
في التلفزيونات والإعلام اختصرت صورة الإمام الخميني وجه إيران الثورة، ثم أصبحت صورته علامة على مرحلة إيران الدولة، فيما مثلت صورة الجنرال العسكري قاسم سليماني وجه إيران المقاومة.
واليوم لإيران وجه مستجد: عباس عراقجي، رمز إيران الجديدة: ما بعد محور المقاومة والعضو العاقل في مجتمع التعايش مع الهيمنة الأمريكية.
عراقتشي، الذي لعب دوراً في تمرير التفاهم الدولي لطي صفحة النظام السوري السابق، ودفع «حزب الله» في لبنان للانخراط إيجابياً مع حكومة نزع السلاح في لبنان، أصبح نجم الشاشات وصورة إيران المرحلة لا سيما بعدما كلف بالتفاوض مع الجانب الأمريكي في جولات المباحثات عبر الوسيط العماني حول التوصل إلى تفاهم بشأن البرنامج النووي الإيراني.
توازن هشّ بين الرّدع والدبلوماسية
إدارة جو بايدن أعلنت منذ توليها الحكم نيتها العودة إلى اتفاق أوباما – 2015، الذي تراجع عنه الرئيس ترامب في ولايته الأولى لاحقاً. لكن الظروف الموضوعية تغيرت هذه المرة، والمطالب الأمريكية تجاوزت الملف النووي لتشمل برنامج إيران الصاروخي ونفوذها الإقليمي. فيما تتأرجح الإدارة الجديدة في واشنطن بين الانخراط الدبلوماسي وفرض العقوبات استراتيجيةً تعكس تردّدًا أكثر منها حسماً. فبين السعي لاكتساب إيران كسوق أمريكية أخرى وضغوط صقور واشنطن وإسرائيل، تبدو الولايات المتحدة وكأنّها في حاجة إلى شخصية مرجحة من الجانب الإيراني تدفع نحو تحقيق تفاهم شامل يجنب الجميع سيناريوهات المواجهة المفتوحة.
في المقابل، اعتمدت إيران استراتيجية مدروسة تقوم على التدرج في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم والحد من تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنها حرصت على ألا تتجاوز العتبة النووية فعلياً (نسبة تخصيب فوق 60 في المئة). وهي اليوم – ممثلة بشخص عراقتشي – لا تفاوض من موقع قوة مطلق، لكنها تدرك كذلك أنها ليست هدفاً سهلاً. ورغم اتّهامها بالراديكالية والتطرّف فهي لم تقطع يوماً حبال الدبلوماسية، وتبدو سياساتها الخارجية التي ينفذها السيد عراقتشي أكثر انضباطاً مما يُروّج له في الإعلام، خصوصاً إذا قورنت بالخطاب الإسرائيلي المتعجرف الصلف.
إيران الجديدة لعالم ترامبي
الدول الأوروبية الكبرى الثلاث (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) تدعم تجديد على الاتفاق كأداة لضبط البرنامج النووي الإيراني ومنع الانزلاق نحو مواجهة إقليمية. لكنها تبدو عاجزة أمام ملفات كثيرة، ليس الملف الإيراني سوى أحدها بعد تحوّل الحليف الأمريكي في عهد ترامب إلى منهج الاستفراد، ولذلك أوروبا، بكل بساطة، ليست سوى متفرج قلق على هامش اللعبة.
في المقابل، فإن بكين وموسكو تدعمان التوصل إلى تفاهم إيراني أمريكي، ليس من باب الالتزام بمبادئ نزع السلاح النووي، بقدر المصالح. فإيران تشكل شريكاً مهماً لهما اقتصادياً وسياسياً. ومع ذلك، لا تبدو أي من الدولتين مستعدة لتحمّل تبعات تحول إيران إلى قوة نووية فعلية، مما يجعل دعمهما لطهران مشروطاً بحدود علم الأخيرة بضرورة عدم تجاوزها. فيما شركاء الإقليم من العرب متفائلون باتفاق موسع يهذب السلوك الإيراني ولا يتوقف عند حدود السلاح النووي، بل يشمل ترتيبات أخرى تضمن تحجيم أيادي طهران في المنطقة من بيروت إلى بغداد، ومن غزّة إلى صنعاء، وحكماً تخفيف لهجة الخطاب المعادي لـ»غطرسة» الغرب الذي طالما وظفته إيران لبناء شعبيتها في الشارع العربي. وهي تراهن على أن إدماجها في السوق العالميّة – في حال رفع العقوبات – سيكون أفضل رادع لنخبتها الحاكمة من التورط ببهلوانيات عبر الحدود.
