شيّعت جماهير فلسطينية غفيرة شهداء جنين، الذين ارتقوا إلى الرفيق الأعلى خلال التصدي للعدوان الإسرائيلي. وكانت الروح السائدة في الجنازة المهيبة هي التصميم على مواصلة الكفاح ضد الاحتلال، وعلى التمسك بإرادة النضال الفلسطينية، التي فشل العدوان في كسرها أو المس بها. وكما قال الشاعر الفلسطيني «ادفنوا أمواتكم وانهضوا»، فإن مخيّم جنين، نهض، رغم الآلام، مرفوع الهامة، داعيا الكل الفلسطيني والكل العربي إلى رفع جماعي للهامات. والقصد هنا ليس تلك المفاخرة الجوفاء، بل أساسا ممارسة الحق في مقاومة الاحتلال، الذي يكفله القانون الدولي، خاصة بعد انسداد أبواب التسوية أمام دعاة التسوية. فقد برز، مرّة أخرى في العدوان الأخير، أن إسرائيل لم تترك للفلسطيني، ومن خلفه العربي، سوى أحد خيارين: المقاومة أو الاستسلام. والسلطة الفلسطينية نفسها محشورة في الزاوية في ظل انفلات المشروع الاستيطاني من ناحية، وتصعيد العدوان العسكري من ناحية أخرى، وتشديد الخناق السياسي من ناحية ثالثة. ومن غير المعقول أن تقبل بالاستمرار في الانحشار في زاوية وهي مشلولة القدرة على التحرك باتجاه الدولة المستقلة، ولا يُعقل أيضا الاستمرار في لعب «شيش بيش» وإسرائيل تلعب معنا الشطرنج وتقتل فعلا لا مجازا.
ليس من سبيل الصدفة أن يلخّص الناطق باسم الجيش الإسرائيلي البريغادير جنرال دانيئيل هغاري، العدوان بالقول: «علينا أن نعي بأنه لا يوجد حل سحري للإرهاب، وسنضطر إلى مواصلة العمل والعودة إلى المخيم في اللحظة التي نحصل فيها معلومات عن الناشطين والمطلوبين». هذا بحد ذاته دليل على أن العملية العسكرية العدوانية لم تحقّق أهدافها، وإلّا علامَ الرجوع للاقتحام مرّة أخرى؟ لقد كانت تلك أضخم عملية عسكرية في الضفة الغربية منذ حملة «السور الواقي»، قبل عشرين عاما ونيف، ودفعت إسرائيل فيها أعدادا ضخمة من الجنود وصل إلى ما يزيد على ألف محارب شاركوا مباشرة في الهجوم، وخلفهم عدد لا يقل من «المساندين» الفعّالين.
المسألة لم تكن التفوّق العددي الكمي فحسب، بل صحبه تفوّق هائل في الأسلحة والمعدّات مثل، المسيّرات والمروحيات والجرافات والمصفّحات وقوّة النيران والأسلحة الرشاشة المتطوّرة، وأجهزة التنصّت والتشويش، وهذه وغيرها هي أقوى ما يمكن لجيش في العالم أن يمتلكه، إضافة إلى هذا كلّه فقد شاركت في العملية وحدات النخبة، من كوماندوز وسلاح هندسة ووحدات خاصة وشاباك ومخابرات عسكرية، وهذه هي فرق الموت الإسرائيلية الفتاكة، التي توكل إليها أصعب المهام وأكثرها تعقيدا. وللضخامة في القوة العسكرية الغازية لمخيّم جنين، دلائل عدّة: أولا، هي تعبير عن عمق النزعة الإجرامية في الجيش الإسرائيلي، الذي جهّز نفسه لعملية قتل ودمار واسعة، وثانيا هي نابعة من تقييم أمني إسرائيلي بعدم الاستهتار بصعوبة الهدف، بسبب صلابة المسلحين وسائر المقاومين في المخيّم، وثالثا، هي فرصة لتدريب قوّات من أذرع الجيش الإسرائيلي المختلفة، فلا يبدو أنّه كانت هناك حاجة عملياتية لهذا التعدد غير المسبوق للفرق العسكرية المشاركة، ورابعا كان هذا استعراضا للعضلات لترويع الشعب الفلسطيني من جهة، وإثباتا للقدرات أمام الأمريكيين، الذين ووفق نظام «سنتكوم»، إمّا شاركوا في المتابعة من غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي، أو سيتلقّون تقارير وافية عن نجاعة الخطط والأداء والأسلحة والمعدّات الحربية والإلكترونية والآليات الجوية والبرية. وبالمناسبة فإن إسرائيل لم تبلغ الولايات المتحدة بالعملية فحسب، بل من المرجّح أنها نسّقت معها، خلال زيارة درور شالوم، رئيس القسم السياسي- الأمني في وزارة الأمن الإسرائيلية، الذي بحث مع قيادات البنتاغون «الأوضاع في الضفة الغربية».
