بقلم : رشاد أبوشاور ... 26.05.2010
هذاالكتاب جاء في وقته، وأحسب أنه تأخّر، وهو نادر في موضوعه، رغم حاجتنا كعرب له ولأمثاله من الكتب التي تعرفنا بالمسيحيّة، الديانة السماوية التي نشأت على هذه الأرض، ونبتت في تربتها، ونمت في بيئتها، وآمنت بها قبائل عربيّة عريقة احتضنت فيما بعد العرب المسلمين الزاحفين لطرد الرومان من بلاد الشام.
بصفحات عددها 608 من القطع الكبير، مع معجم في المدخل يساعد القارئ على معرفة معاني ومصطلحات تخّص الديانة المسيحيّة، وثلاثين خارطة ملونة يختتم بها الكتاب، توضح أماكن انتشار المسيحيّة، وحدود أرض كنعان، وبلاد العرب، والإمبراطوريّة الرومانية، وفلسطين زمن المسيح، والقبائل العربيّة التي اعتنقت المسيحيّة وعملت على انتشارها.
صدر الكتاب في(الناصرة)عام 2009 في ثلاث طبعات، وهذا يدلل على تلقّف جمهور القرّاء الفلسطينيين في الداخل له، مسيحيين ومسلمين.
عنوان الكتاب الفرعي: المسيحيّة المشرقيّة على مدى ألفي عام. وكي يوضح الكاتب سميح غنادري أحد دوافعه لتأليف الكتاب، عمد إلى إضافة في الطبعة الثالثة: والعلاقة بالإسلام ...
يركز غنادري في كتابه على هذا الجانب الذي يدحض مبررات الحروب الصليبيّة، وادعاء(الغرب) الاستعماري حماية المسيحيّة والمسيحيين العرب الذين اعتنقوا المسيحيّة وبشّروا بها قبل أن تصل إليه بمئات الأعوام.
ليس الكتاب تبشيريّا، ولا دعاويّا، ولم يكتبه رجل دين، بل إن كاتبه فلسطيني علماني أمضى جّلّ عمره يساريّا تقدميّا، وهو لم يتخلّ عن قناعاته فيرتد في آخر العمر بعد انهيار التجربة الاشتراكيّة السوفييتيّة، كما هو شأن كثير من (اليساريين) العرب.
يكتب في المقدمة: لا أقصد في هذا الكتاب أن أؤرّخ كنسيّا للمسيحية. لقد سألت نفسي: ما لعلماني مثلي وهذا الموضوع الوثيق الارتباط بالدين والمؤسسات الدينيّة، أنا الذي قضى كل سنوات حياته السابقة ومنذ الشباب المبكّر، وحتى يومنا هذا، في العمل السياسي والوطني، وكان موضوع دراستي الجامعيّة الفلسفة والعلوم السياسيّة والأدب العالمي والصحافة، واحترفت العمل السياسي والحزبي في أطر يسارية وقوميّة ديمقراطيّة؟!
ذات يوم في طفولته، سمع كاهنا جليليّا يميّز بين هوشي منه الملحد وقادة أمريكا الذين يدّعون أنهم مسيحيّون، فالكاهن الجليلي يرى بأن هوشي منه الذي يدافع عن بلده وشعبه، والسوفييت الذين يدعمون نضال شعب فيتنام ..أقرب إلى المسيح لأنهم لا يظلمون، فالمسيحي ليس من يؤم الكنيسة ويظلم البشر!
إذا كان سميح غنادري علمانيا، مسيسا، رجل أدب وسياسة وفلسفة، فما الذي دفعه للخدمة في النصف الثاني من عمره في عمل اجتماعي على صلة بالكنيسة؟!
يكتب موضحا: من بين ما يشغلني: الكفاح ضد السيطرة اليونانيّة على البطريركيّة، وتنكرها لحقوق العرب الأرثوذكس..داعيا إلى جعلها بطريركية رعيتها حقّا، والعمل على وقف تفريطها بالأوقاف، وتسريبها إلى أيد غريبة وصهيونيّة لصالح الاستيطان، وقطع دابر الفساد داخلها.
الكتاب وضع بهدف، وهو يأتي في سياق معركة مستمرة خيضت في فلسطين لتخليص الكنيسة الأرثوذكسيّة من الهيمنة اليونانية، وجعل الدين عامل تقارب لا تنابذ بين أبناء الأمّة الواحدة.
من قرأ مذكرات الكاتب الفلسطيني خليل السكاكيني (كذا أنا يا دنيا)، الذي (حُرم) كنسيّا بسبب صلابة موقفه الناقد والمحرّض على هيمنة البطاركة اليونان، ومن يتابع منذ سنوات المعركة الدائرة في فلسطين بين العرب الأرثوذكس والبطاركة اليونان الذين يسرّبون الأرض الفلسطينيّة التي تمتلكها الكنيسة، تأجيرا طويل الأمد، وبيعا للصهاينة، يقدّر أهميّة هذا الكتاب الذي يُعرّف بمسيرة المسيحيّة المشرقيّة، وبتاريخها، وبجذور الدور العربي في انتشارها، وبرعاية الدولة الإسلاميّة في عهودها المتلاحقة..لها.