إسرائيل: رفض بلا بدائل.. وتصعيد بلا مساءلة
موقف الدّولة العبريّة يمثل الحالة الأكثر تعنتاً وازدواجية وإثارة للقلق في لعبة خطرة. منذ البداية، رفضت تل أبيب الاتفاق النووي، واعتبرته «هدية لإيران»، متجاهلة أن الاتفاق القديم كان في جوهره آلية لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي عبر المراقبة والتفتيش المستمر. لكن إسرائيل لم تطرح بدائل دبلوماسية، بل لجأت إلى استراتيجية «الظل»: اغتيالات، هجمات سيبرانية، وتخريب للمنشآت النووية، في انتهاكات صارخة متتالية للقانون الدولي.
وما يزيد من فداحة هذا السلوك هو أن إسرائيل نفسها قوة نووية غير معلنة، خارج إطار معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وترفض حتى اليوم السماح بأي رقابة دولية على ترسانتها. إنها بكل بساطة الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك سلاحاً نووياً، لكنها تصرّ على منع غيرها حتى من بناء قدرات نووية سلمية.
ومما يرفع من منسوب الخطر الآن أن التصعيد الإسرائيلي لا يقتصر على الملف النووي الإيراني، بل يشمل أيضاً تحركات عسكريّة في سوريا ولبنان وغزة، تسهم في رفع حرارة الإقليم برمته. ولا شكّ أن أي ضربة إسرائيلية لإيران لن تمرّ من دون ردّ، فإن المنطقة بأكملها قد تُدفع إلى دوّامة عنف وفوضى، تتحمّل واشنطن المسؤولية الأكبر عنها.
سيناريوهات التالي: حتى اليوم، لا تزال العودة إلى الاتفاق النووي 2015 هدفاً معلناً للإيرانيين، لكنه هدف يتآكل تحت ضغط التحولات العالمية والتعطش الإسرائيلي الدائم للحرب. ويمكن منطقيّاً التحدث عن سيناريوهات أربعة حول المفاوضات الجارية: استمرار المحادثات لبعض الوقت في ظل التوتر لكن دون انهيار كامل، تسرّع الإسرائيليين بتوجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية تتسبب بردود أفعال عبر الإقليم، بالإضافة بالطبع إلى إعلان إيراني مفاجئ بامتلاك سلاح نووي كأمر واقع مستجد على العالم أن يتعايش معه – كما في نموذج كوريا الشمالية -.
ويبقى بالطبع سيناريو نجاح المفاوضات بتحقيق صفقة تسوية شاملة وإعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي كأفضل ما يمكن أن يحصل للمنطقة عموماً وللشعب الإيراني، ويؤسس لرقابة دائمة لمنع انتشار السلاح النووي في موازاة تدرج واقعي في خفض التصعيد.
إيران الجديدة، تلك التي ترتدي تلفزيونياً وجه عباس عراقتشي، لم تكن أقرب في تاريخها من التفاهم مع الأمريكيين والاندماج في السوق العالمية، منها اليوم، ما يلقي الكرة في ملعب الرئيس ترامب شخصياً. فهذه صفقة كبرى ستسجل لحسابه، فيما استماعه لوسواس هواة الدم في تل أبيب سيكون كارثة على كل الأطراف، وستدفع بطهران حتماً نحو سلوك مغاير والبحث عن صورة جديدة تختصرها أمام العالم بدل عراقجي.
