بقلم : رشاد أبوشاور ... 25.11.2010
*'ويقول الرصيف' لمحمد لافي:
يتساءل محمد لافي في عمله الشعري الجديد (..ويقول الرصيف)، بمرارة وغضب: ترى هذي بلادي أم بلاد الروم؟!.
وهو بهذا المقطع يحيلنا إلى المتنبي:
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل
ويمضي على الرصيف، بعد الرحيل عن (بيروت)، مترحلاً في شتات جديد، في زمن الخسارة، حيث يسقط الأصدقاء متخلين عن المبادئ، لا شهداء في الميادين، مُخلفين في القلب حسرات تضاف إلى الفواجع التي عصفت بالأحلام والوعود، التي رُفعت مداميكها من لحم ودم وبطولات، وتضحيات مجيدة.
كدأبه يطلق لافي في عمله الشعري الجديد ـ ولا أقول آخر أعماله، فهو شاعر متجدد، لا ينضب، كونه يمتح من تجربة عميقة غنيّة، وموهبة أصيلة ـ قصائد مركـّزة، مُكثفة، مشحونة، باتت واحدة من سمات تميّزه، وهذا ما لفت إليه انتباه الناقد الكبير إحسان عبّاس، الذي رأى في لافي أحد أهم شعراء القصيدة القصيرة.
في قصيدة (مقاومة) يأتينا صوت الشاعر:
أقول: كم تراجعت خيل، وكم
تكسرت سيوف
لكنما اثنان لم تطلهما
سهام هذي الرحلة (الخريف):
الشعر..والرصيف!
هذه القصيدة البيان تنبّه القارئ والمتلقي إلى عناد الشاعر، فهو لا يتخلّى عن (الشعر)، ولا عن (الرصيف)، فالشعر سلاحه، والرصيف متراسه الذي يطّل منه على ما يجري في الشارع غير المعافى، الشارع المُحتّل ممّن هم ليسوا أصحابه، ومن الرصيف يطلق قصائد غضبه ومقاومته في الزمن الخراب.
في افتتاحية (العراء)، يُقدّم لافي بقصيدة (ويقول الرصيف) التي تشبه (البرولوج)، مشهد الافتتاح في المسرح:
كلنا في العراء سواء
لا شموخ ولا كبرياء
ويقول الرصيف: أنا ترجمان الهزائم
أنّى اتجهتم، على كافة الجبهات
واختصار المسافة بين الشرائح والطبقات
ويقول الرصيف: ببحري تصبّ الخطى
من جميع الجهات القصيّة
وعليه أوقّع: إني أنا الأمة العربيّة!
مأساة الشاعر ليست فرديّة، هو لا يصرخ غاضبا مقهورا لأسباب شخصيّة، فهو مفجوع بحال أمته العربيّة الغائبة عن الشارع، الأمّة التي باتت تواصل حياتها البائسة (الرصيفيّة)، بعد أن رُمي بها على رصيف الأمم، والشعوب، والحياة، والزمان، مُمتهنة، مبطلة الفاعلية، تعاني من عطالة مزمنة!
الصعلوك محمد لافي يُطلق من الرصيف قصائده زفرات، لعنات، إدانات، تحذيرات. إنه صوت الغضب في زمن الخنوع، والذل، والخذلان.
لم ينتبذ الشاعر لنفسه مكانا قصيّا، فالرصيف مطلّه، ومكان مُراقبته، على امتداده يمضي، فإن توقف فليفصح لناسه عن وجعه ـ وجعهم، يرقّ أحيانا، وينفجر أحيانا، وفي كل الأحوال هو لا يمدح، ولكنه يهجو، وفي حياتنا قبائح كثيرة تزحم العيون والأنوف، السمع والبصر، جديرة بالهجاء.
في زمننا ثمّة في الشارع من يزوّر، ويُفسد، وينتحل، لذا يهجو لافي في واحدة من لافتاته، وعنوانها ينطوي على السخرية (مسؤول ثوري)..(الأبطال) المُزيفين:
رجل المهمات الصعيبة
في الزمان (الشين)
أنى تحط به الرحال تجد مراسمه
على الصفين
لكنه سيظّل لغزا، حيث لا تدري إذا
فتشت عن نسب له...
