بقلم : زهير ابن عياد ... 02.05.2010
طريق تجاري: كان النقب حتى رفح بمثابة موقع وطريق تجاري استراتيجي على مرّ الازمنة يربط دول مستقلة ببعضها البعض يقول الشيخ عثمان الطبّاع في كتابه "اتحاف الاعزة في تاريخ غزّة" أن غزّة كانت بقعة عامرة زاهرة, قصدتها قريش للتجارة وهي تجارة الصيف وسميت غزّة بحمراء اليمن, وقد الفها العرب لخصبها وتوطنها الكثير منهم قبل الإسلام, وغزّة كانت محطة مهمّة لعربان النقب, وملتقى تجاريّ يزوّدتهم بحاجيّاتهم الاساسيّة من بُنّ وبهار وزيت... وتطرقت لذلك المؤلف لما ترتبط به غزّة كونها موقع وطريق تجاريّة مهم مع عرب النقب... وفي الارشيفات التركيّة كان عُربان النقب يُسمّون بعربان غزّة.
إذا غزّة ملتقى لتجار العرب قديماً وحديثاً, قصدوها من كلّ فجّ ولا شكّ أنها شكّلت ملتقى اساسي لعربان الجزيرة وعرب النقب, وبنظرة سريعة إلى خارطة النقب يتبيّن لنا مدى اهميّته الاستراتيجية قديماً لا ادلّ على ذلك من وجود تلك الخرائب الحضاريّة متناثرة في ربوعه من آبار واحواض وصهاريج التي أتَتْ كمراكز للدول الاستعمارية القديمة كالرومان والبيزنطيين والترك وغيرهم.
واني لاملك نظريّة اسوقها لكم بحذر, وهي أن النقب كان مصدراً في بعض الازمنة للحبوب باراضيه الخصبة التي فلحوها بالقمح والشعير والبذور الأُخرى ومدّوا تجار البلاد بها, وإلاّ كيف تمكّن اجدادنا من الاستمرار في هذه الارض دون وجود محفّز أو مصدر قويّ يشكّل لهم الحماية اللازمة لاستمراريّة العيش. وبالعودة إلى روايات التاريخ وما يرويه العارف بان خربة الخلصة "عشرون كيلومتر جنوب بئر السبع من اراضي العزازمة" كانت ذات صلات تجاريّة وثيقة مع البتراء بالإضافة إلى أنها مركز مهم على طريق القدس ومصر "سيناء" وتتواجد كذلك على الطريق الرابطة بين العقبة وموانئ البحر المتوسط. إذا النقب كان بمثابة مركز وطريق تجاري حيوي يربط بين مصر والعقبة وبين الهند وجزيرة العرب, ولا يخفى عليك مدى التبادل التجاريّ القديم بين بلاد الهند وجزيرة العرب ببخورها وبُنّها وتوابلها...
-الطوبونوميا: نستطيع أن نتلمّس الحضور الحجازيّ النجديّ والتهاميّ بمُجمل اراضي ومحال النقب, إذ نرى أن معظم اسماء الاماكن ذات اصول من الجزيرة العربيّة اذكر منها: تل الحسي وهناك منطقة في الحجاز تدعى الاحساء, والعوجا وهنا منطقة بهذا الاسم في الجزيرة العربية وكانت من مساكن اجداد آل السعود. وعصلوج وعبدة وخربة عمر, تل الملح, السعدي, وسبيطة.ووجدت بعض البدو يسمي المناطق باسمائها الاسلامية القديمة من ذلك ما سمعته من جدي اذ تذاكر هو واخر بلاد عمان والشراة وكذا اسماء القبائل وبطونها مثل عيال سليمان, والظلاّم "وهو لقب كلاسيكي موغل في الثقافة النجديّة" عمار بن عجلان, بني عقبة, بلي, بني عطيه... اضافةً إلى أننا ما زلنا نلحظ بعض القبائل تحتفظ بنسبها الاصليّ كبني عقبة وبنو اسد من ربيعة وبلي... فالسمة الغالبة كانت واستمرت مع عرب النقب هي ارجاع نسب العائلة باكملها إلى احد الاجداد السلف. في اتجاه مماثل نرى تشابه في اطلاق الأسماء بين الجزيرة وعرب النقب على الاماكن خاصةً الوديان والجبال والاراضي والآبار