بعد مرور شهر على الحرب، عقدت الترويكا الإسرائيلية: نتنياهو وغالانت وغانتس، مساء الثلاثاء من هذا الأسبوع، ثلاثة مؤتمرات صحافية، كل على حدة، وذلك لحسابات سياسية وحزبية لمرحلة ما بعد الانتهاء من الحرب. وأكد الثلاثة على أن الجيش الإسرائيلي يسعى إلى الحسم والقضاء على المقومات العسكرية والتنظيمية والسلطوية لحركة حماس. وقاموا بتضليل الرأي العام قائلين بأن العملية البرية تسهل، لا تعطل، تحرير الأسرى والرهائن. هم لم يقدموا أية معلومة جديدة حول الحرب البرية، وذلك في إطار سياسة التعتيم، التي تتبعها إسرائيل، والتي لها أهداف عملياتية وسياسية في الوقت نفسه. وما بدا من منافسة سياسية، ظهر أن هناك توافقا إلى حد كبير في الأهداف العسكرية للعدوان على غزة. بموازاة الحملة العسكرية، بدأت القيادة الإسرائيلية تحدد الأهداف وتصيغها بشكل أكثر تحديدا، أخذا بعين الاعتبار أنها ستُحاسَب لاحقا على مدى تحقيقها لغايات الحرب. وذهبت بعض القيادات الإسرائيلية إلى الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب وتحديد ملامحها المرجوة إسرائيليا. هذا ليس كلاما عن المستقبل فحسب، بل له إسقاطات على الحاضر وعلى سير العمليات العسكرية، فإذا عرفنا إلى أين تريد الوصول، يمكن استنتاج الطريق أو الطرق التي ستسلكها.
الهدف والوسيلة
لعل الهدف الإسرائيلي الأول بعد أحداث السابع من أكتوبر، هو استعادة الهيبة والكرامة والثقة والردع وصورة الدولة القوية، التي تهاوت كلّها صبيحة ذلك اليوم. لهذا تشن الدولة الصهيونية حربا انتقامية عدوانية إجرامية قذرة ضد الشعب الفلسطيني، راح ضحيتها ما يقارب 11 ألف إنسان وعشرات آلاف الجرحى، قسم كبير منهم من الأطفال. أما بالنسبة للهدف الرئيس المعلن وهو القضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس، فلم يظهر حتى الآن ما يدل على تحقيق أي «إنجاز» مهم له علاقة بهذا الهدف. كذلك الأمر بالنسبة للهدف الثاني، الذي تحول إلى هدف رسمي عبر الضغط على أهالي الرهائن والجمهور الإسرائيلي، وهو إعادة المخطوفين والأسرى من دون صفقة تبادل، فمن الواضح أن الحملة البرية تتناقض مع إعادتهم سالمين. وقد نشر الصحافي الإسرائيلي رفيف دروكر مقالا في جريدة «هآرتس»، عبّر فيه عن خشيته من أن تفشل إسرائيل في كلا الهدفين: لا تقضي على حماس ولا تعيد الرهائن أحياء. وهذا الفشل وارد في ظل التعنت الإسرائيلي، الذي تحول إلى غباء في التعامل مع الحالة المركبة، وإلى غرور بأنه يمكن تحقيق أي هدف عبر استعمال العنف والمزيد من العنف.
انهيار العقيدة
ترتكز العقيدة الأمنية الإسرائيلية على أربعة ركائز: الردع والإنذار والدفاع والحسم. وقد تهاوت ثلاثة منها يوم السابع من أكتوبر، فلم ينفع الردع ولم يحصل الإنذار، وفشل الدفاع في منع ما حصل. وتعالت دعوات لإعادة النظر بهذه العقيدة، التي صممت أصلا لمواجهة دول وليس منظمات. وفي مقال له في صحيفة «معاريف» هذا الأسبوع، كتب يعقوب نجال مستشار الأمن القومي السابق لبنيامين نتنياهو والرئيس السابق بالوكالة لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، بأنه بعد نهاية الحرب يجب «إجراء تغيير جوهري في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، بالأخص في مواجهة منظمات «إرهابية». ليس هناك بعد الآن ردع وإنذار ودفاع وحسم. الاستنتاج الواضح هو أنه يجب تغيير ركيزتي الردع والإنذار من الأساس، وتقوية ركيزتي الدفاع (في كل المستويات) والحسم». يعتبر نجال من أقرب المقربين لنتنياهو، وهو عضو في طاقم الاستشارة غير الرسمي الذي أسسه رئيس الوزراء الإسرائيلي والذي يشمل أيضا رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الجنرال احتياط يعقوب عميدرور ورئيس الموساد السابق، يوسي كوهين. وفي مقترحاته حول مستقبل قطاع غزة يقوم نجال بتوسيع مفهوم الدفاع ليشمل «شريط الموت» على الحدود وهيمنة أمنية على غزة. وما من شك بأن الاتجاه العام في إسرائيل هو عدم الركون إلى الردع والإنذار وتقوية الأنظمة والترتيبات «الدفاعية» وشن الحروب الاستباقية بادعاء الدفاع عن النفس.
