بقلم : د. خالد الحروب ... 14.12.2010
ثمة استسهال وتسطيح بالغ في أوساط كثير من المثقفين والكتاب العرب وغير العرب إزاء مسألة إعلان العداء المطلق للاستشراق، وخاصة بعد أطروحة إدوارد سعيد الشهيرة عن علاقة بعض مدارس الاستشراق البريطاني والفرنسي بالسيطرة الإمبريالية للدولتين آنذاك. ما من شك في حقيقة وجود استشراق تم توظيفه إمبرياليّاً واستخباريّاً في مراحل مختلفة، وصولاً إلى يومنا هذا، وهو ما يجب أن يُدان ويُكشف. لكن هذا النوع من الاستشراق ليس كل الاستشراق، بل الجزء الأقل والضحل منه. ففي مقابله هناك استشراق مدفوع بالرغبة في البحث والعلم والمعرفة، وهو استشراق درس التاريخ العربي والإسلامي ونقب عن المدونات الكبرى ليس فقط في الأدب والتاريخ بل وفي الأحاديث ومصنفاتها وفي الدراسات القرآنية. بل يمكن القول إن معظم الكتب التراثية التي بين أيدينا الآن هي من نتاج التحقيقات العلمية المضنية التي قامت بها مدارس الاستشراق. ومن المُمض أن نرى كل وارد جديد على حقل الثقافة يكرر بتعميمية ساذجة الشتائم ضد الاستشراق والمستشرقين من دون أن يدرك ماهية الموضوع الذي يتحدث عنه، ومن دون أن يكلف نفسه جهد النظر إلى رفوف مكتبته الخاصة ليرى أهمية الدراسات البحثية الاستشراقية.
والاستشراق لم يكن يوماً محصوراً في البريطانيين والفرنسيين، بل هناك استشراق ألماني وهولندي وروسي وحتى بولندي ولنا أن نسأل أي مؤرخ عربي متخصص في حقب زمنية ماضية إن كان بإمكانه أن يستغني عما أنتجه المستشرقون في مختلف الحقب. والتعامل المتوتر مع كل ما يأتي من الغرب يحول السجالات والنقاشات إلى معارك لفظية ساذجة. فهنا، وكما هو الحال مع تعبير "العلمانية"، أصبحت لفظة مثل "الاستشراق" أو "المستشرقين" مرذولة ومحملة بمدلولات ابتسارية غير معرفية تحيل المفهوم كله من دون استثناء إلى الاستعمار، وتجعل من كل مستشرق موظف استخبارات. وليس هناك باحث عربي في تاريخ الفكر العربي الحديث إلا واستخدم بإسهاب كتب ألبرت حوراني وغيره كثير. وليس هناك باحث عربي في تاريخ الدولة الإسلامية الأولى إلا واستخدم كتب يوليوس فلهاوزن وآدم ميتز وغيرهما وكل ذلك بسبب قيمتها العلمية العالية، وهو ما أدركه باحثون عرب ومؤرخون كبار مثل محمد أبو ريدة بما دفعهم لترجمة هذه الأعمال. فهل نختزل هؤلاء جميعاً وغيرهم مئات في التهمة الصبيانية السريعة التي تسمهم بالعمالة الاستعمارية وما سوى ذلك؟
والنقطة الأخرى المهم الالتفات إليها في هذا السياق، والمتعلقة بإبستمولوجيا النظرة لـ"الآخر"، هي أن الحضارة الغالبة تنظر دوماً نظرة دونية للحضارة المغلوبة. وفي الأدبيات التي تنشرها الحضارة الغالبة تجد كثيراً من الصور السالبة والاحتقارية لممارسات وثقافة المهزوم. وهذا وجد الكثير منه في جزء من الكتابات الاستشراقية الحديثة التي فكك مناهجها إدوارد سعيد. وهنا علينا أيضاً أن نتذكر أن هذا ليس حصراً على الثقافة الغربية في لحظة ظفرها ولجهة نظرتها إلى الثقافات الأخرى. فالثقافة الصينية احتقرت دوماً