بقلم : رشاد أبو شاور ... 30.06.2010
ناجي العلي، وحنظلة، سيبحران إلى غزّة!
هذا ليس خبرا عاديّا، سيقوم من الموت من جديد ليؤدي دوره، وهو عودنا منذ اخترقت رصاصة مجرمة وجهه في لندن، بأنه يقوم من الموت، ويحرج قاتليه، ويتجدد بلوحاته، والولد حنظلة يمضي أمامه، فهو الدليل، وهو السند، في الرحلة إلى فلسطين.
من طرابلس إلى غزّة، ستمخر السفينة ناجي العلي البحر، ميممة صوب غزّة، فالرحلة معلنة، والهدف معلن، والأطفال هناك سينتظرون طفلاً مثلهم، شقي السمات، حاد تقاطيع الوجه، نظرته صارمة لا تتناسب مع عمر الطفولة والزهور. سيطل من فوق حيزوم السفينة، مرسلاً نظراته، متشوفا شاطئ غزّة، ولسان حاله يقول: ها أنا يا اخوتي قد جئت إليكم. سيقفز ليحتضنهم، ثمّ سيلتفت: وها عمّي ناجي العلي، بدمه وحبره وغضبه، ها هي سفينته، عليها مصورون صحافيون، وكتّاب، ولوحات عمكم ناجي، وهو كما ترون يضحك ضحكته التي اعتدت على سماعها كلما تفاقمت أوجاع رحلتنا، واشتدت مطاردتنا في بلاد العرب.
كان نذر أن يأتي إلى غزّة، ويرسم على جدران مخيّم الشاطئ. قال لي بعد (الرصاص المصبوب): سأعرفك يا حنظلة بالولد أحمد الذي يتكلّم كأنه ولد كبيرا، والذي وقف أمام الكاميرات منرفزا، محتجا، لائما، مُدينا، صائحا: هاي حياة هاي!
إنه شقيقك في الهم، والشقاء، والموت الذي يطاردكم كما طاردنا ولاحقنا، وأبعدنا عن (الشجرة)..الشجرة قريتي يا حنظله التي ولدت فيها، والتي استشهد على ثراها أستاذي الشاعر عبد الرحيم محمود: سأحمل روحي على راحتي ..أنت تعرف هذا النشيد يا حنظلة.
ستسري بنا السفن يا حنظلة إلى غزّة، سفينة مريم و..سفينتنا، ومريم هي جدتك أم عيسى: الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان..دائما كانت فلسطين أرض البكاء، والصلب، و..الموت القادم من وراء البحر. ماذا نفعل يا حنظلة، سوى أن لا نموت موتا نهائيّا يريح قتلتنا؟!
ما نفعله يا حنظلة أننا لا نموت تماما، نحن نفاجئهم بأننا نقوم من الموت، وهذا يحبطهم، ييئسهم، فيمعنون فينا موتا، ونمعن نحن قياما من الموت. هم مستعجلون دائما، ونحن ننهض فنباغتهم، و..الكلمة الأخيرة لنا: قيامة لا موت بعدها بسيوف، أو بطائرات، أو بصواريخ القتلة، أيّا كانوا، ومن أين جاءوا.
انظر يا حنظلة إلى من ظنّوا أنهم قتلوني. لقد ماتوا وشبعوا موتا، ونسيهم النسيان، واندثرت هيمنتهم، وباتوا كأنهم لم يكونوا. قالوا نقتله ونتخلّص منه ومن حنظلة..وها أنت ربّان سفينة، أكنت تحلم أن تكون قبطانا يا ولد؟! أدر وجهك صوبي لأرى ما يرتسم عليه. لا تقل لي أنك لست مسرورا، فها أنت تستفّز أساطيل من طردوا عمّك ناجي من قريته، بعد ستة عقود من الغربة والتشرّد والرحيل من بلد إلى بلد. هم رسموا الخطط لوأدنا وإهالة تراب النسيان علينا، ونحن رسمنا ما يمحو كل رسوماتهم ومخططاتهم. أنت مثلاً ولدت من شقوق مخيّم عين الحلوة. هذه طفرة عجيبة، معجزة المخيّم ..هذا ما أسميها به. اليوم هناك أولاد كثيرون يشبهونك في العالم. أنت مشهور جدّا يا ولد، ففي العالم كله لك مجسمات خشبيّة، ومعدنيّة، وصورك على الملابس مثل عمّك غيفارا. أنت شخصيّة عالميّة، ومن أمروا بقتلي عقابا على نقلك من شقوق المخيّم إلى العالم..اندثروا، وسيلاحقهم الخزي، واللعنات.
