بقلم : د.خالد الحروب ... 25.11.2010
يصعب تقديم إجابات شافية عن السؤال ثقيل الوطأة حول استعصاء المعضلات الكبرى التي تواجه العالم العربي ككل، أو بلدانه كلًا على حدة، ولماذا فشل العرب كجماعة ودول وأحزاب وشعوب ونخب في تخطي حالة الشلل والضعف التي ظلت ولا تزال تحيق بهم على مدار عقود طويلة. بل ولماذا أيضاً لا زالوا يفشلون في وضع حد لتواصل التردي بحيث تبدو كل سنة منقضية على رغم ما قد جاءت به من سوء وتردٍّ إضافي أقل سوءاً من السنة التي تليها. ولو بدأنا بنقطة زمنية، شبه اعتباطية، في المسار الكارثي الطويل مثل نكبة فلسطين عام 1948 وقيام إسرائيل في قلب المنطقة العربية وتتبعنا المسار العام بعدها، لرأيناه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن يتجه من السيئ للأسوأ. ويمكن القول إنه لم يكن يخطر على بال من عاصروا تلك النكبة تخيل حدث أسوأ منها قد يمر على حاضر ومستقبل العرب القريب، جماعة أو دولًا. ولكن ما حل بالعرب في العقود التي تلتها تحدى خيالهم وفاق أية توقعات إذ انفرطت سلسلة لا تنتهي من الانحدارات، من هزائم أمام إسرائيل، أو تفتت داخلي، أو ترسخ للاستبدادات، أو اندلاع حروب وصراعات عربية- عربية، أو نشوء استقطابات ومحاور حادة، أو تفاقم مريع في سوء توزيع الثروات واتساع أمدية الفقر، وكذلك تدهور معدلات ومعايير التنمية الإنسانية وتخلفها حتى عن الوسط العام للدول النامية، هذا وصولاً إلى التدخلات الغربية/الأميركية العسكرية في حربي العراق الأولى والثانية. ولو بدأنا بأية نقطة زمنية اعتباطية أخرى لنسخنا التحليل نفسه أيضاً. فكارثة حرب حزيران 1967 بدت وكأنها قاع الانحدار، ولكن سرعان ما تم تجاوزه بقيعان انحدارات متتالية بقيت تفاجئ كل مراقب. فقد جاء بعد ذلك الانقسام العربي بعد زيارة السادات إلى القدس واتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من ميزان الصراع العسكري مع إسرائيل. وتلاها غزو إسرائيل لجنوب لبنان واحتلالها لأول عاصمة عربية عام 1982، ثم اخترقت سلسلة الانحدارات طبقة قيعان أخرى إثر الغزو العراقي للكويت سنة 1990، ثم ما تلاه من كوارث نراها الآن ولا حاجة لتعدادها.
وبعض جوانب الإجابة يمكن تلمسه على أكثر من مستوى من المستويات التي تنامت وترسخت وتكاملت في ما بينها خلال عقود دولة ما بعد الاستقلال وأنتجت بنية ونظاماً أصبحا مغلقين على كل احتمالات التغيير سواء الداخلي التدريجي، أو الخارجي الجراحي. وتكاد تنطبق هذه المستويات أدناه على "العرب" كمجوعة بشرية في هذه الحقبة الزمنية من التاريخ، وعليهم كدول وشعوب منفصلة ومستقل بعضها عن بعض آخر. وإن قيل إنه من غير الموضوعية والعلمية افتراض انطباق هذه المستويات على كل بلد من البلدان العربية بسبب اختلاف ظروفها ومكوناتها، فإن مما يمكن أن يُقال أيضاً إن الاختلافات في تلك الظروف، وعلاقتها مع النقاش هنا، لا تصل إلى درجة الفروقات الجوهرية المانعة لانطباق النموذج التفسيري. وتشمل هذه المستويات والعوامل الثقافة الفكرية والسياسية السائدة، ونمط الحكم السائد متمثلًا في الاستبداد وغياب الديمقراطية، ونمط المعارضة السائد، ويتمثل في الموجة الإسلاموية ثقافة وإخافة، ومستوى الاستقطابات الإقليمية حيث استنزاف الجهد في تنافسات المحاور، ثم مسؤولية الشعوب وسيادة اللامبالاة وتراكم الإحباط، وأخيراً مستوى العوامل الخارجية متمثلًا في السياسات الغربية وإسرائيل.