(قرعة أبوه من وين!)
لا عجب من الهجاء والسخرية، فنحن نعيش في زمن (الثوريين) الذين كلما ازدادت خسائرنا، تراكمت مكاسبهم الشخصيّة!
بين شعر الهجاء والسخرية وفنّ الكاريكاتور ما هو مشترك: إبراز ما هو قبيح، بحيث يظهر على (حقيقته)، ويصير أكثر عارا.
ولأن لافي يعرف معدن الرجال، ونوعيتهم، ما هم خليقون به، وما يليق بهم، فهو يُنشد لهم في قصيدة (الرجال):
الرجال السند
الرجال الذين إذا انتُدبوا
واحدهم ببلد
هكذا بسلاسة يُضمّن لافي عبارة (واحدهم ببلد)، فتحيل إلى أهلنا البسطاء بنبلهم وشهامتهم، وتقديرهم للرجولة بما هي قيم، وليست رجولة الفحولة على النساء، بل رجولة من يُضحّون، ويهبـّون للنجدة، لأنهم :
يُقيمون في لغة الاعتراض
هؤلاء الرجال لا يفرطون بالبيوت - الوطن، فهم الاعتراض ـ المقاومة في وجه العدو، وهم من يحتفي بهم الشعر- الكتابة:
الرجال السؤال الذي ظلّ
دون إجابة
هكذا يتركون قناديلهم،
ودخان بيوتهمو..في الكتابة
شاعر رصيف الغضب لا يستجيب لمن أبعدوه عن الشارع، وهو يصون ذكرى من رحلوا في (الكتابة) المنحازة، والكتابة شعرا ـ ونثرا تختزن ما يُخصب الذاكرة، ويصونها، ويسلّح بها من ينتظرهم (الشارع).
يكتب لافي مأخوذا بالوطن، بحضرة الوطن، هو المتصوّف ـ المترفّع، المتماهي بالوطن، ابن التجربة ، ابن الأرض، ابن أولئك الذين نشأ وتربّى على أصالتهم، وامتلائهم بالكبرياء، والانتماء، وتقاسم الهمّ، ورغيف الخبز، والاحتفاء بالحياة والأمل، رغم ما مرّوا به من فواجع.
البيت- الوطن، البيت البسيط العادي الأليف، ينشد له لافي بغنائية بعد قصيدة الرجال، وكأنه يقول للمتلقّي: من أجل هذا البيت رحلوا، فلنبقهم في الكتابة والذاكرة، نبعا دفّاقا للوعي الفردي والجمعي.
البيوت البيوت
دخان الطوابين سر القرى
نايها المتجدد..في الزمن العنكبوت
... ... ...
والبيوت السطوح التي
فوقها يستريح القمر
والبيوت الكلام المراهق بين حبيبين
حبّات توت
يكتب لافي (البيوت) لتكون زادا لمن لم يعيشوا في كنفها، وتلك البيوت ..(هناك)، فلا بيوت غيرها تمنح الأمان في الشتات، والمنافي لا تنسيها للولد ـ الشاعر الذي عاش تحت سقوفها، وعلى سطوحها، مع القمر والنجوم:
تلك البيوت:
التي غيبتها الجريدة
البيوت التي زوجوها الزمان المقايض
لا تهمّ المفاوض!
هكذا ينهي لافي قصيدة 'البيوت': لا تهم المفاوض!.. هذا المفاوض الذي (رُصفنا) في زمنه، بعد تغييب زمن الرجال.. في زمن (أشباه) الرجال!
يستعيد لافي (العوجا) و(زمنها)، و' العوجا' مكان كان شبه قفر قبل أن تتوافد إليه أفواج اللاجئين بعد نكبة 48، وهو أحد مخيمات (أريحا).