تعرف يا ولد يا حنظلة. مالك لا ترد، ولا تلتفت؟ أأنت قلق من زوارق القراصنة التي ستهاجمنا في البحر بعيدا عن العيون، والأسماع، مثلما فعلوا بالسفينة مرمره؟ لا..أنا أعرف أنك شجاع، ولكنك تركّز نظرك لأنك تريد أن ترى شاطئ غزّة، وترهف سمعك لتلتقط أذناك أغاني أصحابك، أحمد وجماعته، المشغولون في مونديال (الحريّة) لغزّة... العالم يلعب يا حنظلة، يتسلّى، ونحن نلعب ولكن لعبتنا دامية وجديّة، ونحن لن نرفع كأسا في نهاية اللعبة، بل سنرفع راية وطن يا حبيبي..جائزتنا وطن، وقيامة شعب، و..يقظة ملايين منوّمة، مغيّبة، مستخف بها..حُريّة يا حنظلة.
حنظلة..يا حنظلة، اكتشفت أمرا لا أدري إذا كان هناك من تنبّه له من محبيك، أو كارهيك، في هذا العالم. أنت منذ ولدت، بقيت كما أنت، بحجم جسدك، بملامح ظهرك، بـ..ماذا أقول؟ بشقاء ملامح طفولتك. أنت تحرّك ظهرك وكأنك تقول لي: ما الغريب في الأمر، أو لعلّك تقول أنا هكذا راض عن شعري الخشن، وتقاطيع وجهي الصارمة، و..فلو لم أولد هكذا، لصرت هكذا، فما نعيشه يجعل الحجر يصرخ، ويغضب، أو يصمت ويترك لتقاطيع وجهه أن تفصح عن غليان داخله، أنا لن أكبر إلاّ هناك..فهنا نحن نعيش كل ما هو غير طبيعي، غير عقلاني...
لا تزعل منّي..أتراك تحسبني عجوزا؟ أنا شكلي هكذا، ولدت مثلك، بعد أن تشردنا من (الشجرة) صرت مثلك..مع الوقت، سنة بعد سنة ..أنت يا حنظلة أنا، والفرق بيننا أنني كبرت (شوي)...أطلقوا على رأسي الرصاص..أنت لا يمكن أن يصطادك القنّاصة يا حنظلة، فأنت لست من لحم ودم وعضلات، أنت تعرف أنك شيء آخر، طفل لا يمكن اصطياده، أو قتله، أو زجّه في قفص وترويضه!
بشرفي يا حنظلة انك ..ماذا أقول؟
آ ..أنا أردت أن أقول لك: أنت لا تكبر..ستبقى صغيرا و..تتجلّى في أمكنة كثيرة في هذا العالم، فحيث يوجد شقاء ستظهر للأطفال هناك، ونظرتك الدائمة إلى الأمام، ستدلهم إلى أين يتطلعون، وماذا يفعلون.
حنظلة: هل أنت الخضر الأخضر؟ لا، أنت تبدو داكنا كأيامنا، كـ..غضبنا، ولكنك، وهذا سر من أسرارك، خارق للأمكنة، فكلما حاولوا حشرك في حدود، أو بلد، أو مطار، تفاجئهم بأنك نفذت، و..تجليت في مكان لا يخطر ببالهم، ولذا تراهم يضربون كفّا بكف: هذا الفلسطيني الشقي نفذ بريشه من جديد!
هذه المرّة، ستنفذ من جديد، فما أن أعلن عن سفينة مريم، وسفينتنا..حتى بدأت روحانا ترفّان على وجه الغمر.. إلى غزّة، فإن قتلونا، أو صلبونا..فسيشبّه لهم يا حنظلة!