بقلم : عبدالرزاق المصباحي* ... 25.05.2010
الكتابة عند القاص أنيس الرافعي تبلغ درجة قصوى من التجريب ؛وهو لا ينبني ،كحال كتابات قصصية مجايلة ،على تكسير بنيات الكتابة انسجاما مع موجة التجديد وركوب موج التحديث الإبداعي، بل إن التجريب عنده واع بمقاصده وبآليات الكتابة أيضا ،وهي آليات طيعة في يده يصرفها أنى أراد يشكل عبرها آفاقا مختلفة لتلقي عمله ، تحفز القارئ على الاجتهاد في البحث عن الإمكانيات القرائية المتاحة وعلى التأمل أيضا.
وليس من المبالغة في شيء،القول إن المجموعة القصصية" اعتقال الغابة في زجاجة" تمارس تمنعا خاصا ضد القراءة النقدية (التقليدية ) وضد القراءة المتسرعة ،تلك التي ترمي إلى تقرير دلالة خطية واحدة أو إدراك متعة لحظية آنية ، فقصصها الثلاثة عشر تجاوز هذا النوع من التلقي المتعدد عشاقه ،إلى البحث عن أفق نخبوي تمارس عليه الغواية المستفزة وتتحدى أدواته التأويلية و آلياته القائمة على تصنيف الأعمال ضمن خانات محددة سلفا : جيد / رديء ،مطبق لقواعد السرد / غير مطبق لها .
تحدي أدوات الرؤية النقدية ( التقليدية) ،غاية مضمرة عند الرافعي لا يصرح بها ،بيد أنها ترشح في كل بنية من بنيات النص المخاتلة،وكأننا أمام لوحة إرشادية ،تجعل من كل قراءة نقدية محتملة مجردة من سلاح الحكم على العمل،إذ أقصى ما يمكن أن يصل إليه التلقي الواعي هنا ،هو ممارسة هيرمونيطيقا ممدة للعلامات النصية ،وهو يتماهى مع تصور ناقد مجدد هو "غراهام هو" حين عرف النقد أنه " استطالة ذكية للنص الأدبي " .
إننا إذن أمام عمل إبداعي يتخذ من التجريب ( الكتابة ضد الأسلوب السائد)عنصرا حاسما في ممارسة المخاتلة على قارئه وناقده أيضا ،المخاتلة التي تنبعث من الشكل والبنية والدلالة ،وتلعب فيها المناصات والمقتبسات والإحالات دورا أساسا ،إلى درجة التشويش على القارئ الذي يسعى عابثا في نظم روابط منطقية صارمة للقبض على المعنى.
1*.النصوص الموازية المخاتلة.
التجريب في كثير من الكتابات الإبداعية راهن على تغيير في الأشكال والبنيات،حتى إن كثيرا من الأعمال السردية ( التجريبية ) تأسست على التبديل في ترتيب العتبات النصية ظنا أن ذلك وحده قمين بإدراج المكتوب في خانة الأعمال الحداثية التجريبية،وهو ما يخالف فلسفة التجريب ذاته،الذي ينبغي أن يشمل العلاقات الجدلية بين البنية والدلالة ،هذه العلاقة تبلغ درجة قصوى من التوتر في اعتقال الغابة في زجاجة .توتر مبني على الخروج القصدي عن الوظيفة المرجعية التي تجمع العنوان بمتنه.
*أ_العنوان :
أولى علامات التوتر يؤشر عليها عنوان المجموعة ذاته : " اعتقال الغابة في زجاجة "فمن يمارس الاعتقال يمتلك سلطة فوضت له قانونا ،ومن يُعتَقل يكون قد ارتكب جرما معينا ،يفضي به إلى الاعتقال والحبس.
على مستوى القراءة الخطية ( الخارج سياقية) يبدو هذا التفسير منطقيا ومطمئنا،بيد أنه يصطدم بطبيعة المعتقل ومكان الاعتقال ، فالمعتقل هنا " الغابة " ومكانه " الزجاجة " .ولعل تتبع البناء التركيبي والأسلوبي للعنوان أعلاه كفيل بإضاءة بعض من دلالته وكشف أولى خيوط المخاتلة فيه.
