ما كان بوسع العرب التخلص من عادة الوأد الجاهلية التي أتى القرآن الكريم في محكم الآية السابقة الذكر، على النهي عنها باعتبارها فعلا إجرامياً يأتي على النفس التي منحها الله سبحانه وتعالى حق الوجود والحياة، بكل ما يحمله هذا الحق من تبعات تلتصق بكينونة الإنسان، بإرادته، بأحلامه وأمانيه، منذ لحظة الولادة حتى الموت.
وإن لم تعد اليوم ممارسة هذه العادة بذات الأسلوب ولنفس السبب الذي كانت تمارس به قديماً، إلا أننا نرى تطبيقاً فعلياً لها من قبل من نصبوا أنفسهم ولاة أمر وحكاما علينا، فهم يمارسونها في كلّ لحظة على كل إنسان يعيش ضمن دائرة حكمهم، ويعتبرونه وجوباً خاضعاً لسلطتهم وقراراتهم، ومخالفتهم نتيجتها الاعتقال أو الاعدام بتهمة الخيانة الوطنية. يلبسون شكلاً وزوراً قناعاً إنسانياً يتحدثون من خلاله عن حقوق الإنسان في خطبهم العامة، ليكون مظهرهم أمام العالم جميلاً حضارياً، بينما في الحقيقة شهواتهم وغرائزهم التابعة لحكم الأنا تحكم أفعالهم وممارساتهم!
هكذا يا سادة يمارس الوأد في عصرنا الحديث، وينال نصيبه منه كل إنسان، سواء أكان مواليا للأنظمة الحاكمة الفاسدة أم معارضاً لها وثائراً عليها ما دام خاضعاً لسلطة تلك الأنظمة، فكلاهما موؤدة حريته والحقوق المشروعة له، غير أن الفرق بينهما أنّ الموالي إما أنه يخشى حنق وغضب السلطة، ومن تنفيذ حكمهم عليه في حال مخالفته لهم وعدم قبوله بوأد حقوقه، فيصمت عنهم ويرضى بعيش المذلة، أو أنه يرى في الخضوع ما يضمن له أقل ضمانات العيش، فالفتات الذي يرمونه له كفيل بأن يضمن مستقبله بنظرة مادية للحياة، بينما يبحث المعارض الثائر عن ذاته الحرّة التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها ولا يرضى انتقاصاً لها ولا يقبل بأي مقارنة بينها وبين أي شهوة مادية أو إغراءات لاستمرار حياته.
ومن هذا المنطلق يجب الإشارة إلى أنه يجبُّ على العقل الواعي الحرّ ألا يُطلق على كل من يقف بوجه الأنظمة الحاكمة الفاسدة مسمى المعارض، لأن الكثيرين ممن تتعارض مصالحهم الشخصية المادية مع مصلحة النظام الحاكم في الدولة التي ينتمون لها، يتجهون صوب البحث عن الفائدة المادية الشخصية لهم لدى دولٍ أخرى، مصالحها هي أيضاً لا تتفق مع مصالح تلك الدولة، فيطلقون على أنفسهم لقب المعارض، ولكنهم في حقيقة أمرهم ليسوا أحراراً وإنما يخضعون لأوامر وسلطات أخرى!
ولو عدنا بقراءاتنا لتاريخ الثورات التي مرّت عبر العصور لاستنتجنا تعريفاً للثورة موحداً رغم اختلاف نتائج تلك الثورات، فالثورة هي خروج الشعب ضد نظام حكم ظالم، وبقليل من التفكير العقلاني يمكن أن نستخلص أنه لا يمكن لشعب أن يخرج عن نظام السلطة الحاكمة له، في ما لو كان هذا النظام عادلاً، يمنح أبناء الشعب كافة حقوقهم المشروعة.
