كتب سعيد أبو معلا...في مقطع شعري يقول شاعر اللهجة العامية الفلسطينية ومقدم برنامجي «حكي بالفلسطيني» سامر عيسى معلقا على أحد فيديوهات الشيف الفلسطيني أبو جوليا الذي يتلذذ فيه بطبخ المقلوبة ويمتدح طعمها القوي و«المقدس»:
مش غلطان بحكمو الشيف
ومهما تدور ومهما تلف
على نفسك هالطبخة تشف
يا رئيسة وزراء الطبخات
بس لما تاكلها بالقدس
طعم العزة بحيي النفس
ومع كل لقمة كرامة تحس
يضيف الشاعر عيسى مطالبا الشيف الفلسطيني ابن قطاع غزة والمقيم في لندن أبو جوليا أن يستمع لقصيدته العامية مشيرا إلى أن عليه أن يتذوق كلمات قصيدته، مشددا على أن أجمل مكون في مكونات طبخة المقلوبة الفلسطينية هو المكان الذي تطبخ فيه، والمقصود هنا القدس المحتلة والمسجد الأقصى.ويعكس الفيديو ومثله عشرات، بل مئات الفيديوهات التي يقدمها طباخون وهواة، وتنتشر في الفضاء الرقمي، تعكس جانبا من حكاية هذا الطبق الفلسطيني الشعبي الذي يعتبر الأكثر شهرة على مائدة الفلسطينيين وتحديدا في أيام الجمع. بية مع فروق تفصيلية قليلة فيما بينها، إلا أنها في القدس وفي شهر رمضان وفي لحظة قلبها في ساحات المسجد الأقصى أو على أبواب المسجد غدت طبخة مختلفة، بحيث أضحت تعكس فعلا رمزيا مقاوما.وتعكس الأكلة التي تقلب على صينية واسعة فعلا مشهد ارتبط بالصمود والثبات والتحدي واستمرار التواجد وممارسة أنشطة الحياة المختلفة في ساحات الأقصى.ويتفنن الفلسطينيون في طقوس قلب طنجرة المقلوبة حيث يعتبر قلب الطنجرة ورفعها مع ثبات مكونات الطبخة الطنجرة على شكل مجسم دائري شهي تخرج منه الأدخنة وغني بالنكهات بفعل مكوناتها التي تتوزع بين الخضار والرز واللحوم، يعتبر ذلك مؤشرا على احترافية في إعداد الأكلة.
وبسهولة يمكن لمن يبحث تحت كلمة «مقلوبة والاقصى» أن يجد عشرات الصور الفوتوغرافية الاحترافية التي تظهر طبق المقلوبة فيما قبة الصخرة المشرفة ذات القبة المذهبة اللامعة في خلفية المشهد في ترابط مقصود وفعل يؤشر على الثبات والبقاء.
وهو أمر يجعل من أبو جوليا يطلق عليه وصف «مشهد مقدس وقريب من القلب».
وفي رمضان تبدو المقلوبة وخاصة يومي الخميس والجمعة الحاضر الأكبر على أطراف الساحات بصفتها طعام إفطار رئيسي شهي وغني ومقاوم أيضا.
رمزية الطبق الشعبي الشهير الذي تصنعه السيدات المحترفات تتجاوز المشهد وطعم الأكلة الشهي وصولا إلى العلاقة بين اسم الطبق وأمنيات المقدسيين والفلسطينيين بحيث يتحول اسم الطبخة إلى أمنيات ورجاء عام في انقلاب واقع مدينة القدس المحتلة والمحاصرة إلى حالة من السلام والأمن والأمان والهدوء، وهو ما أشارت إليه المرابطة المقدسية خديجة خويص.