تصورات ما بعد
على عكس ما يعتقد البعض، ليس لدى إسرائيل خطة عينية بالنسبة لمرحلة ما بعد الحرب، ولكن لديها خطوط عريضة تنسجم مع الحدود التي رسمها لها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي المكوّن من الخماسي بنيامين نتنياهو وغلانت وديرمر وغانتس وأيزنكوت. وتمثلت تلك الحدود في ثلاث قواعد لنهاية الحرب، الأول ألا تكون حماس، والثاني ألا يكون احتلال إسرائيلي لغزة والثالث ألا تخلف الحرب حالة فوضى في القطاع. وكان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نفسه قد أعلن دعمه للقضاء على حماس ومعارضته لاحتلال غزة. الحدود الأمريكية مقبولة لدى الحكومة والمؤسسة الأمنية في إسرائيل فهي تنسجم عموما مع أهدافها الاستراتيجية بالنسبة لقطاع غزة. وتنطلق المواقف الإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب، من تحقيق الأهداف وهذا أمر في غاية الصعوبة إلى درجة الاستحالة. ومع ذلك، فإنه بنظر الدولة الصهيونية ونخبها، هناك حاجة لتصوّر ما سيكون بعد نهاية المعارك العسكرية، فلهذا التصوّر تأثير كبير في السياسات والممارسات الراهنة وعلى صياغة الأهداف العينية للحرب. هناك إجماع إسرائيلي حول بعض ملامح مرحلة «ما بعد» إلى جانب بعض نقاط الخلاف. المتفق عليه بالمجمل هو أن يكون قطاع غزّة ما يشبه منطقة «ب» في الضفة الغربية، أي أن تكون المسؤولية الأمنية إسرائيلية وإدارة الشؤون المدنية غير إسرائيلية، ونقاط الاتفاق في أوساط التيار المركزي الأمني والسياسي هي:
*أولا، سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على قطاع غزّة. وهذا ما قاله نتنياهو وغانتس وغالانت ولبيد وكل الجنرالات المتقاعدين. والقصد من ذلك أن يكون بمقدور الأمن الإسرائيلي أن يدخل متى شاء وكيفما شاء، أي بقعة في قطاع غزة، لحماية أمن الدولة الصهيونية. وهذا الأسبوع، صرّح بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مقابلة مع قناة «إي. بي. سي» الأمريكية، وفي مؤتمر صحافي في تل ابيب، بأن «إسرائيل ستتولى المسؤولية الأمنية الشاملة في غزة لفترة غير محدودة بعد الحرب». وفي مقابلة مع قناة «سي. أن. أن»، شرح مستشار نتنياهو مارك ريغيف بأن هذا لا يعني «احتلالا مستمرا (بل هو) شيء أكثر مرونة، حيث يمكننا التحرك والخروج حسب الحاجة للتعامل مع الوضع الأمني، فنحن لا نتحدث عن أي نوع من الاحتلال المستمر لقطاع غزة»
*ثانيا، تخطط إسرائيل لإنشاء «شريط الموت كشرط للحياة»، وما معناه استيلاء إسرائيل على شريط حدودي داخل قطاع غزة عرضه حوالي 2 كم، يخضع لرقابة دائمة ومشددة، وتتم زراعته بالألغام وتطلَق النار على كل من يدخله. وتعتقد القيادة الإسرائيلية أن شريط الموت هو شرط لعودة الحياة إلى مستوطنات غلاف غزة.
*ثالثا، تسعى إسرائيل إلى فرض سيطرتها بالكامل على كل المعابر، بما فيها معبر رفح، حتى يخضع كل ما يدخل قطاع غزة إلى تفتيش ورقابة إسرائيلية، ويصبح القطاع منطقة تحيطها إسرائيل من كل الجهات.
*رابعا، يبدو من التصريحات والتحليلات الإسرائيلية أن هناك نية بانتشار عسكري معين في قطاع غزة. معالم هذا الانتشار غير واضحة حتى الآن، لكن الكل في الدولة الصهيونية يؤكّد بأنها لا تريد أن تدير الحياة المدنية للناس في القطاع، وعليه يجب أن يتولى هذه المهمة طرف آخر. من يكون هذا الطرف هو موضع خلاف، والمقربون من نتنياهو (الذين يعكسون مواقفه إلى حد كبير) يرفضون عودة السلطة الفلسطينية للحفاظ على انفصال غزة عن الضفة. وأوضح أحد مستشاري نتنياهو ذلك بالقول: «نحن مهتمون بإنشاء أطر جديدة، حيث يمكن لسكان غزة أن يحكموا أنفسهم، وحيث يمكن أن يكون هناك دعم دولي لإعادة إعمار غزة، ونأمل أن نتمكن من جلب الدول – الدول العربية أيضا – لإعادة إعمار غزة منزوعة السلاح فيما بعد حماس». في المقابل يؤكد كل من بيني غانتس، عضو مجلس الحرب وزعيم كتلة «المعسكر الرسمي»، ويئير لبيد رئيس حزب «يوجد مستقبل» بأنه يجب خلق الظروف التي تسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة. ويبدو أن للولايات المتحدة الموقف نفسه.
أضعف الإيمان أن تعلن السلطة الفلسطينية، وأن تؤكد الدول العربية بأنها لن تدخل غزة فوق الدبابة الإسرائيلية، وبأنها لن تقبل إدارتها تحت حراب الدولة الصهيونية. وإذا زاد العرب وخرجوا من مربع قلة الحيلة وقاموا بمسعى حقيقي وجدي لوقف إطلاق النار، بضغط مؤثّر على الولايات المتحدة (وهم قادرون إذا شاؤوا)، فإن هذا كفيل بتعطيل الحملة العسكرية الإسرائيلية وإفشال أهداف الحرب وما بعد الحرب!!
هل تسعى إسرائيل لتحويل غزّة إلى منطقة «ب»؟!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 09.11.2023