بفضل كدّ وكدح أولئك اللاجئين تحوّلت المنطقة حول المخيّم، في سنوات قليلة، إلى حقول وبيّارات، ولتحلّ البيوت البسيطة المبنيّة من الطوب، والمسقوفة بحصر البوص والأخشاب والطين، حيث يجلس على أسطحتها أهل العوجا صيفا، متأملين القمر والنجوم مبتردين من حرارة (الأغوار) التي تشويهم في نهارات الصيف القاسية.
في (العوجا) عاش أبناء القرى، تزاوجوا، التحق أطفالهم بالمدارس، وعمل الرجال في الحقول، والأمهات جمعن ما تنبت الأرض، ومما جمعن أعددن الطعام للأسر الفقيرة الكادحة.
في (العوجا) نبت الأمل بالعودة القريبة للقرى التي هُجّر منها من جمعتهم أقدارهم بعد النكبة. وفي (العوجا)، وبقوّة الروح، وحب الحياة، تزاوجوا، وبرعم الحب في القلوب الغضّة، ونبتت الألفة.
رغم قسوة الحياة في المخيّم ازدهرت العاطفة الإنسانيّة، هناك عاش محمد لافي حتى نكبة حزيران (يونيو) 67، طفولته وبدء فتوته.
في المنافي حمل لافي (العوجا): الطفولة، الحُب، ورغم حزيران (يونيو) لم يفقد الأمل، ولم يسقط في وهاد اليأس، فرجال الاعتراض- المقاومة رعوا الأمل الذي أينع شعرا وحداءً لقافلة العودة..إلى أن كان (الرحيل)، أو(الترحيل) عن بيروت عام 82، رغم معركتها المجيدة، والدفاع عنها ببسالة.
تشرّد لافي من جديد، والأقسى من التشرّد هو ما آلت إليه الحال في زمن (المفاوض)، زمن التخلّي عن الوطن، والرضى بما (يعد) به الاحتلال في الزمن الأمريكي الصهيوني!
في قصيدة طويلة من (مقامتين) للعوجا، نقرأ مدخل المقامة الأولى:
سقطت قوافي الليل و (العوجا) على الشبّاك
هذا الطفل تعرفه،
وتعرف بيته الطيني
تعرف لعبة (الغمّاية) الحارات
لقاء الشاعر بـ (العوجا) يبدأ من الطفولة، من حارات المخيّم عندما كان يلعب مع أقرانه لعبة (الغمّاية)، حافي القدمين، وعلى راحتيه خُضرة أوراق أشجار الموز، خُضرة الأمل...
اللقاء مع العوجا لقاء بالمكان الأليف، بالطفولة، لقاء بالأرض ـ الأم، والمفجع أنه يتمّ عن بعد، والشاعر في الستين، وما أدراك ما عاناه منذ رحل عن (العوجا)!
العوجا مخيّم على أرض فلسطين، والمثل يقول: الحجر في أرضه قنطار..ولأن (الفتى) ليس حجرا، ولأنه يعرف قرية أبيه وأمّه، فإنه عاش مع الأيّام راعيا للأمل بالعودة إلى قريته غير البعيدة عن العوجا.
إذا كانت العوجا تنتظر كما الأم، فإن فتاها قد صار في الستين، ممتلئ الروح بالطعنات والهزائم، هو ابن الجيل الذي تسلّح بالإيمان بتحرير فلسطين، ولها كتب وأنشد و..حمل السلاح، وتحمّل الخسارات واستبسل وصمد ..إلى أن توّجت المسيرة بالخذلان، فقوّى روحه بالشعر، وواصل عناده بغضب (من) موقعه الرصيفي.
في المقامة الأولى يعود الشاعر إلى براءة ووعود الطفولة، ولكنه يذكّر بأنه يعود وهو في الستين، يعود ممتلئا حنينا، ولا يلتقي بالعوجا الساهرة المنتظرة على الشبّاك في ليلها الطويل، ليل الاحتلال ، ليل خراب كل ما خضّره من رحلوا عن العوجا..والاحتلال تصحير وإفقار ونهب وقتل.
في لقاء الشاعر الستيني الكهل بالعوجا، تأتي العوجا بكامل بهائها، وشاعريتها، وحنوها، وصبرها، وتنتهي المقامة الأولى بتساؤل مُر:
من هذا القروي على ناصية الشارع
يقرأ كل وجوه الأحياء / الأموات
ويقدّم أوراق سفارته مكسور الحلم...