ولا تحتمل هذه العجالة استنطاق كل تلك المستويات والعوامل ولهذا ستتوقف عند العامل الأول والمتعلق بنوع وطبيعة الثقافة السياسية والفكرية السائدة. وهنا نجد أن أنماطاً مسيطرة من الثقافة السياسية السطحية هي التي تخترق معظم الشرائح في العالم العربي سواء أكانت على مستوى الجمهور العام، أم على مستوى النخب والقيادات، وتعيق عملية هضم واستيعاب المشكلات على أسس عقلانية، وبالتالي تمهيد الوصول إلى حلول عملية. ومن المكونات المهمة لهذه الثقافة تبرز إلى الواجهة الشعاراتية والطوباوية والحنين إلى ماضٍ تليد وتسيُّد عدم الواقعية. فعوضاً عن مواجهة الحاضر الصعب والمرير هناك حضور شبه كامل لسيكولوجيا مدمرة موزعة بين الماضي والمستقبل. فمن ناحية أولى يستحوذ الماضي والعودة إليه والتغني بأمجاده على المخيلة العربية، وصورة هذا الماضي مُتخيلة أيضاً وهي ليست واقعية إذ تُنسج لوحة زاهية ومُشرقة وخالية من العيوب، وجزء كبير من ذلك سببه مناهج التعليم التي تتفادى التعرض للمراحل المظلمة والخلافية في الماضي العربي والإسلامي بما يقود إلى بناء صورة بالغة المثالية تجعل أي مقارنة مع الحاضر، سواء الخاص بالعرب أو حتى الغرب، عملية مرفوقة بتفاخر عريض وإحباط أعرض بسبب عدم إمكانية تحقيق المثال والنموذج المتخيل السابق.
ولكن الشلل الذاتي المرافق لنسج صورة ذهبية عن الماضي لا يتوقف عند لجم آليات التأثير الفعلي والنسبي والتدريجي في الحاضر، بل يطال المُستقبل وشكل "النهضة الجماعية" التي يتوق إليها الأفراد ونخبهم، حيث يتم التنظير لتلك النهضة والخروج من المأزق من منظور ماضوي يعيد إنتاج التاريخ المنقضي (الذهبي) على شكل مشروع مستقبلي. ويرافق هذه العملية الذهنية التي تتكون في اللاوعي الجمعي وتنعكس في الخطابات السياسية والفكرية والدينية كسل فكري وسياسي مريع واطمئنان خادع بأن "المستقبل لنا" وأن كل ما نواجهه في حاضر اليوم سينتهي إن آجلًا أم عاجلاً، لأن مستقبلنا "المشرق" سيكون استكمالًا لماضينا الزاهر. وبذلك يكتمل فعل سيكولوجيا الهروب الجماعي من الواقع باتجاهين، واحد باتجاه الماضي والتغني به، وثانٍ باتجاه المستقبل والأمل فيه، فيما يتم استرذال الحاضر ومشكلاته وقضاياه باعتباره مرحلة ظرفية عابرة تتسم بالانحطاط والتفكك لكنها وقتية. وهذا كله لا ينتج عقلية براغماتية وعملية تواجه بوضوح التحديات التي يتعرض لها الفرد أو المجموعة، وتجترح حلولًا لها، ولا تقبل أن تنام عليها أو أن تتركها برسم التصدير للمستقبل أو الإهمال العام بما يزيد من تعفنها ويفاقم من تأثيراتها المدمرة ويوسعها.
ولكن عامل الثقافة السياسية لم يكن ليشتغل بآثاره المدمرة لو لم تعاضده العوامل الأخرى المذكورة في مقدمة الكلام هنا. وهذا التعاضد قاد إلى وضع بالغ الصعوبة حتى لا نقول اليأس معلمه الأساسي استعصاء القضايا الاستراتيجية الكبرى على الحلول الناجعة. وما لم يتم الشروع جديّاً في تفكيك هذه المستويات واحداً إثر الآخر ولو على المدى الطويل فإن من غير المتوقع أن تبدأ أية معضلة كبرى من العيار الاستراتيجي في التفكك. هذا من دون أن يعني ذلك فرض علاقة شرطية استباقية تؤجل حل الكثير من القضايا إلى ما بعد تفكيك المعيقات البنيوية التي تحبط القدرة العربية على المستويات المختلفة. بل إن العلاقة تلازمية إذ يمكن أن تشتغل الآليتان بالتوازي وفي ذات الوقت وتدريجيّاً أيضاً: أي أن تفكيك مستويات الإعاقة الاستراتيجية يوازيه إنجاز في حل القضايا المُستعصية.