
كشفت جميع التقارير عن الجلسات الأخيرة للكابينت الإسرائيلي المصغّر، عن خلافات عميقة، بشأن مشروع غيتو رفح المسمّى «المدينة الإنسانية، بين المستوى السياسي، خصوصا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، والمستوى العسكري ممثلا برئيس الأركان الميجر جنرال إيال زامير. ففي جلسة الكابينيت، طرح زامير رؤية الجيش بالنسبة للمشروع، مشيرا إلى تنفيذه يستغرق سنة وتصل تكلفته إلى حوالي 6 مليارات دولار. في حين أكّد رئيس الأركان الإسرائيلي أن الجيش سينفّذ القرارات الحكومية بحذافيرها، إلّا أنه يرى في «إقامة المدينة الإنسانية خطأ استراتيجيا»، وزاد بأنها «مصيدة استراتيجية سيكون فيها الجيش مسؤولا عن طعامهم وإقامة خيامهم وعن المياه والمجاري والعناية الصحية وغيرها».
*إقامة غيتو رفح ليس قدرا محتوما، ويمكن بعمل فلسطيني وعربي ودولي إفشاله، فهو مشروع خطير وإحباطه مساهمة جدّية في منع التهجير من غزة
أثار كلام زامير غضب نتنياهو وسموتريش، وطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي من الجيش تحضير خطّة عملية «أرخص وأسرع». وقد عقد الثلاثاء الماضي، اجتماع جديد للكابينيت المصغّر، لبحث خطة الجيش الجديدة، ويبدو أن الجيش عرض خطّة معدّلة، يمكن تنفيذها بتكلفة أقل وبمدة تتراوح بين شهرين لأربعة أشهر. من جهته نتنياهو لا ينتظر وهو ماضٍ في محاولاته تطبيق الخطّة، وقام بتعيين المدير العام لوزارة الأمن والنائب السابق لرئيس الأركان الجنرال-احتياط أمير برعام، مسؤولا عن المشروع. في المقابل تتزايد الشكوك بإمكانية تنفيذ الخطّة وتشتد المخاوف من تداعياتها على الساحة الدولية، في ظل التقييمات القانونية، التي تصنّفها كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية واضحة المعالم ومكتملة الأسس.
وكان وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، قد أعلن في السابع من يوليو الحالي أن حكومته تنوي إقامة «مدينة إنسانية» فوق ركام مدينة رفح وأنها أوّلا: ستكون معدّة في المرحلة الأولى لاستيعاب 600 ألف من سكّان القطاع، ولاحقا لبقية السكّان؛ وثانيا: لن يسمح لمن يدخلها أن يخرج منها؛ وثالثا: العمل بها سيبدأ خلال شهري الهدنة المؤقّتة المتوقّعة تبعا للصفقة؛ ورابعا: تعمل إسرائيل على تجنيد أطراف دولية للمشاركة في التنفيذ؛ ورابعا: الجيش سيديرها من بعيد، ولن يكون شريكا مباشرا في الإدارة وتوزيع الطعام (هكذا قال كاتس، ربّما لامتصاص معارضة العسكر)؛ وخامسا: سيخضع كل من يدخلها لفحص أمني دقيق، للتأكّد من عدم ارتباطه بحركة حماس. وتنوي إسرائيل «اجتذاب» السكّان إلى غيتو رفح من خلال «هندسة الجوع»، وتحويل غالبية المساعدات الإنسانية إلى منطقة الغيتو، لإجبار الناس على القدوم إليها بحثا عن القوت. واستمرار لما قاله عن «المدينة الإنسانية، تحدّث كاتس عن «إحراز تقدم» في مشروع التهجير، مشيرا إلى أن نتنياهو يجري اتصالات مثمرة بهذا الشأن مع دول أخرى. ويبدو أن الهدف الحقيقي لخطة «غيتو رفح» هو التهجير وفرض الاحتلال. والاثنان مرتبطان، لأن إسرائيل لا تريد فرض حكم عسكري وإدارة حياة مليوني فلسطيني في غزة، بكل ما يعنيه ذلك من تكاليف باهظة ومن استنزاف للوحدات العسكرية. وإعادة الاحتلال المباشر لقطاع غزة مرهون بتخفيف عدد السكان وبتنفيذ مشروع الترانسفير، وتجميع أهالي غزة في «المدينة الإنسانية» هو محطّة للتهجير والإبعاد.
ما يمنع التهجير الجماعي إلى الآن هو صمود أهالي غزّة، المقوّى بآلام النكبة والمحفَّز بآمال إعادة الإعمار، ورفض مصر وبقية الدول العربية وكذلك دول العالم استقبال من تسعى آلة الحرب الإسرائيلية الى تهجيرهم. لكن إسرائيل المصابة بنشوة «القدرة على كل شيء» لم ولن تتخلّى عن التهجير، وتعمل على استغلال أقرب فرصة لتنفيذه، حتى لو كلّفها ذلك ثمنا في علاقاتها الإقليمية والدولية. من هنا فإن المطلوب فورا هو خطّة عربية – فلسطينية مضادة للتصدّي له ولإفشاله ولزرع اليأس في قلوب وعقول القيادة الإسرائيلية من إمكانية تنفيذه.