الثقافات المحيطة على قاعدة التباهي بعراقتها وإنجازاتها، وفي القرن الثامن والتاسع عشر احتقر اليابانيون كل محيطهم الجغرافي وفي احتلالهم له مارسوا أكثر البشاعات وعبروا عن ذلك في أدبياتهم. وفي التاريخ العربي والإسلامي نقرأ في كتب مهمة مثل مقدمة ابن خلدون أو ابن الأثير وفي كثير حتى من المصنفات الفقهية أوصافاً للشعوب الأخرى غير المسلمة بأنها شعوب "متوحشة" و"بربرية" وسوى ذلك. وفي العصر الراهن نحن أفضل حالاً من العصور المنقضية لأن أية أطروحة احتقارية أو عنصرية تصدر حتى من الحضارة الغالبة تتعرض لنقد شديد وتوضع تحت الضوء وتحارب. أما إدوارد سعيد فقد صُنف على مدار عدة سنوات كواحد من أكثر المثقفين العالميين تأثيراً، وهو من قاد الحملة العالمية والتاريخية، ضد الاستشراق الإمبريالي الغربي، على رغم انسياقه لتعميمات وإصداره أحكاماً فضفاضة أحياناً. وهكذا تتم أسْطرة أحد أهم نقاد ممارسات الحضارة الغربية كواحد من أهم أعلام النقد الكونيين في عصر غلبة تلك الحضارة. وما كان بإمكان ذلك أن يحدث في مراحل سابقة من التاريخ الإنساني، أي أن يخترق خطاب مقاوم للحضارة الغالبة الحدود التي تسيطر عليها تلك الحضارة ويصبح أحد عناوين الثقافة الإنسانية.
إن الفهم المركب المطلوب للاستشراق، الذي بالكاد نجده وسط النخب المثقفة، يختفي بشكل شبه تام عند الانتقال إلى الرأي العام الواسع في العالم العربي والإسلامي، حيث تسيطر الشعبوية على هذا الرأي وتوجهاته. فثقافات الشعوب وممارساتها تفترق من ناحية العمق والدرجة عن ثقافات وممارسات نخبها. والشرائح الواسعة والعظمى من الناس تستحوذ عليها اهتمامات يومية وحياتية هي التي تستنزف تفكيرها ووقتها وجهدها ولهاثها الطبيعي. والنخبوية، وكما يشير اسمها، لها سمات مختلفة ودائماً محدودة الدوائر. ولكن الشيء المهم هنا، الذي يشكل فارقاً مهمّاً بين المجتمعات هو اتساع القنوات بين النخب وما تنتجه من ناحية ومجتمعاتها من ناحية ثانية. فعبر هذه القنوات يتم تسويق وترويج الأفكار التنويرية لقواعد عريضة. وتوفير هذه القنوات منوط بالشكل الاجتماعي والثقافي والسياسي في تكوين ما. فإن كان هذا الشكل يقفل هذه القنوات ويحشر النخبة في زوايا بعيدة وضعيفة التأثير في الرأي العام فإن كل الأفكار المنتجة لا تلقى صدى وتطبيقاً، وتظل على الأرفف. وأحد الفروق بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتأخر في الزمن الحاضر يكمن هنا بالضبط: أي في رحابة قنوات الاتصال بين الأفكار الجديدة والثورية التي لا تني عن الظهور، والرأي العام على أوسع نطاق ممكن. وعندما تعاني تلك القنوات من انسدادات محبطة فإن تلك الأفكار تتجمد في الكتب والأدبيات. ونحن نعيش هذا الانسداد منذ عهد جمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده، إلى الآن. وكل ما يتصل بالفكر التنويري يتم إغلاق قنوات اتصاله مع الجمهور. وفي المقابل يتم تسهيل وفتح قنوات كل ما له علاقة بالفكر الانغلاقي والشعبوي الذي يثير العواطف على حساب العقول.