وعاما بعد عام يزداد طقس قلب طنجرة المقلوبة في المسجد الأقصى وساحات المدينة العتيقة وشوارعها الضيقة وذلك كفعل سياسي احتجاجي احتفالي إلى جانب كونه طعاما شعبيا فلسطينيا.وحسب المرابطة المقدسية هنادي الحلواني فإنها قامت بقلب أول طنجرة مقلوبة عام 2015 على أحد أبواب المسجد الأقصى بعد أن قام الاحتلال بإبعادها عن المسجد طوال شهر رمضان.وكي تمنح طقس قلب الطنجرة بعدا جماعيا قامت القواسمي بدعوة المرابطات الممنوعات من دخول الأقصى إلى جانب عائلتها. وترى أن ما يميز المقلوبة أن حملها سهل حيث يمكن حملها والانتقال بها من مكان لآخر بسهولة فيما لا تحتاج إلى أي طلبات أخرى من أجل تناولها حيث يكفي أن يكون معها السلطة أو اللبن.
**في إيران والصين أيضا
وفي سياق آخر، أطلقت إيرانيات في مدينة «قشم» قبل أيام حملة أكلة «المقلوبة» الفلسطينية الشهيرة للعام الثاني على التوالي وذلك في يوم القدس العالمي للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني وخاصة النساء الفلسطينيات اللواتي يتعرضن للقمع والاضطهاد الشديدين من الاحتلال الصهيوني.وحسب ما نشرته وسائل إعلام فلسطينية فإن الحملة لقيت استقبالا واسعا من المواطنين وشارك في تنظيمها العديد من الفتيات الإيرانيات من فئات مختلفة.كما أقدمت مجموعة من النساء والناشطات من مدينة «برازجان» في محافظة بوشهر على تنظيم حفل إفطار حمل شعار «سنفطر في القدس» وتضمن طبخ «المقلوبة». واعتبرت القائمات على الفعالية فعلهن بأنه «حركة ثقافية معادية للصهيونية».وإن كان انتقال الطبق الفلسطيني الشهير وصل إيران محمل بالمواقف السياسية، فإن مجموعة كبيرة من النشطاء الصينيين على المنصات الاجتماعية نشروا فيديوهات تدلل على أن الطبق وصلهم وأنهم سعداء به.وتظهر فيديوهات قصيرة منتشرة على المنصات الاجتماعية عائلات صينية مبتهجة بلحظات ما قبل قلب الطنجرة، وبلحظة الدق عليها في انتظار سحبها ليظهر الطبق الشهي.وتعتبر المقلوبة (باستخدام اللحمة الحمراء أو الدجاج) مع خضار الباذنجان والقرنبيط والبطاطا المقلية إلى جانب الرز الأبيض واحداً من أشهر المأكولات الشعبية القديمة حيث تتعدد الروايات حول منشئها الأول وسبب تسميتها.وتشير الرواية الأولى إلى أن فلسطين هي أول دولة عرفت المقلوبة وكانوا يسمّونها الباذنجانية بسبب استخدام الباذنجان كمكون أساسي فيها. وحسب ذات الرواية فإنه وغداة احتفال المقدسيين بفتح القائد صلاح الدين الأيوبي لمدينة القدس قدموا للجنود طبق الباذنجانية التي أعجبت صلاح الدين كثيراً. وعندما سألهم عن اسمها وصفها بأنها مقلوبة، وذلك لأن عادات تقديم هذا الطبق هو عبر قلبه من إناء الطهي إلى صواني التقديم. اما الرواية الثانية فتشير إلى أن هذا الطبق كان يُسمى باذنجانية لفترة طويلة، ولكن مع مرور الزمن وإدخال مكونات إضافية فوق الطبق تمت تسميتها بـ»مقلوبة» لأنه يتم وضع الباذنجان في الأسفل وبعض الخضار وللحوم ثم فوق كل ذلك الأرز، أما لحظة تقديمها فيتم قلبها ولذلك سُمي بالمقلوبة.وهناك رواية ثالثة ترد أصول الطبق إلى العصر العباسي وهو ما أشارت إليه بعض كتب الطبخ في تلك الفترة ومنها كتاب «الطبيخ» لابن سيار الوراق الذي يعد أحد أقدم كتب الطبخ العربي الذي كتب ما بين 940 و960 ميلادية.
