بقلم : د.فيصل القاسم ... 06.06.2010
لو كانت إسرائيل تعلم أن العالم سيتذكر كل مجازرها وفظائعها لربما توقفت عن اقتراف المزيد منذ زمن بعيد، لكنها تعرف جيداً أنها قادرة على تكرار الجريمة تلو الأخرى دون أدنى عواقب بالرهان على نعمة النسيان أولاً، وثانياً بالاعتماد على أذرعها السياسية والإعلامية الرهيبة التي تصوغ الرأي العام في عواصم القرار في أوروبا وأميركا.
من منكم يتذكر ما حدث لقطاع غزة قبل مدة بسيطة جداً كي لا نغوص في تاريخ الإرهاب الصهيوني الممتد على مدى أكثر من نصف قرن؟ لقد قتلت إسرائيل مئات الأبرياء، وسوّت أجزاء من أراضي القطاع بالأرض، لا بل إن نيرانها وصلت إلى مراكز الأمم المتحدة ذاتها فدمرتها عن بكرة أبيها بحجة أنها تؤوي مقاتلين من حماس، ناهيك عن إغراق سماء القطاع بالدخان الفوسفوري الأبيض الرهيب الممنوع دولياً الذي أذى الزرع والضرع والحجر والبشر. وكلنا يعرف كيف تبخـّر تقرير "غولدستون" الشهير الذي ظن بعضنا وقتها من شدة احتفاء بعض الإعلام العربي به بأنه سيقضي على إسرائيل إلى غير رجعة. لكنه غدا عصفاً مأكولاً، ناهيك عن أن غزة تعيش حصاراً رهيباً بعد كل مآسيها التي سببها العدوان الإسرائيلي. وقبل العدوان على غزة كادت إسرائيل أن تحوّل أجزاء من لبنان إلى أكياس من الرمل كما توّعد أحد خاماتها. وقبل مدة اغتالت المخابرات الإسرائيلية أحد قادة حركة حماس في دبي، فتم فضحها بالصوت والصورة، لكن ماذا بعد، فالذي ضرب ضرب، والذي هرب هرب، كما يقول المثل الشعبي. وها هي الآن تقتل العديد من نشطاء "أسطول الحرية" الذين كانوا يحاولون كسر الحصار المفروض على غزة. صحيح أن وقوع قتلى أتراك في الحادث الأخير ربما يوّسع دائرة الغضب من إسرائيل، لكنه سيطويه النسيان في القريب العاجل، كما طوى قبله جرائم إسرائيلية أكبر وأخطر بكثير، وستعود حليمة إلى عادتها القديمة بأسرع مما نتصور.
وإذا فشل النسيان في محو الجرائم الإسرائيلية من الذاكرة العالمية، فإن آلة الدعاية الصهيونية الرهيبة تتكفل في طمس ما تبقى منها بلمح البصر. المتابع للإعلام العربي ربما يعتقد هذه الأيام أن العالم أجمع يشتعل غضباً من إسرائيل. لكن الصورة ليست بهذا الشكل أبداً. فالإعلام العربي يبقى عربي التأثير حتى لو وصل إلى أقاصي الدنيا. ناهيك عن أن إعلامنا يعمل وللأسف بمبدأ "وعظ المؤمنين أصلاً". أي أنه يخاطب جمهوراً لا يساوره أدنى شك حول همجية إسرائيل وفاشيتها الرهيبة. بعبارة أخرى فجمهورنا ليس بحاجة لمزيد من الشحن والتحريض ضد إسرائيل لأنه تربى منذ نعومة أظفاره على كره الكيان الغاصب. وبالتالي من الخطأ الفادح الاعتقاد أن العالم كله بات يناصب تل أبيب العداء، ويريد الانتقام منها. هذا غير صحيح بالمطلق. فالجريمة الإسرائيلية لم تحظ بنفس الأهمية الإخبارية في الدول الغربية التي يحسب لرأيها العام حساباً. فالصورة هناك تـُـقدم بطريقة تجعل الملايين من أبناء تلك البلدان يباركون الجريمة الإسرائيلية بحق نشطاء "أسطول الحرية"، هذا إذا لم يظهر أولئك النشطاء في إعلام أميركا وأوروبا على أنهم ثلة من "الإرهابيين" الذين اخترقوا المياه الإقليمية الإسرائيلية لإيصال الزاد "لإرهابيي" غزة. فعندما تسمع نائب الرئيس الأميركي بايدن وهو يبارك التصرف الإسرائيلي الهمجي بحق قوافل الإغاثة يجب أن ندرك فوراً بأن رأي بايدن هو رأي الأغلبية العظمى من الأميركيين والأوربيين إزاء حادث "أسطول الحرية". وبالتالي فإن الإسرائيليين يدركون جيداً أن كل هذه "الهيصة" غير الأميركية والأوروبية حول تعرضهم لقافلة الحرية مجرد هواء ساخن لا أكثر ولا أقل كي لا نقول كلاماً أكثر سخرية.