إلى زمن فات؟!
ولكن الزمن الذي فات فات، ولأنه في ستين الخيبات والانكسارات، فإنه يتساءل في المقامة الثانية للعوجا:
من شرفة الستين
أُطل مُجهدا على خرابي المكين
وأسأل الفتى الذي قد كنته:
هل مرّت (العوجا) كأي كذبة
في دورة السنين؟!
بعُد العهد بالعوجا، وطال عنها الغياب، وغيّبت رحلة الآلام الحلم ، ولذا يشتد الحنين والشوق للطفولة التي نأت زمانا ومكانا.
يصيح الشاعر مفجوعا لائما النفس على الرحيل عن العوجا:
أُعاتب من؟ وها إني سليل ندامة
ما زال هاتفها يرنّ ..يرنّ: لا ترحل
عن (العوجا) فمن يرحل عن (العوجا)
يضلّ النجم لـ (العوجا) وتأكله الذئاب
الندم!.. ولوم النفس التي لم تسمع نداء (العوجا): لا ترحل، لأن من يرحل عن العوجا- الوطن، سيتشرّد في المنافي، وستناصبه مُدنها العداء...
يخاطب الشاعر (العوجا):
لك الحضور ..ولي امتدادات الغياب
العوجا ستظل دائمة الحضور، فهي لم تكن (كذبةً ) يوما، ولأنها كذلك فإن ابنها وفتاها، وإن اكتهل، سيحمل حضورها في روحه، وقصائده، وينشد لها من أي رصيف من أرصفة تشرّده ومنافيه.
لا غرابة أن يختم الشاعر مقامة (العوجا) الثانية بالندم الجارح، وهو أبعد من أن يكون ندما شخصيّا:
هل كان ينبغي أن تشهد (العوجا)
عشاءك الأخير
وأن تظلّ في غياهب الدروب ساحب
الخطى
كأي كلب هارب من المصير!
لا يهدهد لافي جراح الفلسطيني، بل ينكأها باللوم، وهو بهذا يضعه - أي الفلسطيني، في الوطن، تحت الاحتلال، وفي الشتات، في مواجهة خيار واحد: لا بدّ من التشبّث بالوطن، والبقاء على ثراه مهما كان الثمن، ومن المقاومة حتى تكون العودة (للعوجا)- الوطن ..قرى، ومدنا، حقولاً، وبحرا، وهو ما يضحّي الفلسطيني لبلوغه منذ عشرات السنين، في رحلة تتميّز بالتضحيات، والبطولة الفرديّة والجماعيّة..والدم، والعناد..وقيادات (التفاوض)، والأبطال المنسيين والمعتّم عليهم!
محمد لافي شاعر عاش التجربة، وهو رغم (الكهولة) لم يصمت، بل يتجدد، وقصيدته تتطوّر من عمل شعري إلى آخر، وهذا ما يتجلّى في آخر أعماله (.. ويقول الرصيف).
قصيدة لافي واضحة، عميقة، أصيلة، لا غموض فيها، وهي قصيدة حيّة، معاصرة، و(حديثة) حقّا.
في قصيدة لافي تضمين، من القرآن الكريم، والمأثور الشعبي أمثالاً وأقوالاً مأثورة، ومن (جدّه) المتنبي..الأكثر حداثة ومعاصرة من كثير من شعراء يعيشون في القرن الحادي والعشرين، ما إن تنشر قصائدهم حتى تنطفئ وتموت، لأنها ليست (بنت عيشة)!.
في قصيدة لافي تأمّل المُجرّب، ابن المعاناة، وهذا ما يقرّبه من قُرّائه، ومتابعي مسيرته الشعريّة.
بدأب، وعلى مهل، وبأناة، كوّن لافي فضاءه الشعري، وحقق مكانة لائقة بمسيرته الشعرية المديدة. وهو بمجموعته الجديدة يضيف لمسيرته، ويؤكّد على غنى صوته وتميّزه.