ولأجل الاستبداد والظلم الذي شهدته الشعوب العربية خلال العقود الماضية من قبل حكام صنعوا من شعارات القومية العربية والممانعة تاجاً لهم مرصعاً بالكذب لضمان أبديتهم في السلطة، اندلعت الثورات الشعبية، ومنها الثورة السورية الشعبية التي خرجت بإرادة شبابها وتطلعاتهم نحو مستقبل عيش كريم لهم وطلباً للمساواة والعدالة، بعد أن عانى الشعب خلال أربعين عاماً مضت هتكا للحريات واستبدادا خانقا لحقوقه في المواطنة، بدءًا من الحق في حرية التعبير عن الرأي حتى الحق في وجوب توفير الدولة لفرص العمل التي تضمن للمواطن العيش الكريم، مما أحدث بطالة كبيرة لدى فئة الشباب حتى اضطر أغلبهم للهجرة طلباً للعمل، بما يتناسب وكفاءاتهم وتحقيقاً لأحلامهم في بلاد لا انتماء لهم فيها ولا أصول!
وفي مقابل هذا التحرك الشبابي الشعبي تحركت عناصر متطرفة ومسلحة ومأجورة ومتناقضة فكرياً مع بعضها بعضا ومع أساس التحرك الشعبي، فخُلقت حالة من الفوضى والخراب، منها ما هو مدعوم من قبل النظام مباشرة، ومنها ما هو مدعوم من قبل دول إقليمية ودولية لها مصلحة في دمار بنية الدولة السورية، ونتج عن ذلك حرب دموية أهلية تحمل وجهاً طائفياً عملت على تأجيجه والاستفادة منه أجهزة النظام وإعلامه والدول المؤيدة له، لتغير الصورة الأصل للحراك الشعبي وتسميته حراكاً إرهابياً لمؤامرة دولية، الهدف منه إسقاط الدولة السورية مما يمنح النظام بمفهومه ذلك وجه حق يتحدث به في المحافل الدولية مدافعاً عن وجوده وعن أسبابه لاستعمال للعنف.
يومياً يموت على الأرض السورية المئات من أطفالها وشبابها ونسائها ورجالها وشيوخها، نتيجة القصف، يتشرد المئات من منازلهم، وينزح المئات إلى دول مجاورة وغير مجاورة، هرباً من هذه الحرب المستعرة، ويعتقل المئات من الشباب في أقبية السجون ويخطف مثلهم. يومياً توجد مجزرة في شارع من شوارع الوطن تودي بحياة الكثيرين، يومياً تقصف أبنية وتتهدم مدارس ومؤسسات وأسواق تجارية، وتحت هذا الركام الهائل توجد أجساد سوريّة بريئة لا ذنب لها سوى أنها طلبت العيش الكريم، أجساد موؤدة صعدت روحها إلى السماء لتخبر الله بكل شيء..!
إن تاريخ الإجرام وقتل الإنسان لأخيه الإنسان طمعاً بماله وعرضه، ترجعه النصوص الدينية إلى زمن الجريمة الأولى التي وقعت في تاريخ البشرية، جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل، ولهذا أتت كل الشرائع الدينية والمدنية بعد ذلك لتشرع للإنسان حقه في الحياة، ولتضع لنا أحكاماً إنسانية نحتكم إليها ونتبعها.
لا للعنف، لا للقتل، الحق في حياة كريمة، العدل والمساواة، هذه جمل ليست جديدة على البشرية، وإنما وردت في كافة العقائد والأديان، كلها تدور في فلك واحد هو تأمين حقوق الناس ودرء الظلم عنهم.
فتلك وصايا موسى ‘عليه الصلاة والسلام’ العشر، وكذلك رسالة المحبة والسلام لسيدنا المسيح ‘عليه الصلاة والسلام ‘ ومن بعدهما الأحكام التي جاءت برسالة الإسلام في القرآن الكريم وأنبأنا بها سيدنا محمد ‘عليه الصلاة والسلام’، كلّ تلك الشرائع ومن بعدها كلّ ما جاء في الشرائع المدنية حتى يومنا هذا، نصوص تحرم القتل وتنهي عن العنف وتقرر للإنسان حقه في الحياة.
فبأي وجه حق يعمل ‘حكماء ‘ الألفية الثانية بعد ميلاد المسيح، وبعد ألف وأربعمائة وخمس وثلاثين عاماً لهجرة سيدنا محمد (ص) على وأد أحلام الشعوب وتطلعاتها وفي ذات البقعة من الأرض المقدسة التي ارتوت قبل بقاع الأرض كلها من تلك الأديان السماوية؟
بأي ذنب تقتلون أحلامنا؟
"إذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت"!!
بقلم : ماسة بشار الموصلي ... 06.03.2014
كاتبة سورية