بقلم : رشاد أبوشاور ... 16.06.2010
شاهدتها في برنامج (بصمات) الذي بثته فضائية الجزيرة قبل شهرين، والذي أعادت بثه بعد ضجّة تصريحاتها الجريئة التي طرحت فيها رؤيتها لحل القضيّة الفلسطينيّة.
هيلين توماس سيدة في التسعين،عميدة الصحافيين الذين يغطون مؤتمرات الرؤساء في البيت الأبيض، والملقبة بأيقونة الصحافة الأمريكيّة.
هذه السيدة عرفت عن قرب الرئيس كيندي، وغطّت المؤتمرات الصحافيّة لمن جاءوا بعده، حتى باراك أوباما الذي ساندته في حملته، فهي كما هو واضح تنفر من (الجمهوريين)، ولا سيّما جورج بوش الابن الذي بادلها النفور، خاصة بعد أن أحرجته بسؤالها الدائب عن السبب الحقيقي للحرب على العراق، وهو ما دفعه لاستبعادها من الصف الأول في المؤتمرات، لتجلس بعيدا عن وجهه، ومع ذلك فهي العنيدة التي لم تتخل عن دورها كصحافيّة تطرح أسئلة يكلفها بها ضميرها.
بعد (بصمات) على فضائية الجزيرة، بحثت عن معلومات تعرفني أكثر بهذه الصحافية العنيدة، العربيّة الأصل، اللبنانية الأب والأم، والتي تتميز بالاعتزاز بمحتدها العربي، رغم حملات المغتاظين منها، صهاينة، ومحافظين جددا عنصريين.
والدها هاجر من لبنان إلى أمريكا، مطلع القرن العشرين، أيام كانت بلاد الشام تابعة للدولة العثمانيّة، وحرصا منه على البقاء هناك، وتجنّب طرده من تلك البلاد غيّر كنيته إلى توماس كي يبقى في أمريكا .
في عملية البحث قرأت عنها الكثير، ودهشت لمواظبتها على متابعة المؤتمرات الصحافيّة في البيت الأبيض وقد بلغت الـ 90 من عمرها، وهي تتمتع بذهن صاف، وبروح مرحة، وببراعة في الرّد على تعليقات من يستهدفونها بلؤمهم، والغمز من أصلها العربي الذي تعتز به .
في برنامج (بصمات) تحدثت عن مطعم (ماما عيشة) المختص بتقديم الطعام العربي: دوالي، كوسا محشي، كبّة، بابا غنّوج، حمص، فول، مقلوبة، مسقعة...
زرت المطعم ـ على الإنترنت ـ وتأملت شكله الخارجي، وديكوراته البسيطة الجميلة، وتعرّفت على سيرة السيدة عيشة الفلسطينيّة المقدسية التي كانت ملهمة من أسسوه ـ وهم من أفراد عائلتها ـ بعد رحيلها في العام 1993، وافتتحوه عام 1994، ومنحوه اسمها مع إضافة ماما لاسمها الأوّل: عيشة.
السيدة هيلين ربطت بينها وبين عيشة الفلسطينيّة المقدسيّة صداقة، وهي وفاء لذكراها، وكفاحها، ولتعريف كبار رجال الإدارة، والصحافيين، تدعوهم تحديدا إلى مطعم (ماما عيشة) في واشنطن، وتعريفهم على الثقافة العربيّة بواسطة الطعام.
هذه السيدة أثيرت حولها ضجّة كبيرة قبل أيّام قليلة، أعلنت إثرها اعتزالها العمل الصحافي، وتقاعدها.
في زيارتها للبيت الأبيض، لمشاهدة معرض (التراث اليهودي)، التقاها أحد الصحافيين ـ المشهد والحوار الخاطف متوفر على اليوتيوب ـ وسألها عن رأيها (بإسرائيل) بعد مشاهدتها للمعرض، فضحكت ساخرة ، وقالت: أقول لهم (انقلعوا) واخرجوا من فلسطين...
شهق الصحافي مذهولاً، وليتأكد مّما سمع، عاد وسألها: تعنين أنهم يجب أن...؟! فأجابته بصراحة تامة: تذكّر..هؤلاء الناس تحت الاحتلال ـ تقصد الفلسطينيين ـ وهذه أرضهم، وهي ليست ألمانيا أو بولندا.
عاد وسألها: وإلى أين أيضا؟ وبدون تردد أجابته: وهنا..إلى أمريكا.
هنا ثارت حملة اللوبي الصهيوني المحتقن عليها، بمشاركة المحافظين المتصهينين، فأدلت بتصريح يبدو اعتذاريا، ولكنه في الجوهر يكرّس وجهة نظرها، ومن بعد أعلنت تقاعدها واعتزالها.
وأنا أتابع الحملة، وردود الفعل، تذكّرت ما حدث مع غاليليو العالم الطلياني الذي تحدّى رجال الكهنوت، وأعلن الحقيقة العلمية التي تسفّه وجهة نظرهم في مركزيّة الأرض في الكون، وأن الشمس تدور حولها.
غاليليو قدّم للمحاكمة الكنسية، لتجرؤه على القول بأن الأرض تدور حول الشمس، وانها ليست مركز الكون!