واحواض المياة كمسمياتهم, وادي سيّال, بير أو تل الملح, بير بن عتيق, بير بن عرفان,وكذلك ربط اسم العشيره بالارض كتل ابو محفوظ وكلّ هذا بالطبع امر متعارف عليه في البيئة القديمة لعرب الحجاز ونجد, وغير ذلك من اطلاق الصفة الغالبة للمنطقة كاسم لها وكما اسلفنا فان الجزيره العربيه تشترك في مسميات كثيره مع اهل النقب فهناك منطقه في الجزيره تسمى المشاش وكذلك الامر في بلاد النقب اذ عرفوا منطقه باسم المشاش وكذلك الجرّة كونها تشبه الجرّة, وهنا اودّ أن استوقفكم قليلاً هل يا تُرى صُدفة أُطلق على منطقة في النقب الجرّة وامرؤ القيس يقول:
تعد وتبدي عن اسيل وتتقي بناظرة من وحشي وجرّة مطفل
والجرّة التي ذكرها الشاعر هي اسم مكان, وكما قال النابغة:
من وحش وجرّة, موشيٍّ اكارعه لطاوي المصير, كسيف الصيقل الفرد
والجرّة هنا أيضاً اسم مكان كثير الوحوش يقع في الحجاز, فهل هذه رسوبات بقيت تتوارثها الأجيال عن الجيل المهاجر, خاصةً إذا كان هناك طرف خيط باحاديث جدي عن أن جرّة النقب كانت قديماً مرتع للسباع والوحوش وهي مكان قفر خالي, هناك ايضا منطقة في بلاد النقب تحديدا في بلاد الفرعه تسمى النجد , والنجد في اللغه المكان المرتفع , وهناك بلاد مشهوره في الجزيره العربي تعتبر موطن رئيس للعرب القدامى تدعى نجد , كذلك نجد هناك اشتراك في ثقافة معيّنة عند الطرفين النجدي الحجازي الجأهليّ وبدو النقب إذ أن البدو هُنا ينسبون الآبار والمياة إلى قبيلة معيّنة, وهي صاحبة امرها في الصدور والورود كما كانت آبار الملح لقبيلة الظّلاّم مثلاً, وهذه سنة قديمة في تقسيم المياة بين قبائل الجزيرة كما قالوا في وادي الجريب وهو مشرب لغطفان:
كلّ بني فانه يحسيني إلاّ الجريب فانه يرويني
وقيل
تظلّ الاماء يبتدرون قديمها كما ابتدرت سعدٌ مياة قراقر
في اتجاة شبيه نلفت العناية بالنسبة لمصطلح الرجم وهو بمثابة الحدّ أو المشراف, وكثر الرجم في حكايات وأشعار أهل الحجاز ونجد قديماً كونه من دلائل الاطلال وبكيا الحبيب وفي النقب نلحظ استمراريّة هذه الأمور فقالوا: رجم ابن سلاّم, رجم البلوي وهي خربة , رجم البرارة, هذا ونحن في غنىً عن المزيد ما دامت اللغة اكبر دليل في هذه الثقافات من استعمالات لمفردات قديمة جأهليّة بحدّ ذاتها كاقوالنا: حدر وهي منحدر, التلعة-العدنة التلّة, بطن الجبل وهي السهل المحاط بجبال يقول امرؤ القيس:
فلمّا اجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خًبْتٍ ذي حِقافٍ عقنقل
- العادات والتقاليد: لا نكاد نلحظ أي اختلاف بين عوائد أهل الحجاز وعوائد أهل النقب قديماً وحديثاً, فصفات وطبائع الرجل البدويّ في النقب ورثها أو استنسخها عن أهل الجزيرة العربيّة من كلام وتصرفات وأعمال وحتى الصفات البدنيّة المنتشرة هناك نجدها هي ذاتها المستعملة عندنا من جلوس سواء في مجلس أو على الاكل, ومن طرح التحيّة والسلام, وكذلك لون بدوي النقب الذي يميل إلى السمار أو اللون الصحراويّ كما هو حال أهل الجزيرة العربيّة.فالبدو من قديم التاريخ نحفاء يميلون الى الطول والسمره ذوي بنية ضعيفة في طياتها خشونة وغلظة , ويمقتون البدانة كذلك حاضرا وقديما , فهذا زميل بن ابير يهجو شخصا لسمنه ويفضل نفسه عليه بالخفة والنشاط :
