بقلم : صالح النعامي ... 06.10.2010
مع حلول الذكرى العاشرة لاندلاع انتفاضة الأقصى التي قضى خلالها أكثر من أربعة آلاف فلسطيني نحبهم وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين، علاوة على اعتقال آلاف آخرين، فإنه يثور سؤال هام ومحوري: هل قطع الفلسطينيون بعد تقديم كل هذه التضحيات الجسام شوطاً يذكر على سبيل التحرر، أم أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من تحقيق أي انجاز سياسي يقربهم من تحقيق أهدافهم الوطنية؟. للأسف الشديد أنه على الرغم من أن جذوة الانتقاضة قد خبت منذ زمن بعيد إلا أن الفصائل الفلسطينية ونخبها لم تطرح هذا التساؤل بجدية، واكتفت طوال هذه الفترة الطويلة باجترار الخطاب الشعبوي الذي لا تشكل الحقائق والمنطق السليم وحدات أساسية فيه. فعلى صعيد الحقائق فقد أدت الانتفاضة إلى مقتل ألف مستوطن وجندي وجرح مئات آخرين، ولقد تدهورت مستويات الأمن الشخصي للمستوطنين خلال الانتفاضة بشكل كبير، علاوة على تكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر هائلة، إلى جانب التأثير سلباً على معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فهذه حقائق لا يمكن إغفالها عند تقييم الانتفاضة ونتائجها. لكن في المقابل لم تفلح هذه النتائج في تمكين الفلسطينيين من تحقيق انجاز سياسي واحد على صعيد التحرير. فقد أخمدت الانتفاضة وتمكنت إسرائيل من إعادة احتلال جميع مدن الضفة الغربية، والأدهى من ذلك أن إسرائيل تمكنت من خلال مواجهتها للانتفاضة من إعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، ويضر بالمقاومة وخيارها. فباستخدام القوة و بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية تمكنت إسرائيل من أن تملي على الرئيس الراحل ياسر عرفات عام 2003 استحداث منصب رئيس وزراء صمم بشكل خاص لصالح محمود عباس الذي لم يضطلع حتى ذلك الوقت بأي دور رسمي في السلطة الفلسطينية، وهو الذي كان يجاهر برفضه الشديد لخيار المقاومة، وبكل تأكيد فقد فتح تنصيب عباس كرئيس للوزراء الطريق أمامه ليكون المرشح الوحيد لرئاسة السلطة، حيث أن إسرائيل وإدارة بوش حددت المعايير و " المؤهلات " التي يتوجب أن " يحوز " عليها من يقف على رأس الهرم القيادي في السلطة، وعلى رأسها العداء الواضح والصريح للمقاومة، وقد مهدت خسارة المقاومة في نهاية الانتفاضة الطريق فقط أمام أولئك الذين يحملون هذه " المؤهلات " . لقد تمكنت إسرائيل من خلال حسمها بالقوة المسلحة انتفاضة الأقصى أن تصيغ مؤسسات السلطة الفلسطينية بالكيفية التي تخدم مصالحها الاستراتيجية والأمنية، وكان التعبير الأكثر فجاجة للمكاسب الإسرائيلية في هذا السياق، تثبيت سلام فياض كوزير للمالية وبعد ذلك رئيساً للوزراء. فبإسم " الشفافية ومحاربة الفساد " انتقم فياض من الانتفاضة، عندما صاغ المؤسسة الأمنية في السلطة الفلسطينية ليصبح هدفها الرئيس محاربة المقاومة عبر التنسيق المكشوف والصريح مع قوات الاحتلال وبرعاية أمريكية. ببساطة لقد قبلت فصائل منظمة التحرير عملياً المعايير الأمريكية الإسرائيلية في اختيار قيادة السلطة، فحافظت هذه الفصائل على عضويتها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومنها من أصبح شريكاً في حكومات فياض التي تتولى التنسيق الأمني.
هل " فك الارتباط " انتصار للمقاومة؟
ومن أسف هناك من أساء قراءة تنفيذ إسرائيل خطة " فك الارتباط " التي تمثلت في تفكيك مستوطنات قطاع غزة واعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في محيط القطاع، واعتبره انتصاراً للمقاومة وخيارها واستند إليه في بلورة خيارته السياسية. صحيح أن إسرائيل أدركت أن مواصلة احتلال قطاع غزة بالاحتلال المباشر لا يصب في مصلحتها، لكنها نفس الوقت حرصت على أن تكون عملية " فك الارتباط " جزءً من عملية إدارة الأزمة في مواجهة الشعب الفلسطيني، وحاولت تحقيق أكبر مكاسب منها. فتفكيك المستوطنات واعادة انتشار جيش الاحتلال سمح لإسرائيل بهامش حرية كبير للعمل ضد المقاومة، حيث قبل المجتمع الدولي حجة إسرائيل القائلة أنه بإمكانها أن ترد على عمليات المقاومة المنطلقة من قطاع غزة كما ترد على الدول، أي استخدام أكبر قدر من فائض القوة لديها ضد قطاع غزة وبشكل غير متناسب، وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته في الحرب التي شنتها إسرائيل نهاية العام 2008.
