وباء قاتل يُقفِل أبواب الكون ليجتاح العالم، ويفرض على أكثر من ملياري شخص عزلاً قسرياً شاملاً. الاقتصادات تتهاوى. أرقام الإصابات وأعداد الوفيّات في تزايد على مدار اللحظة. الجيوش والأجهزة الأمنية استدعيت لفرض النظام، فيما تسود أجواء مواتية لاضطرابات حول الحصول على المواد الأساسيّة.
بنوك الطعام الخيريّة لم تعد قادرة على توفير خدماتها لأعداد متضاعفة من الفقراء، فيما فشلت معظم الإجراءات الحكوميّة في تقديم بدائل دخل كافية لإقناعهم بالامتناع عن كسر العزل. التليفزيونات ووسائل الإعلام غيّرت برامجها بالكامل لتغرق مشاهديها بالتحديثات المثيرة للفزع حول أرقام الضحايا المتصاعد ونقص أدوات الحماية ومعدات التنفس، كما قصص الموت والمقابر الجماعيّة والشاحنات المبردة المتخمة بالجثث. أصحاب مليارات وشركات أدوية كبرى تتسابق للإعلان عن التوصل إلى لقاحات فاعلة ضد الفيروس المستحدث قد تكون جاهزة خلال أشهر قليلة – رغم عدم توفر معطيات أو إجراء تجارب كافية – وسيتعرّض من يرفض قبول الحقن بها لقيود مشددة على السّفر والتعليم والعمل.
بالطبع هذا كلّه ليس مشهداً دسيتوبيّا في رواية رؤيوية، أو فيلم رعب أو خيالا علميا سينمائيا، بل هو وصف واقعي غير منفعل لهيئة حياتنا المعاصرة في أجزاء واسعة من العالم، بعد استبداد الملك كوفيد التاسع عشر بنا، منذ نهاية العام الماضي.
وفي ظلِّ هذه الأجواء الضاغطة من عميق الخوف، والقلق المرضيّ والشعور بالعجز المطلق عن مواجهة الجائحة، وفي الوقت الذي تتخبّط الأجهزة الحكوميّة للدول الكبرى لناحية سياساتها المعلنة بشأن إدارة الوباء، تتشكل المناخات اللازمة في أذهان العموم لتقبّل نظريّات المؤامرة، والسرديّات البديلة واستدعاء حلقات سابقة من الشكوك والإشاعات لبناء سياقات أقدر على تفسير الحدث الجلل، مما توفره السرديّة الرسميّة التي تقدمها السلطات السياسيّة وجناحها الطبيّ / العلميّ.
خلال الأسبوع الأوّل من الشهر الحالي انتشر، كما النّار في الهشيم، مقطع فيديو (26 دقيقة) يتضمن جزءاً من وثائقي جديد بعنوان “بلانديميك” قالت شركة ميديا أمريكيّة صغيرة – إيليفيت ومقرها كاليفورنيا – أنّه سيطلق في نسخته الكاملة بداية الصيف الحالي.
يبدو اسم الفيلم مثيراً للانتباه، إذ هو لعب على كلمة وباء في اللغة الإنكليزية يحورها لتعني وباء مخططاً له، وبالفعل يطرح مجموعة أفكار متوازية تدفع بذلك الاتجاه، وتنحو إلى بناء سرديّة مضادة لكل ما سعت السلطات الأمريكيّة من طرحه حوله ومصدره والسبل المقترحة لتجنّب الإصابة به.