خلقت على خلق الرجال بأعظم _ خفاف تطوّى بينهنّ المفاصل
ولست بربل مثلك احتملت به _ عوان نأت عن فحلها وهي حافل
وقال اخر يهجو بني سعد :
يروعك من سعد بن عمرو جسومها _ وتزهد فيها حين تفتلها خبزا
اللباس البدويّ التقليديّ المنتشر "عدّة عرب" بمجموع بوادي العالم الإسلاميّ خاصةّ بين كبار السنّ من ازار وغطاء للرأس وهو المعروف عندنا بالكبر والعباة والمنديل والمرير, والتحزّم بنوع من انواع السلاح أن كان قديم أو حديث, ما هو إلاّ لباس مستقى من ظروف صحراء الحجاز ونجد القديمة, والناظر إلى صور شيوخ النقب القديمة يرى مدى الهامة والكأهل العربي, وكان بدو النقب لا يحلقون شعورهم وهذه عادة متاصلة جذورها في عرب الحجاز ونجد منذ القدم واشتهروا بصنع الغدائر من الشعر وهي الذؤابة والتي عرفها البدو بلفظ الجدائل ومفردها جديلة قال أبو الحارث:
غدائره مستشزرات إلى العُلا تضلُّ العقاصُ في مُثنى ومُرسل
اما المراة البدويّة في النقب فحالها ليس بعيد عن تلك الحجازيّة أو النجديّة في الأعمال والوظيفة, ولبسها وتستّرها حتى ادواتها التي تملكها للزينة هي كتلك من كحل وغيره... اضافةً إلى استعمالها للنباتات الطبيّة الصحراويّة كالخزامي والنفل والزقوح والشيح... ولا يخفى عليكم أنه حتى اليوم ما زالت هذه الاعشاب تُردّد في الشعر النبطي... كما أن الاحترام الذي تلقاه المراة البدوية من تقدير لمقامها وصون شرفها ما هو إلاّ من اثار البيئة الحجازيّة والنجديّة بحيث كانوا ينادون على المرأة بـ يا ام فلان وهي من سمات التشريف عندهم, ومن عادة العرب في النقب على قِدمها اعتدادهم بالشقيقات والبنات حين نزول الملمّات كقولهم " وان اخو وظحه" ون قُبيل هذه العبارات كان الشعراء الجأهليّون يردّدونها كثيراً كرموز عربيّة بدويّة...
ومن العادات المتشابهة أيضاً عمل الولائم والعزائم وجمع ابناء العشيرة "فيما يُسمى بالقِرى قديماً" واكرامهم وهي صفة عربية شريفة منذ القدم امتاز بها العرب. ولفظة القِرى كمفهوم ما زالت قائمة بين عربان النقب التي يتبادر إلى اذهاننا حين نطقها قِرى حاتم طي المشهور وقِرى عبد الله بن جدعان, كدلالات على سموّ ورفعة الكرم العربيّ والبدويّ خاصةً.
وتتشابه عادات القوم كذلك في مجالات الفنّ الذي غدا اليوم فنّ تراثي تقليديّ, ومن الفنّ المعروف لدى الفئتين وما زال يُردّد الدحيّة والسامر والهجينيّ والحداء والزجل, يقول زياد النابغة واصفاً نفسه من على ظهر ناقته:
تجتاب ارضاً إلى ارضٍ بذي زجل ماضٍ على الهول هاد غير محيار
والزجل الذي عناه النابغة هو الهجيني أو الشعر العامي الذي يغنيّه, هذا الزجل كنّا نلاحظه قديماً عند بدو النقب, في ظعنهم على الهجن وحتى عهد قريب كُنّا نشاهد الهجانة في لعبهم امام بيوت الاعراس يغنون بصوت عالٍ. وما زال هذا الزجل يردّد في الافاق الخالية, فإذا شعر البدوي بالوحدة مدّ صوته بالزجل. وهذا شاعر بدوي معاصر من النقب يقول:
غروب اهيجن على ناقتي اطرد وحشة ظلام الليل وسكونه
ومن العادات المتجذّرة جأهليّاً ويستعملها عرب النقب هي ادعية السقيا والغيث.