ضمن تقرير نادر وواسع من عدة حلقات تسلط المنظمة الدولية “هيومن رايتس ووتش” الضوء على سياسة إسرائيل في تضييق الخناق على التجمعات السكانية الفلسطينية، موضحة أنها تتخطى الضفة الغربية وقطاع غزة، لتطال الفلسطينيين في البلدات والقرى الفلسطينية داخل إسرائيل. مؤكدة أن هذه السياسة تنحاز إلى مصلحة المواطنين اليهود ضد مواطني إسرائيل الفلسطينيين (ويُطلق عليهم أيضا “عرب الداخل” أو “فلسطينيو الداخل” أو “عرب الـ 48″(، وتقيّد بشدة إمكانية وصولهم الى الأراضي بغرض السكن وإتاحة نمو سكاني طبيعي.في هذه الحلقة يتناول التقرير واقع القرية العربية الفلسطينية الساحلية الوحيدة داخل أراضي 48 “جسر الزرقاء” قضاء حيفا التي يبلغ تعدادها 14,700 نسمة وحولتها إسرائيل إلى غيتو.وتقول إن “جسر الزرقاء” هي مجلس محلي تبلغ مساحته حوالى 1,600 دونم، ومن أفقر بلدات إسرائيل، إذ أن 80% من سكانها تحت خط الفقر. مؤكدة أن سياسات الحكومات الإسرائيلية والمؤسسات في ظل الانتداب البريطاني، قبل قرن، حشرت السكان في البلدة. وتنوه أنه في أوائل عشرينيات القرن الماضي، قامت “جمعية الاستعمار اليهودي لفلسطين”، بحسب وزارة الخارجية، بتجفيف المستنقعات التي استخدمها العرب الفلسطينيون لتأمين رزقهم برعي الجواميس ونسج حصائر القصب، لإفساح المجال لإقامة مستعمرات يهودية. وفي التقرير الدولي يقول السكان إنه انتهى بهم الأمر بقسائم الأرض التي يملكونها حاليا، وهي أصغر بكثير من الأرض التي عاشوا عليها تاريخيا، قبل نكبة 1948. ويتابع “لم تشهد جسر الزرقاء الدمار والنزوح الذي حل ببلدتَي الطنطورة وقيسارية المجاورتين خلال قيام إسرائيل في 1948، إلا أنها خضعت للحكم العسكري، مثل جميع البلدات والقرى الفلسطينية تقريبا داخل إسرائيل حتى 1966.كما تستذكر أنه خلال هذه الفترة، وضعت السلطات الإسرائيلية الأساس للتضييق على البلدة، وفي السنوات اللاحقة زادت سياسات التخطيط وتخصيص وجهة استخدام الأراضي القيود على استفادة السكان من الأراضي والمسكن.في المقابل وإلى شمالها، منحت السلطات الإسرائيلية، في أغسطس/ آب 1949، آلاف الدونمات من أراضي الدولة لكيبوتس معجان ميخائيل اليهودي، جزء من الكيبوتس يحيط بمقبرة كان يستخدمها سكان “جسر الزرقاء” لسنوات. وفي سبعينيات القرن الماضي، أنشأ الكيبوتس أحواض أسماك على أرضه التي تمتد جنوبا لتصل إلى غرب الجزء الشمالي من جسر الزرقاء. كما بنت السلطات الإسرائيلية محمية وادي التماسيح الطبيعية إلى شرق الأحواض لحماية الوادي. وتمتد المحمية على 470 دونما ويُمنع البناء فيها، ما يحد توسّع “جسر الزرقاء” شمالا. وعن ذلك يقول رئيس مجلس القرية مراد عماش لهيومن رايتس ووتش إن 90 دونما من مساحة المحمية هي ملكيات خاصة لسكان “جسر الزرقاء”. كما خصصت السلطات جزءا من المنطقة للزراعة ومنعت الأبنية السكنية. أما زعيم عماش، وهو موظف خدمة مدنية في مجلس القرية ولا تربطه صلة قرابة بمراد، ويملك أرضا في المنطقة المصنفة زراعية، فقد قال لهيومن رايتس ووتش إنه يرى الأرض “يوميا من شبّاكه ـ يفصل شارع واحد فقط بين منزلي والأرض ـ مع ذلك لا يمكنني الانتقال للعيش هناك”.
وإلى شرقها، أُنشئ الشارع السريع رقم 2 الذي يربط الشمال بالجنوب، ويفصل القرية عن الأراضي الزراعية إلى شرقها التي كان يملكها سكانها.
