بقلم : د. فيصل القاسم ... 13.06.2010
كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان محقاً ومصيباً تماماً عندما قال غاضباً بعد مشادته الشهيرة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس قبل الأخير: "أنا لست شيخ قبيلة، وإنما رئيس دولة اسمها تركيا". ولولا الإحراج لربما استطرد أردوغان قائلاً: "إياك يا إسرائيل أن تظني أنني زعيم عربي يتسلح بقبيلته أو عشيرته أو بطائفته أو بمذهبه أو بحزب عائلته وما شابه من أنظمة هزيلة وبائسة، لا أبداً، فأنا زعيم أمة لم أصل إلى سدة الحكم فيها لا على ظهر دبابة محلية أو أجنبية أو عبر الاستيلاء على محطة الإذاعة والتليفزيون، أو عن طريقة بيعة عربان أو عشائر مغلقة، أو عن طريق فبركة نتائج الانتخابات أو الاستفتاءات قبل سنة من إجرائها، ولا عن طريق السمسرة للقوى الكبرى، ولا عبر رهن البلاد والعباد لأميركا وإسرائيل كي تحمياني وتبقياني على كرسي الحكم. لا أبداً، فأنا زعيم جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع وبمباركة السواد الأعظم من الشعب التركي". بعبارة أخرى، فأردوغان لا يحتمي لا بقبيلة ولا بعشيرة ولا بطائفة ولا بعصابة ولا بمافيا ولا بأجهزة أمن باطشة وغشيمة ولا بأحذية عسكرية ثقيلة ولا بمنطقة "مقدسة" ولا بجهة محددة، كما يفعل معظم الحكام العرب، بل يحتمي بشعب عظيم، مثله في ذلك مثل كل الزعماء المنتخبين الكبار القادرين على رفع أصواتهم عالياً في وجه قوى الغطرسة والتجبر.
لقد كانت عبارة أردوغان رسالة صريحة جداً لكل الحكام العرب. فشجاعة تركيا التي تذهل العرب شعوباً وحكاماً منذ خروج أردوغان غاضباً من مؤتمر دافوس حتى تصريحاته النارية بعد الاعتداء الإسرائيلي على "أسطول الحرية" مستمدة من شعبها بالدرجة الأولى، فهو الذي يحمي أردوغان، ويمده بأسباب القوة والتحدي الحقيقي لا الشعاراتي. وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس الإيراني، فهو، كأردوغان، يحكم بأصوات شعبه لا نيابة عن عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو عصابة كما هو الحال بالنسبة لبني يعرب.
قد يقول البعض إن قوة تركيا التي يتسلح بها أردوغان تنبع من حجم البلاد، وهذا ليس صحيحاً أبداً. صحيح أن تركيا بلد كبير من الناحية الجغرافية، وعدد سكانه ضخم، وقوي اقتصادياً. لكن هناك بلدانا عربية بحجم تركيا وأكبر ديموغرافياً وجغرافياً، لكنها تتصرف كالأجير الذليل في تعاملها مع القوى العظمى والصغرى. فبينما "يشمخ المثال التركي حراً مستقلاً وطنياً، يقفز المثال العربي حقيراً وضيعاً تابعاً، يصيح كاتب سعودي، فيتعجب العاقل، ويحق له العجب، كيف حوّل شخص مثل أردوغان والفريق الذي معه، تركيا إلى دولة عظيمة يهابها الذين يمسكون بخناق أعظم أمم الأرض، بينما قزّم زعماء عرب بلادهم التي كانت دائما في قلب التحولات التاريخية الكبرى، إلى مجرد خفير حقير للصهاينة والأمريكان". لماذا؟ لأن حكوماتنا في أغلبها لا تمثل شعبها، فمعظمها منتخب إسرائيلياً وأميركياً وليس شعبياً. بعبارة أخرى فإن دائرتها الانتخابية إما في البيت الأبيض أو في تل أبيب أو في لندن وباريس، لهذا فهي مضطرة لأن تخدم ناخبيها الخارجيين وليس شعبها، وأن ترهن بلادها وعبادها لرعاتها للبقاء على عروشها، وبالتالي فهي ستبقى رهينة الإملاءات والطلبات الخارجية مهما بلغ فجورها. وقد ذكرت صحيفة "تورونتوستار" الكندية قبل أيام بأن فريقاً من كبار ضباط وكالة الاستخبارات الأميركية يعسكرون هذه الأيام في بلد عربي لاختيار خليفة للحاكم هناك. وتوقعت الصحيفة أن يقع الاختيار على ضابط كبير هواه أميركي، وسهل الانقياد. والأيام بيننا.