أهداف لم يحققها المعتدون
لم تعلن إسرائيل رسميا عن أهداف محدّدة ومتعيّنة لعدوانها على مخيّم جنين، واكتفى الناطقون باسمها بالحديث العمومي عن «قطع دابر الإرهاب» و «تلقين الدرس» و»تنظيف المخيّم من البنى التحتية للإرهاب» وغيرها، لكن متابعة مجمل تصريحات القيادات الإسرائيلية وكتابات صحافيي البلاط الأمني الإسرائيلي وكذلك حجم ونوعية القوّات الغازية، يرسم معالم الأهداف الإسرائيلية، التي لم يعلن عنها كلّها صراحة حتى لا يظهر الفشل عاريا. وفي كل الأحوال كان التخطيط الإسرائيلي المسبق هو إعلان النصر، بغض النظر عن النتائج الفعلية، وفق مقولة السياسي الفرنسي المخضرم جورج بومبيدو، الذي نصح بأن «أعلنوا الانتصار وانسحبوا».
من حيث المبدأ يقاس النجاح والفشل من منطلقين: منطلق الوضع القائم وما يحصل به من تغيير، ومنطلق الأهداف ومدى تحقيقها. ويمكن أيضا القفز من منطق لآخر دون المساس بتماسك واتساق المعنى، لأن أمامنا حالة حضور قوي للأهداف لدرجة أنّها أصبحت جزءا من الواقع وليست مفصولة عنه، وكأنّها على المصطبة وليس في السقف. وفي قياس الفشل والنجاح يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة المريحة للغزاة، فالتحضير للعملية استمر لأكثر من سنة، والقوات ضخمة بكل المعايير ومُنحت حرية العمل والحركة من القيادة الإسرائيلية، وحتى من الأمريكية (التي يعمل لها الجيش الإسرائيلي ألف حساب)، فما الذي حققته آلة الدمار والقتل العملاقة؟ لقد خططت إسرائيل لتوجيه ضربة قاصمة للمقاومين في مخيم جنين عبر اغتيال واعتقال أكبر عدد منهم، مع استهداف القيادات المركزية. وكيف يقيّم الإسرائيليون ما حصل؟ النبرة حول هذا الموضوع هي خيبة أمل من الفشل في توجيه ضربة للقيادة، والإخفاق في اغتيال عدد كبير من المحاربين كما كانت النية. في نهاية الحملة تبين أن عدد الشهداء والمعتقلين لا يختلف كثيرا عن «الحصيلة» في عمليات صغيرة وخاطفة. استشهاد 12 فلسطينيا في المخيم (بينهم ثلاثة طلاب ثانوية) هو ثمن باهظ جدا، لكن إسرائيل محبطة أنّها لم تنل المزيد، وهي تدّعي أن المحاربين الفلسطينيين اختفوا عن الساحة وتشكو بأنّهم لم يرموا أنفسهم في التهلكة ـ كما هي خطّطت وتوقّعت، ونسيت أنهم تصرّفوا وفق منطق حرب العصابات (الغوريلا) في الاعتماد على هجمات فجائية «اضرب واهرب»، وليس على صدام مع قوّة عسكرية منظمة وقوية وقتّالة. أما من حيث الاعتقالات فقد كانت الحصيلة 30 معتقلا مشتبها فيهم، من أصل قائمة 300 من المطلوبين. أراد الجيش الإسرائيلي في حملته على مخيم جنين أن يضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر لينشر صورة «نصر»، لكنّه