تركيبيا :العنوان جملة اسمية مندرجة ضمن نسق الجملة المحايد،حيث يتقدم المبتدأ ( اعتقال ) يتبعه الخبر الذي جاء شبه جملة ( في زجاجة) هذا النسق المحايد نحويا ،وظف على سبيل المجاز لا الحقيقة بلاغة وأسلوبا ،لانفراط عقد المناسبة بين المسند والمسند إليه ،ويدعى هذا التوتر بين مكونات التركيب في الأدبيات النقدية الحديثة انزياحا,فمكان الاعتقال( الزجاجة) غير مناسب هنا لحجم المعتقل(الغابة) .والقارئ هنا يدرك أن تلك الدوال تتجاوز معناها الحرفي إلى آخر مختف تحت إهاب النص .
يذهب الأستاذ لؤي حمزة عباس في تقديمه للطبعة الثانية من المجموعة ،إلى أن العنوان الذي" يعتقل الغابة في زجاجة لا ينفصل انفصالا كليا عن إرث القص القصير" ،مقارنا بين عنوان المجموعة ،قيد المقاربة ،وقصة إذغار آلا ن بو " رسالة وجدت في قنينة " معتبرا أن العنوان يشير إلى الممارسة القصصية ذاتها (فالنص القصصي،على قصره واكتفائه، غابة لا تنتهي عند حدود الكتابة ) ( تقديم المجموعة ص 13 ) .
إن الغابة في العنوان إذن تعادل الكتابة القصصية واعتقال القصة تكسير لألفة هذا الجنس الطليق،لكن هذا التفسير الذي ينطلق من الشكل الكتابي أساسا لحد دلالته ،يمكن أن يمدد إلى أفق أرحب بالتبئير على الدلالة التي يمكن أن تضاء بالبحث في علاقات العنوان بمتنه.وإذا استندنا إلى مفهوم العنصر المهيمن الذي قالت به الشكلية الروسية،فإن الإشارة إلى الكتابة السردية لم تكن إلا في قصة واحدة هي " الزجاجة ": القصة المفتتح المرفقة بعنوان فرعي ( مساهمة في تدمير الإيقاع ) وهو لا شك إيقاع القص القصير ،و(التدمير) الواعي طبعا هو إوالية تجريبية أولى ,وقصة الزجاجة هي أشبه بتمرين قصصي،إذ ما يلفاه القارئ هو جمل سردية متفرقة مكررة لا ينظمها رابط دلالي،وكأن الرافعي ،أو هو قصده فعلا ،أن يشارك قارئ مجموعته في اللحظة التي لا يعرفها (أي القارئ ) إلا عبر وسيط خارج النص (حوار مع الكاتب مثلا ) وهي تشكل العمل الإبداعي وصناعته،وفي هذا التمرين القصصي تحضر جملة مثيرة " شخص يمسك بذراعي كل مرة أحاول أن أكتب : ضفادع على العشب ،أصابع على البيانو .... "( المجموعة ص 21 )، تشير إلى مواجع الكتابة وصعوبتها،فلكي تكتب عليك أن تقاوم مثبطات كثيرة بعضها خارجي وغالبيتها جواني ،ولعل الرافعي حين وظف كلمة شخص ،وهو العارف باللغة التي يمارس التدمير الواعي عليها،يؤشر على كثرة هذه المثبطات وسطوتها ،تلك التي لا تقتصد في الضربات ويُجهَل مصدرها،تماما مثلما نطلق صفة " شخص" على كل ما نجهل هويته أو نود إخفاءها،لكنها ضربات لا تمنعه من أن ينثر كلماته على طريقة " جاكسون بولوك" الرسام الأمريكي الذي عرف بتجريديته،تجرد عن الواقع المبتذل والتعالي عليه وعن المادة ورمي حجر في ماء النفس والروح يرجهما ليفصحا عن المكنون المختفي .
تأسيسا على ما سبق تكون قصة "الزجاجة " مفتاحا دلاليا لتمثل مفهوم السرد عند الرافعي ،إنها أقرب إلى مقدمة الكتاب من كونها قصة ،لكنها مقدمة آثر أن يجعلها متفردة يلمح فيها لتمثله دون أن يصرح مراهنا هنا على حذق قارئه،يؤكد ذلك أنها جاءت مستقلة في قسم موسوم باسمها ،بالمقارنة مع أقسام المجموعة الأخرى وهي :
_ القسم الثاني / الغابة ،وتتضمن خمس قصص هي : الشاطئ ،الصدع ،الزوبعة،الكابوس ،والقربان
_القسم الثالث / في قسم آخر من الغابة ،تتضمن العدد نفسه من القصص : الخزاف،المايسترو،البالون ،الساق والنهر.
