أثارت المشاهد المروعة التي نقلتها تلفزيونات الكوكب لاحتراق أحياء بكاملها في مدينة لوس أنجليس (ولاية كاليفورنيا غربيّ الولايات المتحدة) جزع مئات الملايين حول العالم، وبدا أن (مدينة الملائكة) – كما يسميها الأمريكيّون أو أرض «اللالالاند»، كما في الفيلم الشهير وبكل رمزيتها للإمبراطوريّة التي تهيمن على المعمورة – قد وقعت في دائرة جنون الطبيعة الغاضبة، وظهرت دولة العالم الأعظم التي تحرك الأساطيل والجيوش لإسقاط الحكومات في أرجاء الأرض الأربعة أشبه بالعاجزة في مواجهة كرة اللهب، ما استدعى تدخل فرق الإنقاذ وطائرات الإطفاء من المكسيك وكندا، مع عروض بالمساعدة من دول عالمثالثية مثل إيران والبرازيل.
أبعد من مجرّد أزمة بيئة محليّة
جزئياً، فإن الكارثة التي ضربت المقاطعة الأكثر اكتظاظا بالسكان في الولايات المتحدة نتاج تراكم من الأخطاء التي دافعها تقاطع سلوكيات جهات عدة وحدّها العمّى الرأسمالي: من تساهل المشرعين الفاسدين أو غير المؤهلين، إلى جشع مطوري العقارات، إلى سعي الأثرياء للاستعراض بامتلاك مساكن فاخرة في الولاية ذات الطبيعة الساحرة، والذين تحدوا جميعهم مخاطر معروفة منذ مئات السنين.
السكان الأصليون الذين قطنوا في جوار ما صار يعرف لاحقاً بوادي سان فرناندو بلوس أنجليس أطلقوا على هذا الحوض من التلال والجبال والأودية اسم «وادي الدّخان»، لأن تلك التضاريس الممتدة بين الصحراء وحتى المحيط مغطاة بغطاء حشائش الشابارال البرية تحترق كل عدة سنوات، إذ كلما جاء موسم فيضان للأمطار في عام واحد تنمو فيه الأعشاب والشجيرات بشراسة، ما تلبث أن تيبس عندما يأتيها موسم جفاف تالٍ، حيث يصبح ذلك الغطاء النباتي برمته كتلال من الأعشاب اليابسة المتعطشة للاشتعال عند مسها بشرارة.
لكن التمدد الحضري الأعمى إلى هذه المناطق على مدى عقود قطع تلك الدّورة الطبيعيّة لاحتراق الغلاف النباتي، ما راكم كميات هائلة من الحشائش اليابسة التي تحولت إلى ما يشبه خزان وقود ينتظر شرارة الانفجار التي جلبتها رياح الصحراء ونقلت جمرها بسرعة قياسيّة عبر المنطقة كلها ملتهمة بشراسة لافتة ما لا يقل عن عشرة آلاف منزل ومبنى وأحياء بكاملها.
لكن هذه العاصفة النارية المميتة التي ضربت لوس أنجليس لم تكن وفق خبراء الطقس الذين استدعتهم مختلف المحطات التلفزيونية، محض أزمة بيئيّة محليّة ناتجة عن سوء تخطيط فحسب، ولكنّها نشأت أيضاً على منصّة من تغيرات مناخيّة على مستوى الكوكب، لا شكّ أنها مهدت الظروف لمثل هذا الدمار الجهنمي الذي شاهدناه، وعاينه سكان لوس أنجليس رأي العين.
يعرف كل العالم الآن أن درجات الحرارة ارتفعت إلى ما بعد 1.5 درجة مئوية التي حددها اتفاق باريس للمناخ كعتبة خطيرة تكون الكارثة بعدها محتمة، مع كل درجة إضافية من الاحترار، يمتص الغلاف الجوي المزيد من الماء كما اسفنجة هائلة ما يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة غير مألوفة. وفي المواسم التي تهيمن فيها ظروف النينيا على أجواء المحيط الهادي، حيث يحدث انخفاض واسع النطاق في درجات حرارة سطح المحيطات في وسط وشرق المنطقة الاستوائية من المحيط الهادئ، وتقترن بحدوث تغيرات في عناصر الغلاف الجوي المداري والقطبي أيضاً، مثل العواصف المطيرة وتفاوتات الضغط التي أرسلت هبة رياح غير عادية تجاوزت سرعتها أكثر من 80 ميلاً في الساعة ضربت جنوب كاليفورنيا الأسبوع الماضي وحملت الشرر متآمرة مع التكوين الطبيعي لحوض «وادي سان فيرناندو» الجاهز للاشتعال لتكون الصورة كما قطعة من الجحيم.