فشل في ذلك، وكل ما ضبطه لا يتعدّى متفجّرات محلية الصنع يمكن إعادة إنتاجها بسهولة وبسرعة. القوات الإسرائيلية استولت كذلك على مبالغ من المال لا تُعرف قيمتها، لكنّها سارعت إلى الإعلان عنها كأموال «إرهاب» خطيرة. وكذلك تباهى الناطقون باسم الجيش الإسرائيلي بتدمير «غرف قيادة»، وهي غرف فيها شاشات مرتبطة بكاميرات منتشرة في المخيّم لرصد تحركات الجيش الإسرائيلي، وحتى لو صح الكلام فإن نصب الكاميرات والشاشات من جديد يستغرق أقل من يوم واحد. فأين الإنجاز إذن؟ حاولت إسرائيل ترويع المدنيين من خلال حرث الشوارع والهدم والتدمير وإطلاق النار وإبعاد الناس عن بيوتها وسرقة الأموال منها، ولكن النتيجة كانت عكسية فالحاضنة الشعبية للمقاومة في جنين وغيرها هي أقوى اليوم من ذي قبل. وفي غياب إنجازات ملموسة، سرّبت قيادة العملية العسكرية الإسرائيلية أنّها انتصرت في الحرب النفسية وزعزعت ثقة المناضلين بأنفسهم. العكس هو الصحيح خاصة في ظل نجاحهم في الإفلات من نيران الجيش الإسرائيلي وفي ضوء الدعم الشعبي العارم والشامل من كل الشعب الفلسطيني. أما عن ترميم الردع الإسرائيلي، فحدّث ولا حرج، إذ أن الردع بحاجة لمن يرتدع حتى يسري مفعوله، وهذا غير موجود في قاموس مخيم جنين. وقد تباهى وزير الأمن الإسرائيلي، الجنرال احتياط يوآف غالانت، بأن أهم إنجازات العدوان على مخيم جنين، هو تحقيق حرية الحركة للقوات الإسرائيلية، أينما تريد وحيثما تريد في أنحاء المخيم، دون الدخول في اشتباكات مسلّحة. ولو فرضنا أن هذا الأمر قد تحقّق (وهذا ليس دقيقا) فإن معناه أن الجيش الإسرائيلي بحاجة إلى 1200 مقاتل كل مرّة يريد فيها الوصول إلى نقطة ما في مخيّم جنين. فعن أي حرية حركة يتحدث وزير العدوان؟ واستمرارا للعدوان على غزّة، فقد استهدفت إسرائيل حركة الجهاد الإسلامي، باعتبارها حركة ليست لها سلطة ولا يمكن الضغط عليها بوسائل الضغط التقليدية، وتأمل بأن تؤدي الضربات العسكرية إلى خلق حالة من الردع مع الحركة، وبحكم النتيجة، فشلت هذه الاستراتيجية وارتطمت بصخرة من الصمود.
الفشل والعودة
يمكن استعراض أوجه كثيرة إضافية لفشل العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين، لكن، وكما يبدو فأنّه لا يردع إسرائيل، بل على العكس، فهو يدفعها إلى العودة إلى اقتحام المخيم مرة أخرى بقوات معزّزة استنادا إلى مبدأ الغزاة بأن ما لا يأتي بالقوّة يأتي بقوّة أكبر، وهذا يتطلب موقفا فلسطينيا موحّدا بعدم السماح لإسرائيل بالاستفراد بالمخيّم.
العدوان على جنين: فشل يقود إلى التكرار!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 06.07.2023