وأرجوكم أيضاً ألا تتعللوا بقوة تركيا الاقتصادية. صحيح أن تركيا غدت واحدة من أقوى عشر قوى اقتصادية في العالم، لكن البلدان العربية المشابهة لها في الحجم كان بإمكانها أيضاً أن تصبح مثلها وأقوى لولا أنها بددت ثروات البلاد ووضعتها في أيدي حفنة من الأبناء والأقارب والمحاسيب والسماسرة، ورهنتها لصندوق النقد الدولي، فبدلاً من أن تحقق البلاد معدل تنمية مرتفعاً راحت تأكل من لحمها وتعتاش على الهبات الأميركية المذلة. بعبارة أخرى، ليست العبرة في الحجم، فمن الممكن أن يكون هناك بلد ضخم بشرياً وجغرافياً لكن حاكمه يقوده بالتواطؤ مع رعاته الأجانب كما لو كان عزبته الخاصة، فيصبح فيلاً أبيض لا حول ولا قوة له، وهو ما لا يفعله أردوغان وأمثاله.
إن عبارة أردوغان حول حكم القبيلة تنسحب على معظم البلدان العربية، فبعض الحكام يعطونك الانطباع من خلال مظهرهم الخارجي بأنهم في قمة الحداثة، بينما هم في واقع الأمر ليسوا أكثر من شيوخ عشائر وقبائل وملل ونحل متخلفة، فلا تغرّنك ربطات عنقهم وانتخاباتهم التي تـفبرك نتائجها في أقبية وزارات الداخلية قبل إجرائها بشهور أو أكثر، وبالتالي فهم أيضاً ليسوا أكثر من ملوك طوائف هزيلين. فالحاكم الذي يزوّر إرادة شعبه، ويحكم بموجب شرعية مزيفة سيكون بالنتيجة حاكماً هشاً ضعيفاً رعديداً جباناً لا يستطيع التحرك والمواجهة كما يستطيع الزعيم المنتخب كأردوغان، لأنه يعرف أنه بلا ظهر شعبي. وقد شاهدنا كيف ترك الشعب العراقي زعيمه وحيداً بُعيد الغزو الأميركي للعراق. فلو كان الرئيس منتخباً فعلاً، لدافع عنه الشعب بأسنانه، كما فعل الشعب الفنزويلي الذي أعاد تشافيز إلى السلطة بعد الانقلاب المدعوم أميركياً عليه خلال أقل من سبعة وأربعين ساعة. لهذا يتميز تشافيز عن حكامنا بأنه يتحدى أميركا من عقر حديقتها الخلفية. لاحظوا أن الرئيس الفنزويلي سحب سفيره من تل أبيب احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة، بينما لم يتجرأ أي حاكم عربي على أقل من ذلك بكثير. لماذا؟ لأن تشافيز وراءه شعب، بينما وراء معظم حكامنا مجرد عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو حزب هزيل لا يمثل إلا نفسه، أو مجرد حفنة من المنتفعين أو طغمة.
هل يعي الحكام العرب مغزى عبارة أردوغان؟ متى يخرجون من حكم العشيرة وحزب العائلة والقبيلة والطغمة والتوريث الأعمى إلى حكم الدولة كي لا يبقوا محط سخرية العالم وتهكمه؟ متى نتخلص من الانتخابات الصورية والاستفتاءات الهزلية والبيعات المغلقة؟ إلى متى تبقى شعوبنا مثل الأطرش في الزفة؟ إلى متى نبايع حكاماً لا يفكون الحرف أحياناً؟ إلى متى نسير وراء "ولي الأمر حتى لو كان أعمى العميان"؟
وطالما بقي حكامنا شيوخ قبائل وعشائر وطوائف ستبقى بلداننا "ملطشة" للي يسوى وما يسواش، وسيظل العرب مضرباً للأمثال في التخلف السياسي والجمود والذل والهوان والتبعية.
شكراً أردوغان على السخرية من ملوك الطوائف والملل والنحل وعناترة العشائر والقبائل والزواريب والحارات، لعلهم يعقلون!