بقلم : د.فيصل القاسم ... 18.09.2011
رغم أنه كتبها قبل أكثر من مائة عام إلا أن قصة الأديب الروسي الشهير أنطون تشيكوف الموسومة بـ "المُغفّلة" تبدو وكأنها من وحي عالمنا المعاصر لما فيها من إسقاطات اجتماعية وسياسية واقتصادية رائعة. وكغيرها من الأعمال الخالدة فهي تصلح لكل زمان ومكان، وهي تنطبق على الدول والحكومات والجماعات والأفراد دون استثناء. ولا شك أن كل قارئ يمكن أن يستخلص منها الدرس الذي يناسبه في أيامنا هذه حيث تحول العالم إلى ما يشبه غابة كبيرة مترامية الأطراف، والويل كل الويل للمخلوقات الضعيفة المستسلمة التي لا تعرف كيف تذود عن حماها ولقمة عيشها، فتصبح فريسة لمن هب ودب. آه كم يحفل عالمنا بأشباه بطلة القصة "يوليا"! وكي لا نبتعد كثيراً، لنقرأ معاً هذه القصة القصيرة جداً، وبعدها بإمكاننا أن يراها كل منا من زاويته الخاصة.
"منذ أيام دعوتُ إلى غرفة مكتبي مربّية أولادي يوليا فاسيليفنا لكي أدفع لها حسابها، قلت لها: اجلسي يا يوليا...هيّا نتحاسب...أنتِ في الغالب بحاجة إلى النقود، ولكنك خجولة إلى درجة أنك لن تطلبينها بنفسك... حسناً.. لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر. قالت: أربعين. قلت: كلا.. ثلاثين..هذا مسجل عندي... كنت دائما أدفع للمربيات ثلاثين روبلاً... حسناً لقد عملت لدينا شهرين، قالت: شهرين وخمسة أيام. قلت: شهرين بالضبط.. هكذا مسجل عندي.. إذن تستحقين ستين روبلاً.. نخصم منها تسعة أيام آحاد.. فأنت لم تعلّمي كوليا في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معهم فقط.. ثم ثلاثة أيام أعياد. تضرج وجه يوليا فاسيليفنا، وعبثت أصابعها بأهداب الفستان ولكن لم تنبس بكلمة. واصلتُ... نخصم ثلاثة أعياد، إذن المجموع اثنا عشر روبلاً، وكان كوليا مريضاً أربعة أيام ولم تكن تدرس.. كنت تدرّسين فاريا فقط.. وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك فسمحتْ لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء.. إذن اثنا عشر زائد سبعة.. تسعة عشر.. نخصم، الباقي..هم.. واحد وأربعون روبلاً.. مضبوط؟ احمرّت عين يوليا فاسيليفنا اليسرى وامتلأت بالدمع، وارتعش ذقنها.. وسعلت بعصبية وتمخطت، ولكن، لم تنبس بكلمة. قلت: قبيل رأس السنة كسرتِ فنجاناً وطبقاً.. نخصم روبلين.. الفنجان أغلى من ذلك، فهو موروث، ولكن فليسامحك الله!! علينا العوض.. وبسبب تقصيرك تسلق كوليا الشجرة ومزق سترته.. نخصم عشرة.. وبسبب تقصيرك أيضاً سرقتْ الخادمة من فاريا حذاء.. ومن واجبكِ أن ترعي كل شيء فأنتِ تتقاضين مرتباً.. وهكذا نخصم أيضا خمسة.. وفي العاشر من يناير أخذتِ مني عشر روبلات. همست يوليا فاسيليفنا: لم آخذ. قلت: ولكن ذلك مسجل عندي. قالت: حسناً، ليكن. واصلتُ: من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين.. الباقي أربعة عشر.امتلأت عيناها الاثنتان بالدموع.. وظهرت حبات العرق على أنفها الطويل الجميل.. يا للفتاة المسكينة. قالت بصوت متهدج: أخذتُ مرةً واحدةً.. أخذت من حرمكم ثلاث روبلات.. لم آخذ غيرها. قلت: حقا؟. انظري وأنا لم أسجل ذلك!! نخصم من الأربعة عشر ثلاثة، الباقي أحد عشر..