ورغم أن الفضاء السيبيري متخم بمقاطع الفيديو والأفلام والمواد البصريّة، التي تشكك في السرديّات الرسميّة حول مسائل لا حصر لها من التاريخ والعلوم والحروب والجاسوسيّة والمؤامرات السريّة، إلاّ أن هذا المقطع بالتحديد بدا وكأنه مرشح لإثارة عاصفة رأي عام واسعة في الولايات المتحدة وبالتبعيّة العالم برمته، سواء لناحية سرعة انتشاره الفائقة بين الجمهور (شاهده ما يقرب المليون مستخدم على موقع “يوتيوب” خلال أول 24 ساعة بعد طرحه)، أو في ردود فعل السّلطات الأمريكيّة بشأنه، والتي تجسّدت حملة منظمة لمواقع غوغل وفيسبوك ويوتيوب وإنستغرام وغيرها لإزالته، مع إغراق الإعلام الأمريكي بقضه وقضيضه للجمهور ببحر من المواد المضادة له: عشرات المقالات في الصحف الكبرى والمجلات الواسعة الانتشار، ومقابلات مقروءة ومسموعة ومرئيّة على التليفزيونات الكبرى ومواقع التواصل الاجتماعي تتوحد بشكل غير مسبوق لنفي (ادعاءات) الوثائقيّ، والإساءة لمصداقيّة الدكتورة جودي مايكوفيتش – التي يبدو أن الفيلم مبني حول مقابلة حديثة معها بشأن كتاب لها سيصدر قريباً – وتحويل انتباه الجمهور نحو مواد تدعم سرديّة السُّلطة بشأن الوباء بناء على تصريحات من علماء وأطباء مرموقين في المنظومة الأمريكيّة.
*مايكوفيتش: معركة شخصيّة أم أمل للبشريّة؟
الحملة الأمريكيّة المنسّقة ضد المقطع من “بلانديميك” تبدو وكأنّها منحته شهرة هائلة لم يكن ليحظى بها لو ترك ليغرق في كومة الأفلام الموصومة بالترويج لنظريّات المؤامرة، والتي لها جمهور وفيّ، لكنّه محدود العدد. فهذا الرّعب الشامل في سلوك السلطات تجاهه أثار انتباه قطاعات واسعة من الجمهور العاديّ، الذي لا يحفل عادة في هذا النّوع من المواد إلى مجموعة من الأفكار المثيرة تطرحها مايكوفيتش، التي تعد واحدة من أهم علماء الفيروسات في الولايات المتحدة، وكانت على الخطوط الأمامية المحتدمة في مواجهة الإيدز والإيبولا والسرطان قبل أن تصطدم بالنّخبة العلميّة الممسكة بملفات إدارة الأوبئة وتصنيع الأدوية في الولايات المتحدة، وتعرضها للطرد من منصبها، بل وتوجيه اتهامات لها وسجنها دون محاكمة ومنعها من ممارسة المهنة، بالنظر إلى اتهاماتها لتلك النخبة – لا سيّما الدكتور فاوتشي، الرّجل الذي يقود الجهد العلمي الأمريكي الرسمي في مواجهة كوفيد 19 اليوم – ولا شكّ أنها قد تكون على نحو ما تخوض معركة انتقام شخصيّ ضده، لكن بعض ما تطرحه، على الأقل، قد يكون مقنعاً للجمهور غير المتخصص، أي أغلبيتنا.
ولعل خطورة الطرح تتأتّى من تكذيبها الفرضية السائدة، أن فيروس كورونا نتيجة تفاعل طبيعي بين فيروس سارس – 1 (حيث يعد كورونا بمثابة سارس – 2 متطوراً عن سارس -1) والبيئة الطبيعيّة، بل تسرباً، مقصوداً أو غير مقصود، لفيروس تم تعديله في مختبرات بيولوجيّة متقدمة بين الولايات المتحدة والصين (تحديداً مختبرات ووهان بؤرة الفيروس الأولى قبل انتشاره لبقيّة العالم).
وهي أيضاً تثير شكوكاً قابلة للتصديق حول جهد رسمي أمريكي لإدارة جائحة كوفيد 19 – كما جوائح سابقة – وفق أجندات مشبوهة تخدم أساساً مصالح النخبة المهيمنة على الولايات المتحدة، والغرب عموماً، بما فيها التعليمات الخاصة بغسل الأيدي وارتداء القفازات والكمامات.