_ القسم الرابع /بعيدا عن الغابة بأمتار قليلة وتتضمن قصتين : رؤية السمكة ( قصة تكعيبية) ورؤيا العنكبوت (كتابة ضد الأسلوب).
ب _ التجنيس
ثمة عنصر آخر على قدر كبير من الأهمية وهي العبارة التجنيسية للعمل " قصص صوتية " ،والملاحظ أن الرافعي يصر في أعماله القصصية على عبارات تجنيسية توضح القصد من عمله : مجاميعه القصصية :
•فضائح فوق كل الشبهات ( قصص مشتركة)
•أشياء تمر دون أن تحدث فعلا (تمارين قصصية )
•السيد ريباخا ( تعاقبات قصصية )
•البرشمان ملاحظات قصصية
•علبة الباندورا (متتاليات ما بعد سردية) .
والصوت في حد الأدنى همس و في حده الأعلى صراخ، صوت من إذن تحاول القصص إيصاله ؟ هل هو صوت الغابة بوصفها معادلا رمزيا للذات والنفس ؟ وهل يمنع اعتقال هذه الغابة ( النفس أو الجسد موضوعا) في الزجاجة ( القصة باعتبارها شكلا إبداعيا) من وصول الرسالة أم إنها على العكس من ذلك قناة موفقة في إيصال هذا الصوت ؟
القصة عند الرافعي تتخذ من اللغة المربكة المتشظية قناة رئيسة،وهي لغة تثير الانتباه إليها قبل الدلالة الممكنة الحافة بها ،وهو بذلك يدعونا إلى اكتشاف عالم القصة وسراديبه قبل الموضوع ،من أجل أن يدفعنا إلى تبين السبل التي يتشكل بها العمل القصصي،ولعل ذلك ما يفسر استعانته بمقابسة أمبرطو إيكو في مفتتح القسم الثاني من المجموعة المعنون بالغابة ،تقول المقتبسة :
" ناك طريقتان للتجول في الغابة: إما أن نسلك طريقا واحدا للخروج بسرعة أو طرقا متعددة نتسكع من خلالها لنعرف كيف تتكون الغابة، ولماذا يسمح لنا بسلك بعض السبل،وتسد في وجوهنا سبل أخرى " ( ص 23 ).
والرافعي اختار السبيل الثاني ويدفع بقارئ مجموعته إلى تبني الاختيار ذاته،حتى يدخل عوالم الغابة باعتبارها معادلا موضوعيا للقصة كشكل كتابي وكموضوع أيضا.
واستنادا إلى مفهوم العنصر المهيمن وبعيدا عن الشكل الكتابي،يمكن القول إن المجموعة تتناولان موضوعتين مركزيتين :
الأولى: تهم ما هو ذهني نفسي في الإنسان
الثانية : تهم الإنسان باعتباره جسدا .
الموضوعة الأولى تجد حضورها المكثف في القصص الخمس من قسم الغابة والموضوعة الثانية في القسم الثالث المعنون ب " في قسم آخر من الغابة "
2.**الماهية المجردة للإنسان ( النفس والذهن ) :في قصة " الشاطئ " المقسمة لقصتين فرعيتين هما التركيبة الثلاثية وساعة الرمل : يسجل أول حضور لدرجة معينة من الصوت وهو الصراخ مصدره السارد الذي يضخ في كل مرة جرعة أكبر منه حتى يتغلل في روح شخصية مجهولة يخاطبها بضمير المخاطب( أنتَ)،وهي شخصية تميل إلى ممارسة الصمت ،وانشغالها الوحيد يتجسد في إزاحة آثار الصراخ المنبعث بقوة حتى لا يلتصق بذاته أو إحدى ممتلكاته ،لكن ورغم وكدها (الشخصية المجهولة) الكبير لتحقيق ذلك تعجز،لتستسلم لكومات أكبر منه وللحلم أيضا .