هاهي نقودك يا عزيزتي!! ثلاثة.. ثلاثة.. ثلاثة.. واحد، واحد.. تفضلي. ومددت لها أحد عشر روبلاً.. فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة.. وهمست: شكراً. انتفضتُ واقفاً وأخذتُ أروح وأجئ في الغرفة واستولى عليّ الغضب. سألتها: شكراً على ماذا؟ قالت: على النقود. قلت: يا للشيطان، ولكني نهبتك.. سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين شكراً؟ قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً. قلت: لم يعطوكِ؟! أليس هذا غريبا!؟ لقد مزحتُ معك.. لقنتك درساً قاسياً.. سأعطيك نقودك.. الثمانين روبلاً كلها. هاهي في المظروف جهزتها لكِ!! ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجّين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة؟ ابتسمتْ بعجز، فقرأت على وجهها: "يمكن". سألتُها الصفح عن هذا الدرس القاسي وسلمتها، بدهشتها البالغة الثمانين روبلاً كلها.. فشكرتني بخجل وخرجت. تطلعتُ في أثرها وفكّرتُ: ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا".
وليس بعيداً عن قصة تشيكوف، فإن ثقافتنا الشعبية فيها مثال قريب جداً، فقد كان هناك شخص يعيش مع أولاده التسعة وزوجته وحماته وأمه في بيت مُؤجّر مؤلّف من غرفة واحدة، وحمام داخلي مساحته متر بمتر، ومطبخه عبارة عن طاولة صغيرة. وكان دائماً يتذمّر من عيشته التعسة، فجاءه صاحب البيت، ذات يوم، وطلب منه أن يربي له دجاجتين وديكاً في نفس المنزل الصغير مع العائلة، فثارت ثائرة المسكين، لكنه اضطر إلى الرضوخ إلى طلب صاحب المنزل، كيلا يطرده. وراحت العائلة تعاني من إزعاج الديك ووسخ الدجاجتين. وكي يزيد الطين بلة، عاد صاحب البيت بعد فترة، وطلب من المستأجر أن يربّي له عنزة في الغرفة ذاتها، فصارت الدجاجتان تلوثان الفراش بالأوساخ، وأصبح الديك يقاتل العنزة، بينما تثغو الأخيرة ليل نهار. ومما زاد في الطنبور نغماً أنَّ صاحب البيت أمر المستأجر المسكين، لاحقاً، بأن يربي له عجلاً، فزادت محنته معاناة وألماً. لكن صاحب المنزل المتغطرس حنَّ على المستأجر بعد طول معاناة وانتظار، فخلصه من الديك والدجاجتين والعنزة والعجل. فطار المستأجر من الفرح، وراح يحدث أصدقاءه عن بيته الفسيح المريح قائلاً: "من يوم ما راحوا هالحيوانات الملاعين، وإحنا عايشين مبسوطين مبحبحين"، مع العلم بأنَّ البيت بقي على حاله طبعاً.
وهكذا حكاية السواد الأعظم من شعوبنا العربية، فما أن تتذمّر الشعوب من وضعها المأساوي حتى يقدم المتحكمون برقابها على إجراءات أكثر مأساوية وبطشاً وتنكيلاً، فيلهج لسان الشعوب فوراً بالبيت الشهير: "رُبّ يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه". لكن قسماً كبيراً من شعوبنا لم يعد يطيق هذا الوضع فانتفض كالعنقاء من تحت الرماد، بينما مازال القسم الباقي قابلاً بلعب دور يوليا المغفلة والذليلة. ليت هذا القسم يعيد النظر في مواقفه، وليت كان تشيكوف ما زال حياً ليرى أن الكثيرين من أشباه بطلته يوليا أبوا إلا أن يصبحوا ذئاباً بعد أن أدركوا تماماً مغزى القول الشهير:"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب".