بقلم : جلال الخوالدة ... 29.06.2010
في احدى الدول، غير العربية، كان هناك رئيس قسم في جهاز الإستخبارات (*)، مكلف بمتابعة الصحافة وشؤون الإعلام، وكان لديه في القسم، سبعة ضباط محترفين، وتصادف أن يصل عدد الكتاب المشاكسين، الذين لا يسيرون على النهج، ويكتبون حول الأخطار المحدقة بالوطن وعن أوضاع الناس، سبعة كتاب أيضا.قرر رئيس القسم، دنج رنج، أن يخصص لكل كاتب ضابط، يتولى متابعة مقالاته، ومحاولة إعادته إلى النهج المطلوب- حسب وجهة نظر رئيس القسم المذكور- وقرر الرئيس، أن يستخدم كل ضابط اسلوبا مغايرا مع الكاتب الذي يتولاه، وفي إجتماع طالت ساعاته، بدأت المهمة، التي صارت في شكلها الأخير تشبه المسابقة والتحدي.الكاتب الأول، لم يأخذ "غلوة" واحدة في يد الضابط الأول، صفعة واحدة فقط، مازالت آثارها على وجه الكاتب، جعلته يقسم بقبر أبيه، أن يكتب ما يمليه عليه الضابط، حتى لو كانت كلمات متاقطعة، الضابط حصل على الترقية والكاتب اليوم، تحول من كاتب مقال سياسي معارض، إلى كاتب للكلمات المتقاطعة، ويسمح له بعض الأحيان أن يعد مادة الأبراج.الكاتب الثاني، لم يُصفع، وحتى لو صفع فلن يثنيه ذلك عن عزمه، ما ثناه "وطعجه" ببساطة شديدة عرض مغر من الضابط الثاني، راتب شهري يصرف له ويوضع في حسابه أول كل شهر، جعلته يضع إسمه فقط على المقالات التي تأتيه جاهزة مكتوبة، مع أخطائها ( أخطاءها) اللغوية.
الكاتب الثالث، كان معروفا بشغفه للمناصب الحكومية، فقدم له الضابط هذا العرض على طبق من ذهب، وخلال مدة زمنية قليلة، تحول الكاتب من المعارضة الشديدة إلى الموالاة المطلقة، وحصل الضابط على الترقية وعلى ولاء المسؤول الجديد (الكاتب الثالث سابقا) والذي كان بالأمس متهما فأصبح مواليا ومسؤولا بلا مقدمات ولا خاتمة لحكايته.
الكاتب الرابع، لم يوقفه التهديد بالحبس ولا العروض المالية والمناصب الحكومية، ولكن الضابط المسؤول عن ملفه قرر محاصرته وإذلاله، والإستمتاع في تصفيته، فتحدث مع كل رؤساء التحرير، في تلك الدولة (غير) العربية، وراح يهددهم بشكل مباشر: أنه في حال نشر أي مقال لهذا الكاتب، سوف يكون عقابهم وخيما. خلال ايام ما عاد أحد ينشر له ، فكتب قليلا ولكنه شعر بالضيق أن أحدا لم ينشر له، فاستسلم في النهاية، وراح يبحث عن عمل آخر، فاستحق الضابط الترقية واستحق مكافأة خاصة على التوفير الذي حققه للقسم.
الكاتب الخامس، كان يحب النساء أكثر، وكان يكفي للضابط أن يسجل له شريط فيديو واحدا ويعرضه عليه، ويطلب منه بهدوء بالغ أن يكون عاقلا، وأن يستمر بحبه للنساء والعلمانية، مقابل أن يتحول للمقالات الثقافية، وأن يكتب عن هموم المثقفات في تلك الدولة، غير العربية، وفي وقت الفراغ يستطيع الحديث عن هيجل وروسو ونيتشه وافلاطون، وفعلا، حصل الضابط على الترقية والمكافأة، وها هو الكاتب قد تحول بيته إلى صالون ثقافي نسائي، وكل الصحف تتسابق على نشر مقالاته الممتلئة بأسرار المثقفات، ومغامرات زارادشت ومحمد عابد الجابري.
الكاتب السادس، وقع حظه مع ضابط ذكي ولماح، زاره في بيته، يوم التكليف بالمهمة، ومع تكرار الزيارات كسب مودته، كان الضابط عميقا ومثقفا وراح يحدث الكاتب عن المؤامرات على الحكومة، وأن الواجب يستلزم أن تتكاثف الجهود، وأن يتغير الإتجاه، وأن يدا واحدة لا تصفق، والموت مع الجماعة رحمة، وبلادي وإن جارت عليّ عزيزة.. الخ من الأمثال (غير) العربية التي تعمل بقوة في مثل هذه اللقاءات، وأنه قد حان الوقت لمحاصرة المتآمرين والمندسين والخونة، وكاسك كاسك، وإذا بالرجل يشعر بحكوميته ترتد إليه (!) وقرر أن يسير حسب النظرية التي تقول معاهم معاهم.. معاهم دائما، وكاسك كاسك يا حكومة، فأصبح المعارض من أشد المدافعين عن الحكومة في تلك الدولة (غير) العربية.
أما الكاتب السابع، فقد كان عنيدا جدا، فبعد أن صفعوه وسجنوه وضربوه، ظل يكتب، وحين هددوا رؤساء التحرير، قام بعمل مدونة وراح يرسل مقاله لعدد كبير من القراء عن طريق الإيميل ويدعوهم لقراءة مدونته ثم راح ينشر في "الفيس بوك" " و"القفا البوك" وتويتر وديلي شس، واللايف جورنال، وفي كل مكان، ولم يتبق سوى أن يذهب للقراء في بيوتهم فيقرأ المقال لمن لا يقرأ أو يضعه له من تحت عقب الباب، ويكتب بأسماء مستعارة ويسافر من بلد لبلد، ويقنع كتّاب آخرين بكتابة مواضيعه، وتسبب عناده الشديد هذا بفصل الضابط المسؤول عن ملفه.... حرام عليه بصراحة.
مؤخرا، زارني الكاتب السابع، وطلب مني كتابة ما حدث بالتفصيل، وحين إنتهى من قص هذه الحكاية العجيبة، سألته لماذا يصر على أن أكتب أنها دولة (غير) عربية، قال: "لأنها لن تُنشر"، قلت له: إذن لن أكتب، وسأغير مهنتي كالكاتب الرابع. فقال وقد شعر بتهديدي: (إذن سأقول لك الحقيقة، فعلا فهذه القصة لم تحدث في دولة عربية وأقسم لك على ذلك، فالعرب ديمقراطيين ملاعين فهم يسمحون بحرية الرأي لأغراض أخرى، كما أنه ليس هناك دولة عربية واحدة تجند الضباط – المشغولين بمواضيع أهم- من اجل زمرة من الكتّاب – الفاضيين والذين ليس لديهم ما يشغلهم-، العرب أذكى من هؤلاء كثيرا، والموضوع عندهم بالعكس، فهم يجندون الكتّاب ضد الضباط! ما رأيك...هل ستكتب المقال وتضع اسمك عليه؟، فكرت قليلا فأضاف بسرعة: لا أريد سوى إجابة على سؤال واحد يحيرني ويحيّر الناس: هل مهمة ضباط الإستخبارات حماية الحكومات أم حماية الوطن؟!؟