أكثر من مجرد أزمة مناخ
إن ارتفاع درجات الحرارة الكوكبي الذي يهدد بأزمة مناخيّة ليس نتاجاً طبيعياً بالمطلق، بل هو عرض لنمو غير حميد للنظام الرأسمالي يشترك فيه جميع البشر، ولكن بشكل أساس الولايات المتحدة والغرب باستمرار صناعاته وأنظمة انتقاله وتشكيلاته العسكريّة معتمدة أساساً على الوقود الأحفوري (النفط والفحم) – 1٪ من سكان العالم يتسببون بانبعاثات أكثر من نصف سكان الكوكب – في وقت يتم فيه قضم الغلاف النباتي للكوكب، لا سيما في حوض الأمازون بشكل متسارع.
ومن ناحية ثانية، فإن المنظومة النيوليبراليّة التي تبنتها الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات دفعت تدريجياً تجاه تقليص حجم الأجهزة الحكومية المخصصة للخدمات العامة وإدارة الكوارث على نحو انتهت معه منظومة الدّفاع المدني وكأنها بلا حول وقوة في مواجهة عصف النيران، فيما اكتفت قوات الشرطة بإصدار أوامر الإخلاء الفوري للناس من قصورهم وبيوتهم والأماكن العامة، هذا في وقت أنفقت فيه الحكومة الأمريكية عشرات المليارات من الدولارات في إذكاء الحروب وإثارة القلاقل عبر العالم.
ولا شك ستجلب كارثة كاليفورنيا معها تداعيات أخرى إلى الاقتصاد الأمريكي والعالمي بالتبعية، إذ بعد سنوات من العواصف الاستوائية وحرائق الغابات المدمرة في جميع أنحاء الكوكب، بدأت شركات التأمين الكبرى في الاقتراب من نقطة مواجهة الإفلاس أو رفع أسعار التغطية التأمينية إلى مستويات لا يمكن لأغلب الأشخاص والمؤسسات تحملها.
وهناك أيضاً مصاعب عمليّة إعادة الإعمار تالياً، إذ تحتاج المهمة الهائلة المتمثلة لإزالة الأنقاض ومخلفات الدّمار الواسع ومن ثم إعادة البناء إلى أيد عاملة رخيصة تأتي في الغالب – في الظروف العاديّة – من العمال المهاجرين من المكسيك أو أمريكا الوسطى الذين سيكونون هدفاً لحملة إدارة ترامب الموعودة بترحيلهم جماعيّاً، فيما أي ترتيب آخر بديل لاستيراد الأيادي العاملة سيكون مكلفاً على المقاولين من استخدام المهاجرين غير الموثقين.
إن التكاليف غير المسبوقة لأسوأ كارثة حرائق في المناطق الحضرية في التاريخ الأمريكي الحديث وتقاطع تداعياتها قد تكون بالفعل القشة التي ستقصم هذه المرّة ظهر بعير الرأسماليّة!
هل ما زال ممكناً إنقاذ الرأسمالية من نفسها؟
ما زال كثير من النخب – وعلى رأسها الأمريكية – تتعامل مع الإشارات الكارثية المتلاحقة للسلوك الرأسمالي تجاه البيئة وكأنها جزء من دائرة تقلب الفصول الأربعة أو تعاقب مواسم الغيث والجفاف، تتم إدارتها في إطار العمل المعتاد. ولكن كل الإشارات تجمع على أننا نقترب وبشكل حثيث من نقطة الطامة الكبرى، حيث لا يعد ممكناً وقف التغيير المناخي وكل ما يتبقى للبشر هو التعايش مع مشهد أحزمة النار المحلقة التي التهمت وادي سان فيرناندو.
لقد تم تحذير النخبة الأمريكيّة بشكل رسمي من قبل الناسا على لسان عالم المناخ جيمس هانسن، الذي أدلى بشهادة له تاريخية أمام لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي في عام 1988 مليئة بالأدلة العمليّة النافذة وخلص إلى أنه منذ أكثر من 35 عاماً: «لقد تم اكتشاف تأثير الاحتباس الحراري، وهو يغير مناخنا الآن»، لكن تلك النخبة وطوال أربعة عقود فاصلة لم تفعل شيئاً على الإطلاق.
ما يدفعنا نحن ضحايا أنانيتها عبر الكوكب لنتساءل مع الشاعر بوب ديلان: «كم مرة يمكن للمرء أن يدير رأسه والتظاهر بأنه لا يرى؟
الجواب يا صديقي يعصف في مهب الريح».
لقد رأينا الجواب بالفعل يا بوب على شاشاتنا طوال الأسبوع الماضي.
قشّة قد تقصم ظهر بعير الرأسماليّة! «مدينة الملائكة» احترقت بعاصفةٍ من جهنم!!
بقلم : ندى حطيط ... 17.01.2025