إذا كانت هناك بضعة مواقع إلكترونية ومجموعة من الفضائيات تحاول فضح التصرف الإسرائيلي الأخير، فإن إسرائيل محمية بأكثر من اثنين وعشرين ألف موقع إلكتروني تعمل دون كلل أو ملل بطريقة إعلامية غاية في المكر والدهاء لإبقاء صورة الدولة العبرية بيضاء في أعين الملايين إن لم نقل المليارات من البشر، ناهيك عن أن أهم الصحف في الغرب في الجيب الإسرائيلي، بالإضافة طبعاً إلى مئات القنوات الأرضية والفضائية الجبارة التي ما زالت تقدم إسرائيل منذ احتلالها لفلسطين على أنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
قد يجادل البعض بأن الصورة أعلاه ليست بتلك القتامة التي قدمتها، فالرأي العام الأوربي قد تغير إلى حد كبير، وأيضاً الرأي العام الأميركي ولو بدرجة أقل فيما يخص نظرته لإسرائيل. وهذا أيضاً صحيح. ولا يسعنا هنا إلا أن نشد على أيدي المتضامنين الأوروبيين مع قضايانا، هذا فضلاً عن أن الغالبية العظمى من الشارع الأوروبي باتت تعتقد أن إسرائيل هي أكبر خطر على السلام العالمي كما أوضح استفتاء أجراه الاتحاد الأوروبي قبل سنوات. لكن السؤال المطروح، ما قيمة رأي السواد الأعظم من الأوروبيين؟ هل تغيرت التصرفات الإسرائيلية بعد ذلك الاستفتاء الأوروبي القنبلة الذي فضح الكيان الصهيوني؟ بالطبع لا. ناهيك عن أن قادة أوروبا وإعلامها الموجه صهيونياً استطاع أن يدفن نتائج ذلك الاستفتاء بسرعة البرق لحماية إسرائيل من أية عواقب شعبية. وأتذكر أن رئيس الاتحاد الأوروبي وقتها عمل المستحيل كي يحوّل الأنظار بعيداً عن ذلك الاستفتاء، هذا إذا لم تكن الجهة التي قامت بالاستفتاء قد ذهبت في ستين ألف داهية على فعلتها الشنيعة طبعاً على أيدي اللوبيات الصهيونية الرهيبة في الغرب.
نحن نبالغ كثيراً في أهمية الرأي العام الغربي دون أن ندري أنه يبقى بلا قيمة تـُذكر عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإسرائيل تحمي نفسها من خلال أذرعها الاقتصادية والسياسية والإعلامية الجبارة داخل أوروبا وأميركا، وبذلك تبقى مواقف الشعوب الغربية التي نراهن عليها مجرد هراء. أما الشعوب الغربية نفسها فهي ليست أكثر من قطيع "غوييم" حسب التوصيف الصهيوني لها تـُقاد في الاتجاه الذي تريده إسرائيل.
وكي لا يشعر بعض العرب بالنشوة جراء هذا الصراخ التركي ضد إسرائيل أو جراء استدعاء بعض الدول سفراءها من الدولة العبرية أو حتى قطع علاقاتها مع تل أبيب احتجاجاً على قتل بعض نشطاء "أسطول الحرية"، أود أن أذكــّر بأن عشرات الدول قطعت علاقاتها مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر. وقد كان الموقف العالمي من إسرائيل وقتها في صالحنا أكثر من الآن بعشرات المرات، لكن إسرائيل استطاعت خلال سنوات قليلة استعادة زمام المبادرة، بينما بددنا نحن العرب فرصاً ذهبية للنيل من عدوتنا الأولى.
لهذا يجب ألا نشعر الآن بالانتصار لمجرد أن نيكاراغوا قطعت علاقاتها مع إسرائيل أو لأن جنوب إفريقيا استدعت السفير الإسرائيلي. إنه، وللأسف، مجرد جعجعة صوتية أيها السادة. إياكم أن تظنوا أن وضع إسرائيل الآن مع العالم كوضع نظام "الأبارتايد" العنصري في جنوب إفريقيا قبيل انهياره. فشرفاء العالم الآن لا يواجهون إسرائيل بل حماتها وأربابها، وأعني بذلك أميركا وأوروبا، وميزان القوى يبقى مختلاً بشكل رهيب لصالح الدولة العبرية وداعميها. لقد قالتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بالفم المليان إن من حق إسرائيل أن تفعل ما تريد، وما على العالم إلا أن يضبط ردود فعله على التصرفات الإسرائيلية.
ليس بالهواء الساخن تـُردع إسرائيل!
لا يفلّ الحديد إلا الحديد!
حتى ذلك الحين، تصبحون على مزيد من الإرهاب الإسرائيلي!