يكتب مؤكدا حقيقة أفترض أنها بدهيّة، ولكنها للأسف غُيّبت في زمن التفتت الطائفي، والولاءات التي تستمّد أسباب وجودها من خارج الوطن: لا يحّق، لا تاريخيّا، ولا ثقافيّا، أن يصوّر البعض المسيحيّة وكأنها دين غريب عن البيئة الشرقيّة والعربيّة، فأحفاد المسيح الفلسطيني الشرقي هنا باقون، والكنيسة كنيستهم، والوطن وطنهم، سوية مع شعبهم العربي على اختلاف ديانته وطوائفه، وعبق التاريخ شاهدهم.
ولأن الكاتب ينطلق من هذه الأرض، من فلسطين، فهو يتساءل بصيغة استنكار واتهام، عن خلفيات ونوايا البطريركية اليونانيّة الأورشليميّة في التركيز على فقرات بعينها: لماذا يُبرز بعض الكهنة ويكررون بالذات تلك الفقرة التي تتحدّث عن شعب الله المختار، وعهد الله معه، ووعده بالسيادة والملكوت، ولا يستشهدون بما استشهدنا به سابقا؟(ص 45)
المسيحيّة في الجوهر بشّرت الأمم جميعا. وجّه السيّد المسيح تلاميذه: اذهبوا وتلمذوا الأمم...
الكاتب ينبّه: المسيحيّة بعكس اليهوديّة ليست دينا ووعدا لشعب معيّن، بل بشارة لجميع الأمم، والمسيح لا يأتي ليولّي سلطة شعب مختار على العالم، وإنما ليخلّص البشريّة جمعاء من خطاياها. وهو يذكّر من نسي، أو يجهل، بأن المسيحيّة بدأت ضد خصمين: الوثنيّة الرومانيّة، والمؤسسة الكهنوتيّة اليهوديّة، وأن المسيحيّة ثورة حتى بالنسبة لمنشأها التوحيدي ـ الديانة اليهوديّة ـ إذ ان المسيح لم يأت ملكا لليهود، وبهدف إنقاذهم، وإنما خادما ومفتديا للبشريّة.
يصرخ المسيح بعد دخوله القدس، واقتحامه الهيكل: بيتي بيت الصلاة لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص...
نحن نعيش معا، أبناء أمّة واحدة، بدينين سماويين: المسيحيّة والإسلام، ولكننا لا نعرف الكثير عن دينينا، وهذا الجهل يُستغلّ، ومن هنا أهميّة هذا الكتاب الذي لا يتوقّف عند دور البطاركة اليونان وانحرافهم بالكنيسة، وتسخيرها لأهداف الصهيونيّة والتوسّع الاستيطاني الصهيوني، بل يعرّف القارئ العربي، مسيحيّا ومسلما، بجوانب خافية عليه، رافقت بدايات انتشار المسيحيّة في عهودها الأولى، من انتفاع بالفلسفة اليونانيّة، تحديدا بفلسفة أرسطو ومنطقه، و..مرورا بحقبة قتل الوثنيين بوحشيّة تتنافى مع جوهر المسيحيّة (أحبوا أعداءكم)!
المسيحيّة خرجت من (شرنقة) اليهوديّة، وفارقتها، واصطدمت بضيق أفقها، وهو ما تسبب في مواجهة دموية أدت في البدء إلى تحالف يهودي روماني لوأد المسيحيّة في مهدها.
إذا كانت المسيحيّة لم توأد في مهدها، فإن العمل على حرفها يزداد ضراوة، وما بروز المحافظين الجدد، سوى بعض التجليّات، فهم يدّعون بأنهم مسيحيون أصوليون، وهم في الجوهر صهاينة يقفزون على تعاليم السيّد المسيح، ويشوهونها.
معركة الكنيسة الأرثوذكسيّة تهم المسيحيين، والمسلمين العرب تحديدا، والفلسطينيين في المقدمة، لأن قضيتنا الوطنيّة والقوميّة تقع في جوهر الصراع، فمن يبيعون أرضنا يتحكمون بالكنيسة، ويعضدون الأطماع الصهيونيّة التوسعيّة، ويعطلون دور الكنيسة في الذود عن حقّنا في فلسطين. وهنا أذكّر بالمعركة التي خاضها المطران الشجاع، الوطني الكبير عطا الله حنّا، دفاعا عن الأرض التي تملكها الكنيسة، والتي بيعت، وسرّبت للاحتلال، وتحمّل الاضطهاد من الاحتلال الصهيوني، ومن المتحكمين اليونان بالكنيسة الأرثوذكسيّة.
هذا الكتاب التنويري يفضح أسباب الحروب الصليبيّة، في فصل بعنوان: الصليبيّة ـ حرب وجريمة غربيّة بحّق الإسلام والمسيحيّة المشرقيّة، ويفنّد أسباب شّن تلك الحروب، ويعيدها إلى أطماع أنعشها ضعف الدولة العبّاسيّة التي كانت في حالة تفكك وعجز.
يستحّق هذا الكتاب الكبير الأهميّة أن يصدر عن جهة عربية قادرة على تسهيل وصوله إلى القرّاء في بلاد العرب، لتمتين أواصر العلاقة بين أبناء الأمّة والوطن الواحد، خّاصة ونحن نعيش في حقبة يُفتقد فيها دور العقل والمنطق، وتزدهر فيها العصبيّات الطائفيّة الشرسة في تفتيت بنية الأمّة.
هذا الكتاب يقول: نحن الأحق بالسيّد المسيح، مسلمين ومسيحيين، الذي قاد ثورة على الانغلاق والتعصّب، والذي ولد وعاش وصلب في أرضنا فلسطين، فداءً للإنسانيّة جمعاء...