرار في لهاثه وراء سراب السلام الأميركي ـ الإسرائيلي، بينما تتسرب القدس منه كما الماء من بين الأصابع، وبينما يلعب في الملعب الإسرائيلي لعبة إسرائيلية خالصة، بقوانينها وجمهورها وحكمها وإن كان هذا الأخير يتلفع بالعلم الأميركي ذي النجوم، اسمها "عملية السلام"، دون أن يستنتج ما خلص إليه القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون، صاحب التقرير الذي يحمل اسمه عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة العام الماضي، عندما أبلغ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف بأن "إدارة أوباما ووسائل الإعلام الأميريكية وقيادات الكونغرس على حد سواء هي جزء من المشكلة ولذلك فإن أميركا لم تكن ولن تكون جزءا من الحل"، وبخاصة في القدس طبعا.

* كاتب عربي من فلسطين