معارضة إسرائيلية
يخشى المعارضون لنتنياهو من أن خطة «المدينة الإنسانية» أعدّت لإطالة أمد الحرب، وأن الإصرار على الإسراع في تنفيذها خلال فترة الهدنة المؤقّتة المقترحة، هو مؤشّر قوي إلى أن حكومة نتنياهو تتجه إلى تجديد القتال، بعد انتهاء فترة وقف إطلاق النار، كما فعلت في المرتين السابقتين. وتوالت تصريحات النخب الأمنية ضد الخطّة، وكان من أبرزها ما قاله قائد سلاح البحرية الأسبق الجنرال احتياط إليعزر مروم- تشيني من أن مصطلح «مدينة إنسانية» هو «غسيل كلام» للتغطية على المقصد الفعلي وهو «حكم عسكري كامل وسيطرة على حياة السكان». وسبقه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، الذي قال إنها في الحقيقة «معسكر اعتقال»، وانضم إلى رفض المشروع قادة أحزاب المعارضة يئير لبيد وأفيغدور ليبرمان ويئير غولان والكثيرون غيرهم. وعبر عدد من المحاضرين المختصين الإسرائيليين في القانون الدولي، عن قلق شدد من تناقض مشروع «المدينة الإنسانية» مع القانون الدولي الإنساني والجنائي، ما قد يعرّض قيادات الجيش والحكومة للملاحقة القانونية في المحاكم الدولية، ويضع إسرائيل-الدولة مجددا في قفص الاتهام. وممّا جاء في الرسائل التي سطّرها فقهاء القانون الإسرائيليون، تأكيد على أن إجبار السكّان للانتقال إلى المدينة الإنسانية هو خرق واضح للقانون الدولي، وكذلك منعهم من مغادرتها ناهيك عن التخطيط لها كمحطّة للتهجير إلى خارج القطاع. وأشار القانونيون الإسرائيليون إلى أن تهجير السكان إلى منطقة جديدة ومنعهم من العودة إلى موقعهم الأصلي يعد جريمة «تطهير عرقي» بنظر القانون الدولي.
من المهم أن من بين مجموعة القانونيين من شارك في طاقم الدفاع عن إسرائيل في لاهاي (البروفيسور إيال بنبنستي مثلا)، ومن المهم أيضا أنهم تعمّدوا توجيه الرسالة إلى المسؤولين العسكريين يسرائيل كاتس، وزير الأمن، والميجر جنرال إيال زامير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي. وشرح أحد الموقعين على الرسائل أن القيادة العسكرية تتحمل المسؤولية الجنائية كاملة، حتى لو صدرت تعليمات من المستوى السياسي، لأن «علما أسود من عدم الشرعية» يرفرف فوق المشروع، ما لا يعفى المستوى العسكري من المسؤولية بالقول «قمت بتنفيذ الأوامر». وجاء في الرسالة أنه إذا جرى تنفيذ الخطة فهي تشكل «سلسلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وقد تصل إلى حد اعتبارها جريمة إبادة شعب». ويبدو أن من اعتبارات الجنرال زامير أنّه يخشى محكمة الجنايات الدولية، لذا يحاول بوسائل شتّى عدم التورّط في تنفيذ مشروع يعرف تماما أنه قد يتسبب في إصدار أوامر من لاهاي لاعتقاله. في الواقع أنه بالإمكان إفشال مشروع غيتو رفح، انطلاقا من أرادة قوية وعمل سريع وجدّي بعدة اتجاهات، منها:
أولا: يمكن التوجّه إلى محكمة العدل الدولية لإصدار قرار احترازي يحرّم على إسرائيل إقامة «المدينة الإنسانية»، لتعارضها الصارخ مع القانون الدولي. وفي الواقع لا حاجة لدعوى جديدة، وتستطيع جنوب افريقيا والدول التي انضمت إلى التماسها في لاهاي، تقديم طلب جديد، يضاف إلى دعواها الأصلية، لإصدار قرار قضائي دولي لمنع إقامة غيتو رفح، والأسس القانونية كثيرة وواضحة ومقنعة.
ثانيا: يجب أن يكون الموقف العربي، وبالأخص المصري أكثر حزما في معارضة مشروع التهجير الجديد. لقد تناقلت وسائل الإعلام تهديدات مصرية قوية تتجاوز الاحتجاج الدبلوماسي، وإذا شعرت إسرائيل بأنها ستخسر الكثير في علاقتها بمصر، فهي قد تعيد النظر.
ثالثا: صرح وزير الأمن الإسرائيلي أن البدء في إقامة «المدينة الإنسانية» سيكون خلال الهدنة المؤقتة، وعليه يمكن وضع عدم إقامتها جزءا من شروط التوصل إلى صفقة. ومن المهم ألّا يكون ذلك موقفا لحماس وحدها، بل للوسيطين المصري والقطري أيضا.
لقد وصلت الوقاحة بأحد المسؤولين الإسرائيليين، أن يرد على سؤال حول تمويل هذا المشروع الضخم، أن إسرائيل سوف تسترجع ما سوف تستثمره فيه من الدول العربية عند البدء في إعادة الإعمار في غزة، وذكر تحديدا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. من المستبعد أن يحدث ذلك، لكن في الأمر تنويه إلى مستوى الصلف والغرور الإسرائيليين ومستوى الاستهتار الإسرائيلي بالعرب. إن إقامة غيتو رفح أو مدينة الجريمة ضد الإنسانية ليس قدرا محتوما، ويمكن بعمل فلسطيني وعربي ودولي إفشاله، فهو مشروع خطير وإحباطه سيكون مساهمة جدّية في منع التهجير من غزة.