أين أخطأ الفلسطينيون؟
مما لا شك فيه أن الفلسطينيين ارتكبوا أخطاءً كارثية خلال انتفاضة الأقصى أسهمت في إلحاق أكبر الأذى بقضيتهم الوطنية، وأدت إلى فشل معظم الرهانات التي عقدت على هذه الانتفاضة. ونحن هنا بصدد التعرض لهذه الأخطاء:
أولاً: لقد خاض الفلسطينيون غمار الانتفاضة دون الاتفاق على هدف محدد، فقد أرادت " فتح " أن تؤدي الانتفاضة إلى تحسين مكانة السلطة في المفاوضات مع إسرائيل بعد فشل مؤتمر " كامب ديفيد " أواخر العام 1999، في حين أن الفصائل الأخرى كان تهدف أن تؤدي عمليات المقاومة إلى سحب البساط من تحت المفاوضين مرة وللأبد.
ثانياً: لم تعر الفصائل الفلسطينية اعتبارات الزمان والمكان أي اهتمام عند تنفيذها عمليات المقاومة. فمثلاً كان يفترض أن تشكل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول فارقة في عمل المقاومة، حيث كان من الواضح أنه قد تبلور اجماع عالمي غير مسبوق ضد العمليات الاستشهادية، حيث تم تربيع الدوائر، فاصبح أسامة بن لادن = أحمد ياسين = ياسر عرفات. وقد أدت هذه الأحداث إلى تأييد وتفهم المجتمع الدولي للخطوات العسكرية الإسرائيلية ضد المقاومة والتي بلغت ذروتها بتنفيذ حملة " السور الواقي " التي قضت على المقاومة في الضفة الغربية. وتجاهلت الفصائل اعتبارات المكان، عندما لم تدرك أن تواصل تنفيذ العمليات الاستشهادية في قلب المدن الإسرائيلية أسهم في بلورة اجماع إسرائيلي داخلي خلف أي حكومة تتجه لقمع المقاومة، في حين أنه لو اقتصر العمل المقاوم على استهداف المستوطنين والجنود في الضفة الغربية لتفاقم الصدع الداخلي الإسرائيلي.
ثالثاً: كما كان الأمر في ثورة عام 1936 والانتفاضة الأولى لم تراع الفصائل قدرة الجمهور الفلسطيني على الصمود، ولم تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للجماهير الفلسطينية عند تنفيذها عمليات المقاومة، حيث كانت الجبهة المدنية الفلسطينية هي التي تمتص في الغالب ردة الفعل العسكرية الإسرائيلية، مما أدى إلى تحول الانتفاضة بالنسبة للكثيرين إلى كابوس يتوجب التخلص منه ولو عبر الدفع بالنخب التي تعادي تاريخياً المقاومة.
رابعاً: تركيز المقاومة على العمل المسلح جعل انتفاضة الأقصى نخبوية وتقتصر على عناصر الفصائل فقط، ولم يتم اسثمار جهود كبيرة في استحداث أنماط المقاومة الشعبية التي كانت كفيلة بتقليص هامش المناورة أمام الإسرائيليين في العمل ضد الفلسطينيين، علاوة على أنها كانت ستحد من اصطفاف المجتمع الدولى إلى جانب إسرائيل.
خامساً: لقد أسهمت الثقافة السائدة في التعايش مع الاحتلال بدلاً من مواجهته، فعلى سبيل المثال بدلاً من مواجهة الفلسطينيين الحواجز العسكرية التي تقيمها إسرائيل في الضفة الغربية والتي تقيد حرية الحركة وتحديهم لها واصرارهم على فتحها، فإنهم لجأوا إلى محاولة الالتفاف عليها والبحث عن طرق بديلة، وهذا ما ينطبق على الحصار المفروض على قطاع غزة، فبدلاً من تحدي الحصار عبر توظيف الجماهير في فتحه، تم اللجوء للأنفاق.
سادساً: لقد اثبتت الانتفاضة وما قبلها وما بعدها أنه لا يمكن الجمع بين الحكم والمقاومة في ظل تأثير الاحتلال المباشر كما هو الحال في الضفة الغربية وغير المباشر كما هو الحال في قطاع غزة، لأن المقاومة ستكون الخاسر الأكبر في الحالتين.
سابعاً: لم يسعف الوعي النخب التي قادت الفصائل الحذر من خطورة عدم مراعاة وجود نظام عالمي يحكم الحراك في هذا الكون، وليس من الحكمة تحديه. لقد تجاهلت الفصائل هذا النظام، مع أنه لعب الدور الأبرز في محاصرتها بعد ذلك. فالتضييق على عمليات تمويل المقاومة لم يكن لينجح لولا وجود هذا النظام الذي أوجد القنوات والآليات لمحاصرة المقاومة، فضربت الجمعيات والمؤسسات التي تدعم أبناء وعوائل الشهداء والأسر الفقيرة التي تضرر وضعها الاقتصادي بفعل القمع الإسرائيلي.
قصارى القول بدون إعادة تقييم شاملة لمسار انتفاضة الاقصى لن يكون بوسع الفلسطينيين استخلاص العبر من تاريخهم النضالي وتحسين قدرتهم على مواجهة الاحتلال وصولاً إلى انهائه والقضاء عليه.
لقد عبر وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي إيهود براك الذي يعتبر أكثر الإسرائيليين خبرة في محاربة الفلسطينيين عن يأسه من إمكانية قهر إرادة الفلسطينيين في المقاومة عندما قال لدى تحرره من الجيش عام 1995: " الفلسطينيون مثل الوسادة كلما وجهت لها اللكمات استعادت وضعها الطبيعي ". ولقد أثبت تاريخ الصراع مع الحركة الصهيونية أن المقاومة، لا التسويات السياسية ، هي الطريق الأوحد لإستعادة الحقوق الوطنية، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال عدم التحلي بالحكمة في خوض غمار هذه المقاومة.