*ثمّة شيء فاسد في “مملكة الدنمارك”: كوفيد يقتل الفقراء؟
لا يمكن للأغلبية الساحقة بالطّبع الجزم في صحّة ادعاءات “بلانديميك” أو الادعاءات المضادة للسلطات الأمريكيّة، لا سيّما وأن بعض الجوانب التي تُطرح لها دخان قد تكون هنالك نار من ورائه، إلا أن الأكيد “ثمّة ما هو فاسد في مملكة الدّنمارك” وفق التعبير الشيكسبيري الشهير. دنمارك الفساد المعاصر وانعدام المصداقيّة في إدارة كوفيد 19 بدا أمراً بنيوياً في سلوك النخب المتحكمة في الديموقراطيّات الغربيّة كلّها، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في أوروبا أيضاً، مما يدفع المتلقي دفعاً للبحث عن سرديّات بديلة.
في بريطانيا مثلاً، والتي يسميها البعض برجل أوروبا المريض نشر تقرير علمي صادر عن مؤسستها الطبيّة يرصد ضحايا كوفيد 19 ويخلص إلى القول إن نسب الوفيّات في المرض لدى الأقليّات – السوداء والآسيويّة والعربيّة وغيرها – تصل إلى أربعة أضعاف تلك التي تصيب الأكثريّة البيضاء، وأنّ هناك علاقة واضحة إحصائيّة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافيّة – طبقيّة الطابع – (العزلة السكنيّة والتكدّس في المنازل، وطبيعة الوظائف، ومستويات التعليم والدّخل والبطالة وغيرها) التي ترزح تحتها تلك الأقليّات وتميل عموماً إلى التدّني.
والمذهل أن هذا التقرير يكشف عن أن تأثير تلك الظروف المجتمعيّة يوحّد بين الطبقة الفقيرة على اختلاف الأعراق جوعاً وموتاً، إذ أن أصحاب البشرة البيضاء ممن يشتركون في ذات البيئة السيئة مع الأقليّات يتعرضون للموت بكوفيد – 19 بنسبة مماثلة لهم مقارنة بالبيض الأثرياء.
وعلى الرّغم من أن خلاصات – معقمة – من التقرير نشرت في بعض صحف بريطانيا الكبرى، إلا أنّه من غير الواضح كيف يمكن للسلطات – حتى لو أرادت بنيّة حسنة – تعديل أوضاع بنيوية راكمتها عقود من تغييب العدالة الاقتصادية والسياسات الممنهجة للأنظمة ضد الأقليّات والطبقيّة البغيضة التي تحكم عقل النخب.
*هل سيسقط الجدار الأسود للرواية الرسميّة؟
تتقاطع هذه المعلومات الموثقة رسمياً مع أخرى نشرتها جهات طبيّة مختلفة في الولايات المتحدة ودول أخرى أشارت بدورها إلى نسب تمثيل أعلى بكثير لعدد ضحايا كوفيد 19 بين الأقليات والفقراء مقارنة بعددهم من مجموع السكان، وتلك أمور يعلم الجميع أنها لا تحدث بالصّدفة مطلقاً، وأنها ستفتح الباب على مصراعيه لمزيد من البحث في تفسيرات مؤامراتية قد تكون أكثر إقناعاً من ذلك الجدار الأسود المصمت للسرديّة الرسميّة عن الوباء، سواء عبر “بلانديميك” أو غيره.
لقد تسببت مايكوفيتش بشقوق في ذلك الجدار. والشقوق دائماً إشارة غير مطمئنة الى قدرة الجدران على الصمود في مواجهة العاصفة!!
الموت يأتي طبقيّاً في الدّيمقراطيّات الغربيّة شقوق في الجدار الأسود لسرديّة كوفيد – 19!!
بقلم : ندى حطيط ... 15.05.2020