وقررت السلطات الإسرائيلية إنشاء الشارع السريع في ستينيات القرن الماضي، حين لم يكن بإمكان سكان “جسر الزرقاء” القابعين تحت الحكم العسكري مقاومة إنشاء الشارع. واستولت إسرائيل على 1,600 دونم تقريبا شرق الشارع، وهي مساحة يملك سكان “جسر الزرقاء” جزءا كبيرا منها وكانوا يستخدمونه للزراعة، بحسب مجلس القرية.معظم هذه الأراضي تقع اليوم تحت سلطة القرية التعاونية اليهودية بيت حنانيا. ولم تنشئ إسرائيل أي مدخل أو مخرج بين الشارع السريع و”جسر الزرقاء” ويضيف غياب المخارج بين 15 و20 دقيقة إلى الوقت اللازم للوصول إلى الشمال أو الجنوب، ويبقي على مدخلين إلى “جسر الزرقاء”،أحدهما ممر سفلي كان يُستخدم كقناة للمياه وهو أعرض من السيارة بقليل، والثاني طريق بين طرف القرية الشمالي ومحمية وادي التماسيح.
وإلى جنوبها، أنشأت السلطات الإسرائيلية بلدة قيساريا في 1952 مكان قرية قيسارية الفلسطينية.ويقول المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إن مجموعة “الهاغانا” اليهودية المسلحة طردت سكان قيسارية في فبراير/ شباط 1948.واليوم، قيسارية، التي تديرها “شركة قيسارية للتطوير العقاري” الخاصة، هي بلدة فخمة ومقر سكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتضم فيلّات، وملعب غولف، ومرفأ، وموقعا أثريا، ومنطقة صناعية وتجارية.وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش إنه منذ سنوات عدة، يعمل العديد من سكان “جسر الزرقاء” في قيسارية، معظمهم في تنظيف المنازل أو الأعمال اليدوية. غير أن شركة قيسارية للتطوير العقاري أقامت ساترا ترابيا بين قيسارية و”جسر الزرقاء” بطول 1.2 كيلومتر وارتفاع بين تسعة و12 مترا بهدف حجب رؤية جسر الزرقاء من قيساريا ومنع وصول صوت المؤذن.ويقول عماش، رئيس مجلس القرية، إن الساتر يمنع وصول السكان الذين يعملون في قيسارية بسهولة إلى عملهم “وأحبط معنويات وآمال” السكان. كما يقول إن الساتر جعلهم يشعرون بأن سكان قيساريا “لا يعتبروننا بشرا” ويريدون “حجب وجودنا”.إلى غربها، البحر المتوسط. يمنع القانون الإسرائيلي بشكل عام البناء حتى مسافة 100 متر من الشاطئ حيث أنشأت السلطات الإسرائيلية محميّتين طبيعيتين محاذيتين للبحر.ونتيجة كل ذلك يقول بعض سكان القرية لـ “القدس العربي” إن القرية باتت بمثابة غيتو، فيوضح عضو المجلس البلدي سامي العلي إن قريته “جسر الزرقاء” تواجه مشكلة اكتظاظ كبيرة، وأزمة سكن، وتحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة بسبب التضييق عليها من جميع الجهات ونموها السكاني السريع.ويتابع العلي “بحسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تبلغ الكثافة السكانية في جسر الزرقاء (9,178 نسمة/كيلومتر مربع) ثلاثة أضعاف كثافة بلدة أور عكيفا المجاورة ذات الأغلبية اليهودية (3,288)، وعشرة أضعاف قيساريا (807)، وأكثر من 30 ضعف معجان ميخائيل (304).وتقول الطالبة وردة جربان (26 عاما(، التي تعيش في “جسر الزرقاء” مع أسرتها المؤلفة من ستة أشخاص في منزل مساحته 95 مترا مربعا، إن البلدة مكتظة جدا. وتتابع “يمكن لجيرانك رؤية داخل منزلك من شباك منزلهم”.ويقول صاحب “نزل جحا”، بيت الضيافة الوحيد في البلدة، أحمد جحا إنه عندما أنشأ النزل في 2014، اضطر إلى طلب استثناء من القانون الذي يفرض تخصيص مكان لركن السيارات، لأن أقرب موقف يبعد 500 متر. تقدّر منظمة بمكوم الحقوقية الإسرائيلية أن “جسر الزرقاء” كانت تحتاج في عام 2014 إلى 730 وحدة سكنية لحل أزمة السكن في حينها.ويزيد التضييق التحديات الاقتصادية والاجتماعية في “جسر الزرقاء”، فهي لا تضم أي منطقة صناعية، أو خدمات طوارئ صحية، أو مكتب بريد، أو مصرفا، أو آلات الصراف الآلي التي تديرها المصارف، كما لا تضم سوى القليل من المنشآت أو المواقع العامة للترفيه. كذلك تفتقر إلى البنى التحتية والخدمات الأساسية.