في القصة الفرعية ساعة الرمل يتلاشى السارد وصراخه،وينكمشا ويتصاغرا في الحلم ،وتلقي به يد مجهولة إلى الأكواريوم ليسبح مع سمكات صغيرات تتحول بغتة إلى قروش تتعقبه بعد أن يتحول الأكواريوم نفسه إلى بحر كبير ،محاولا الإفلات منها متأكدا " بكل ما فيه من قوة اليأس أنه في اليوم التالي سوف يصل ..... سوف يصل حتما "(ص 27 ).
هذه الأحداث تجري في حلمين مختلفين : الأول يمارس فيه السارد /الشخصية الصراخ الكبير ،والثاني ينذره للصمت وللنجاة من الموت الذي يتربص به :هذا الذي له صورة عيون زجاجية وأسنان كبيرة تجيء في عجالة بلا صوت ،فالصمت إذن معادل للموت،والصراخ معادل للحياة وجرعات كبيرة منه تشبت أكبر بالحياة وجنوح نحو الأمل.
هذا الأمل هو ما يجعل النفس في منأى عما يعكر صفوها ويشوش على بنائها ،لكن غالبا وضد كل التوقعات يحدث أن يقع الصدع ،وهو صدع داخلي بالأساس ،حدوثه المباغث يقود السارد/ الشخصية إلى مغامرة النبش بحثا عن مركزه، تماما كما يفعل باحثو الجيوفيزياء مع بؤرة زلزال مدمر،الاستمرار في البحث يقود إلى وجود وحوش كثيرة غير مروضة في النفس،وأصوات متخفية تحمل غير يسير من الأنين والألم ،يشعر ذلك السارد بالخوف فيحسم أمره على العودة من حيث أتى .
يعادل نص الصدع بين رحلة البحث في النفس (مسكن الأشخاص) وحتمية الموت، الموت ذاته الذي تهرب منه الشخصية في كل مرة متخذة من الصراخ سلاحا،لكن كل نبش لا يأتي من فراغ بل غالبا ما يتحرك بعد زوبعة ذهنية بدرجة مركزية متصلة بالذات وبالجوف" إنها أنت وأنت هي" (ص 35 )،زوبعة تستدعي فقط إغماض العينين بحجم يعادل الميتافيزيقا ويعادل الحلم بالضرورة،ولذلك تفسيره الذي سنعود إليه في اللاحق من هذه السطور.
3***.الجســــــــــــــــد :
يحضر الجسد باعتباره محددا لماهية الإنسان في القسم الثالث من المجموعة بخاصة في قصتي الخزاف والساق: فالخزاف، في القصة التي تحمل الاسم نفسه، يحاول إعادة صنع وجهه متسلحا بأدواته ودولابه الدوار والصلصال وكثير من المخيلة ،حتى يتخلص من ذمامة وجهه ويعوضها جمالا تصنعه أصابعه ،بيد أنه وفي غفلة منه ينفلت الوجه الجديد ،بعد أن يكتمل ، من الدولاب المتحرك،يرتطم بالجدار منكسرا ،ويكتشف الخزاف عجزه بعد أن يتذكر أن يديه الاثنتين مشلولتين.
وفي قصة الساق تبلغ التراجيديا قمتها ،حين يعطي العاشق محبوبته رجله اليمنى الحية التي جزها بمنشار عربون حب بعد أن تركت هي رجلها الاصطناعية لديه لأسبوع كامل دلالة منها على العشق.
أما في قصص النهر والمايسترو والبالون ،فالجسد يواجه الموت كما هو حال الرجلين اللذين يمحقهما القطار في " النهر " أو الرجل الميت الذي تتنشق زوجه بعض أنفاسه من البالون الذي نفخه ،أو يصنع الجسد الموت َ كما في قصة المايسترو حيث الثور يشق قيد اللحن في السيمفونية ويتوجه ليمارس القتل ضد رواد الصالة.
إن الموت هو قدر شخوص المجموعة ،هو المطلوب الذي ليس بمقدورها مصادرته ،يطاردها في الحلم و يرهبها في كل حركة ترمي إلى الإمساك بخيوط تكشف مكنون النفس :هذا الجانب الغامض جدا من ماهية الإنسان .
والملاحظ أن غالبية الأحداث في المجموعة ،إن لم نقل كلها ،تجري في الحلم ،وهي بذلك أحداث يمكن الجزم في تخييليتها ،وتعاليها على الواقع وشروطه. ففي الحلم ينفرط نظام العقل ومعياريته،وينطلق اللاشعور بعد أن تنفك قيوده ليصنع عالما جديدا، متناقضا ،فوضويا : عالم " الكاوس " الذي يعوزه المنطق ( اللغوس )،فتبدأ النفس في تسجيل ذبذبات مختلفة عن ذاتها وعن العالم على نحو تلقائي ومركب أيضا . وليس من المصادفة إطلاقا أن تكون القصص غالبيتها مرتبطة بالحلم ،لذا فإن نفحة السريالية surréalisme تبدو جلية تؤطر هذا العمل باعتبار الاشتغال بالحلم أحد أهم ركائزها .
والإبداع عند السريالية يحدث في زمن يتحدد بين اليقظة والنوم، في مرحلة ما البين،وهو نفس زمن أحداث قصص المجموعة يقول السارد في قصة "الزوبعة " : " فجأة وبعد أن أضحيتَ _ بضربة مزاج غير منتظرة _ضالعا في وسط الخطر المختل الذي يتفانى في تأدية وظيفة القتل على امتداد هذا الشارع بالذات توقفت وأغمضت عينيك. أغمضتهما بعمق يعادل الميتافيزيقا حتى ترضخ لظلماتك " (ص 33) .
إغماض العينين بحجم معين هو ملامسة الماوراء الذي يعادل مفهوميا اللاشعور ،مادام أن فضاء الأحداث هو النفس،هو ما يعجل بحدوث الزوبعة الذهنية باعتبارها الحيز الرئيس الذي عبره تدرك الذوات ويفهم تناقضها ويتمثل بعض من وحشوها الكاسرة ،لذا يوصي السارد نفسه بعد أن يستعمل ضمير المخاطب ( أنتَ) بأن ينقاد لإغماضة العينين قائلا "لا تفتح عينك مطلقا حين سيتقدم منك ،الآن،في وسط ذلك الشارع ،احدهم ما ويربت على كتفك ،فتتلاشى الزوبعة " ( ص 35) : أن يربت شخص ما على كتف الشخصية يعني أن تزول مرحلة المابين الضرورية لاستمرار الزوبعة . انتهاء الحلم أوقف غالبية أحداث القصص في المجموعة أو نهاية شخوصها كما هو حال الشخصية الرئيسة في قصتي "العنكبوت"و"الشاطئ " حيث انتهت القصة بعودة الوعي ومن تم العودة للواقع ، أو قصة "الكابوس"التي عجرت فيها الشخصية عن تحقيق القفزة الضرورية من الكابوس إلى اليقظة فأجهز الموت عليها.
والقصة تتخذ من الأشياء ( التافهة ) وغير ذات القيمة أدوات للحبكة السردية كالساق والزجاجة والبالون ,,, و هو دأب السرياليين عموما ، أندري بروطون و بول إليار و أراغون والتشيكليون أمثال دالي .
ليس ربط هذه القراءة بين بعض آليات الكتابة السردية عند الرافعي وبين السريالية رغبة عند كاتبها في تأطير العمل ضمن توجه فني أو أدبي معين؛ لأن الفن ،والفعل السردي جزء منه، يند عن التصنيفات القبلية أو البعدية ،ولكن لإضاءة الغموض الكامن في كثير من الأحداث والتنبيه على خصوصيته ،الغموض المحمود في كل عمل إبداعي شعريا أم سرديا ،الغموض الكائن في العلاقات بين العنوان الرئيس والمتن برمته،بين العناوين الداخلية و قصصها ،بين القصص ومراجعها البصرية ،بين أقسام المجموعة والمقتبسات التي تتقدمها .
وليس من باب المجازفة القول إننا في حضرة " اعتقال الغابة في زجاجة "،لا ينبغي أن نتسلح بذبابات مفهومية مخيفة لمقاربة المجموعة فهي غير ذات جدوى هنا،بقدر ما نحتاج إلى ما يسميه الكاتب نفسه في قصة " النهر " ب " الجاذبيات المتوازنة " لكي نتماهى مع النص في حلم واحد ونتداعى معا ليكتشف كل منا الآخر ،ويفصح كل واحد عن ماهيته بتدرج .