**طبق ذو طابع هوياتي
وحسب الباحثة رنا خموس، التي درست حضور الطعام الشعبي الفلسطيني على المنصات الرقمية، فإن طبق المقلوبة أصبح ذا طابع هوياتي عند الفلسطيني. وتضيف: «الهوية هي محدد السلوك لأي دولة ولسياساتها الخارجية، فما بالك بالفلسطيني الذي لا يملك دولة رغم أحقيته التاريخية والجغرافية والدينية للمكان، فالطعام نتاج أحداث وتجارب تمر بها المجتمعات ضمن معايير تراثية وثقافية متشابهة».وحملت دراسة الماجستير لخموس عنوان «دور مدونات الطعام في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية الرقمية ـ الإنستغرام دراسة حالة» وفيها أشارت إلى أن التطور التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي عمل على خلق فرصة جيدة للفلسطينيين لتأكيد وجودهم في هذا الفضاء الرقمي الواسع، باعتباره وسيلة لإثبات الهوية الوطنية الفلسطينية مع محاولات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة لطمسها على مختلف الأصعدة الاجتماعية، والسياسية، والجغرافية، والثقافية، والرقمية أيضاً، حيث يعمل الاحتلال على إنكار ارتباط الفلسطيني بالمكان بمختلف مكوناته، وتوظيف ذلك لدعم مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».وتشدد الباحثة على أن طرح المقلوبة كنموذج هوياتي جديد لدى الفلسطيني هو رمز من رموز هذا الشعب مثل الكوفية أو الثوب الفلسطيني…الخ، والذي يحاول دائما إثبات وجوده، ويسعى بأي مناسبة وبأي فعل أن يدلل على مكانته الجغرافية والسياسية دولياً، فطبق المقلوبة في ساحات المسجد الأقصى المبارك في القدس المحتلة فعل مقاومة عند الفلسطيني والمقدسي بالذات الذي يكابد كل يوم تضييقات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته التعسفية من أجل اقتلاعه من مدينته، ومحو جذوره العربية والفلسطينية من القدس.وترى أن المقلوبة لها مكانتها ولها دور حقيقي في الصراع السياسي الفلسطيني الإسرائيلي لا يجب أن نقلل من شأنه خاصة في باحات الأقصى، بل على العكس يجب أن نعزز مكانتها ووجودها سياسيا وثقافيا بالذات من خلال رمزيتها كأيقونة وطنية استطاعت أن تعزز من النسيج الاجتماعي الفلسطيني في القدس المحتلة، وان تعزز من الذاكرة الجمعية الفلسطينية وارتباطها بساحات الأقصى.فالحديث عن المقلوبة، والكلام لخموس، يعني الحديث عن كرامة الحياة اليومية للفلسطيني. «فالطعام يزيد من حيوية الشعوب المضطهدة والشعوب الأصلية في إثبات أنفسهم، والأطباق قادرة على ترميم الهوية المهددة بالاندثار من خلال الحنين إلى ماض جماعي تنهض من خلاله الذاكرة الجمعية الفلسطينية.وتضيف أن المقلوبة هي هوية وطنية حية، قادرة على تشكيل السردية الفلسطينية ضد هيمنة الاحتلال الإسرائيلي، وهي أداة انتاج معرفية ضد سياسة الاحتلال الرامية الى تزييف الحقائق.وتخلص: «مما لا شك فيه، أن استمرار الفلسطيني على ممارسة قلب طبق المقلوبة في ساحات الأقصى هو ممارسة لدور سيادي على الأرض، وأهم بكثير من الخطابات السياسية (المكررة) التي باتت مفرغة من جوهرها وتأثيرها على حد سواء».
*المصدر : القدس العربي
القدس المحتلة:«المقلوبة» في شوارع القدس وساحات الأقصى… «رئيسة وزراء الطبخات»!!
20.04.2023