بحسب المنظمة الحقوقية “مساواة”، ومقرها حيفا، فإن أقل من ربع طلاب البلدة ينهون مرحلة التوجيهي، ومعدل حياة سكانها أقل من المعدل الوطني بـ 20 سنة.وقال عماش، رئيس مجلس القرية، إنه “لا توجد جودة حياة في جسر الزرقاء”، وبالنسبة إليه “فان هدف هذه السياسات واضح: خنقنا وتهجيرنا”.وتنبع الاختلافات الصارخة مع جيرانها مباشرة من السياسات الإسرائيلية التمييزية. منحت اسرائيل، على سبيل المثال، كيبوتس معجان ميخائيل أكثر من 5 آلاف دونم من أراضي الدولة.وفي تقرير “هيومن ووتش رايتس” يقول الأمين العام للكيوبتس نير براخا للمنظمة الدولية إن الدولة خصصت أقل من 10% من أراضي الكيبوتس للإسكان، ولكن في حالات عدة أعادت تصنيف الأراضي من زراعية إلى سكنية لتلائم احتياجات الكيبوتس السكنية.وأشار إلى أنه من أجل مساعدة الكيبوتس في التغلب على نقص المساكن في السنوات الأخيرة، طلبت الحكومة من الكيبوتس تشييد مبانٍ أكثر ارتفاعا كشرط لإعادة تخصيص مزيد من الأراضي للإسكان.ويدير الكيبوتس أيضا برك أسماك مساحتها أكبر من مساحة جسر الزرقاء بأجمعها، ولديه منطقة صناعية تشمل المقر الرئيسي لشركة البلاستيك البارزة “بلاسون”.فيما يتعلق بجسر الزرقاء، أقر براخا ضمن التقرير الدولي بأن “القضايا التاريخية والسياسية”، وخصوصا “الاحتفاظ بالأرض لليهود”، “ضغطت” البلدة. لكنه قال أيضا إن جسر الزرقاء استفادت من “التمييز الإيجابي” في السنوات الأخيرة، في إشارة إلى الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمعالجة الضغط.في 2016، وافقت السلطات الإسرائيلية على خطة لتوسيع الشارع السريع رقم 2، تتضمن نقل القسم الذي يتاخم جسر الزرقاء إلى الشرق، وإنشاء أدراج دخول وخروج للبلدة. في 2018، وافقت السلطات على خريطة هيكلية لجسر الزرقاء التي تسمح بإنشاء “مناطق تطوير جديدة” في المساحة الناتجة عن نقل الشارع السريع شرقا وفقا لإدارة التخطيط، بما يشمل إنشاء “أبنية سكنية متعددة الطوابق وعالية الكثافة، بالإضافة إلى المساحات العامة”.ويوضح مراد عماش، رئيس المجلس المحلي، أن هذه الخطة ستوفر 240 دونما إضافية لجسر الزرقاء، رغم أنه أشار إلى أنها أقل من الـ 1,200 دونم التي طالب بها المجلس المحلي في هذه المنطقة عام 2005، بناء على تقييمه للاحتياجات.وقالت إدارة التخطيط إنها اقترحت مخططات لإنشاء 700 وحدة سكنية في هذه المنطقة.من جهتها تقول إدارة التخطيط أيضا إن الخريطة الهيكلية تجيز بناء 1,500 وحدة سكنية في المركز السكني. كما تعيد تخصيص بعض المناطق “الخضراء”، بما فيها قسم إلى الشمال من القرية قرب محمية وادي التماسيح، بهدف السماح بالبناء السكني، كما وتسمح ببعض المباني السكنية قرب الشاطئ. وقالت الإدارة إنها اقترحت مخططات لهذه المناطق يمكن أن تنشئ 930 وحدة سكنية.غير أن السلطات لم تأذن بعد بالبناء على أساسها، وتبقى خطوات كثيرة قبل إنجازها. في يناير/كانون الثاني 2019، قالت وزارة المواصلات إنها تفتقر إلى 174 مليون دولار لإعادة توجيه الشارع السريع رقم 2، وفقا لمحضر اجتماع حكومي مع سكان جسر الزرقاء راجعته هيومن رايتس ووتش.ويذكر عماش أن “جسر الزرقاء” اقترحت في مايو/ أيار 2019 تطوير هذه الأرض حتى لو بقي الشارع السريع رقم 2 في مكانه، لكن السلطات رفضت ذلك الطلب، بحجة أنه سيؤثر على التواصل الجغرافي للبلدة.وتقول إدارة التخطيط الإسرائيلية في رسالة إلكترونية إلى هيومن رايتس ووتش إنها تتوقع أنه حين تتشكل حكومة جديدة ستناقش الحكومة تحويل مسار الشارع السريع!!
تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»: «جسر الزرقاء»… قرية فلسطينية ساحلية حولها الاحتلال الاسرائيلي إلى غيتو!!
21.05.2020