حكم على غاليليو بالموت حرقا، ورغم أنه أمام رهبة الحكم بالموت تراجع عن الحقائق العلمية التي توصل إليها، ولكنهم دفعوا به إلى المحرقة.. ويقال انه وهو يقاد للمحرقة عاد وكرر الحقيقة على مسمع من حوله: ومع ذلك فإنها تدور.
نعم الأرض تدور حول الشمس، هذا ما ثبت علميّا، وبقي اسم العالم غاليليو، بينما اندثرت أسماء الجهلة الذين ظنّوا أنهم يحرقون الحقيقة بإحراق جسده.
عندما تقول السيدة هيلين: يجب أن يعود هؤلاء اليهود من حيث جاءوا، إلى بولندا، وألمانيا ..وإلى أمريكا ..فهذا هو الحل المنطقي، وهذا هو العدل!
توجت السيدة هيلين توماس، الأمريكيّة، العربيّة اللبنانيّة الأصل، حياتها الحافلة والممتدة لتسعة عقود، شهرةً، ومجدا، و..كلمة حق في وجه القوّة المتغطرسة، والنفاق، والظلم، وانحياز أمريكا، وأوربة، لأولئك الذين يحتلون بلادا ليست لهم .
نحن لا ننحاز للسيدة هيلين توماس لأنها عربيّة الأصل، ولكننا ننحاز لرؤيتها العادلة لتفكيك الكيان الصهيوني، إذ لا حل سوى هذا الحل، فأي حل آخر هو تسكين، تحايل، تمديد للصراع، مزيد من القتل والحروب.
الحل العادل الإنساني أن يُعاد اليهود إلى بلدانهم التي جلبوا منها، ليعيشوا هناك في أوطان أجدادهم وآبائهم، ويدعوا العرب الفلسطينيين يعيشون بحريّة في وطنهم بعد عقود من القتل، والتشريد، والسجون، ونهب الأرض، وتشويه التراث الحضاري.
ماذا فعلت السيدة هيلين توماس؟
نطقت بكلمة الحّق في وجه الجور والجائرين، في قلب وكر الوحش حيث مرتع الصهاينة، ومصدر قوتهم من رعاتهم الأكثر صهينة منهم، والأشد عداء عنصريّا.
هيلين توماس قدّمت حلا للمسألة ( اليهوديّة) ينسجم مع ما كان طرحه ماركس قبل ولادة هيلين، في كراسة (المسألة اليهوديّة): الاندماج في الأمم والشعوب التي يعيشون بينها، ومعها...
لن يجرؤ أحد من الحكّام العرب على دعوة السيدة هيلين لزيارة وطنها العربي، فما بالك بتكريمها، واستضافتها لتقديم سلسلة محاضرات عن تجربتها الإعلاميّة، وعن خبرتها هناك في أمريكا، وعن سّر انحياز البيت الأبيض دائما للكيان الصهيوني، ودعمه بلا حدود عسكريا، وسياسيا، ودبلوماسيا.
لعلّ السيدة هيلين تسببت بالحرج للقيادات الفلسطينيّة الأوسلويّة، ولمن يطرحون هذه الأيّام القبول بدولة في حدود الـ67!
السيّدة هيلين تتجاوزهم جميعا، وتكشف بؤس تفكيرهم وتقاعسهم وجبنهم عن تبني هذا الحلّ لإنهاء الصراع، والذي ثبت أنه لا حلّ غيره، بعد فشل مسيرة (السلام) منذ كامب ديفيد حتى ما بعد أوسلو...
ثمّ أسأل كثيرا من الصحافيين العرب، وأستثني قّلة: هل عرفتم ما هي الشجاعة، وما هو شرف الصحافي، وما هي كلمة الحّق، وما هو الانتماء؟!
ولمن اختاروا القبض على جمر فلسطين، والالتزام بقول كلمة الحّق في وجه السلطان الجائر، عربيّا تابعا..أم أمريكا بسطوتها وجبروتها وقدرتها على البطش والإفساد، أقول:هذه السيدة الجريئة الشجاعة، اختتمت رحلة عمرها، وقالت ما يجب أن يقال، وها هي تمضي مبتسمة، بوقار وجلال وثقة من يحترم نفسه، ولا يرضى أن يغادر هذه الحياة الدنيا دون خطبة وداع تبقى أصداؤها في العقول والضمائر، وترتفع في يوم آت لا ريب فيه عاليةً كالراية، مزيّنة بوجه هيلين توماس..وكلماتها العميقة البسيطة التي لا تقبل التأويل، والتلاعب، واللف والدوران..فالحقيقة تقولها نفوس شجاعة، لا تريد من هذه الحياة الدنيا إلاّ ما يديم ذكرها، ويصون نقاء ضميرها.
هيلين توماس تفضح بؤس خطاب من انحرفوا عن طريق فلسطين، ونافقوا أعداءهم، وتسابقوا على تقديم التنازلات عن أرض فلسطين، فباءوا بالخسران، وفازت مع المؤمنين بعروبة فلسطين، بمجد سيكبر مع الأيّام، كلما علت شمس فلسطين، ومع رفرفة علمها فوق حيفا والقدس وعكّا وبيت لحم والخليل وغزّة..من البحر إلى النهر.