
مُذهلٌ أن تكون الدول العربية، التي وقعت تحت التهديد المباشر من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، هي التي سبقت الجميع في التطبيع مع الدولة الصهيونية، وعقدت اتفاقيات سلام معها. مصر والأردن قيد الاستهداف والضغط والتخويف، تضرب إسرائيل وأميركا التطبيع واتفاقيات السلام مع هذه الدول بطول الحائط وعرضه، إذ يتصايح توأم الجنون والهمجية السياسية، ترامب - نتياهو، بأن "الحلّ الوحيد" لغزّة هو تهجير مليونين من أهلها (وأكثر) إلى هاتَين الدولتَين، حتى لو أدّى ذلك إلى تفجير الوضع الداخلي لكليهما. الدولة الثالثة التي ضُمّت إلى قائمة التهديد هي السعودية، التي ظلّ ترامب وقبله بايدن، ومعهما نتنياهو، يكرّرون صباحاً ومساء في السنوات القليلة الماضية أن التطبيع الإسرائيلي معها وصل إلى الشوط الأخير. الغزل الإسرائيلي الأميركي بالسعودية كلّه انكشف عمق نفاقه مع دعوة نتنياهو السعودية كي "تمنح" الفلسطينيين دولةً في أراضيها. لم يُلقِ بالاً لمصلحة السعودية أو رأيها أو حتى لمشروعه المُدَّعى للتطبيع معها، ولو في الحدّ الأدنى من الدبلوماسية الكاذبة والخادعة، بل تحدّث بكل فجاجة وعنجهية. المنطقة العربية في المنظور الإسرائيلي الأميركي مجرّد أراض مُستباحة يتم التعامل معها "أرضاً بوراً"، يمكن اقتطاع أيّ منها، أو احتلاله، أو نقل بشر إليه، لتحقيق هدف مركزي واحد هو أمن إسرائيل.
الدرس المرير والمُرعِب الذي يجب أن تستفيق عليه المنطقة كلّها، وانظمتها العربية، هو التالي: التطبيع مع إسرائيل من أيّ دولة عربية أم غير عربية لا يعني أن هذه الدولة أصبحت في مأمن من الغدر الإسرائيلي، والمخطّطات التوسّعية والاستعمارية والإبادية الإسرائيلية الأميركية. مهما بالغ بعض العرب في إظهار حسن النيّة وتوقيع معاهدات السلام، بل وحتى الاستسلام، فإن التطبيع لا يشكّل بوليصة تأمين تحمي هذا البلد أو ذاك من استدارات الاستراتيجيات الاستعمارية لتلّ أبيب وواشنطن. في تطبيع إسرائيل مع دول الخليج مثلاً، من يضمن لأيّ دولة خليجية أن إسرائيل وأميركا المستقبل لن تفتحا ملفّات متفجّرة مثل ديموغرافيا المقيمين، أو التجنيس، أو أسعار النفط والغاز. لا ضمانة أبداً.
ثمّة نمط متكرّر لسيرورة "عمليات التطبيع"، أصبح معروفاً منذ توقيع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على معاهدة سلام مع إسرائيل في أواخر السبعينيّات، إلى آخر توقيع ضمن ما سمّيت "معاهدات أبراهام". يسير هذا النمط كالتالي: يُحتفى دبلوماسياً وإعلامياً بالدولة العربية المُطبّعة الجديدة، وتُغمَر قياداتها بخطابات التبجيل والتفخيم، وخلع صفات الحكمة وبُعد النظر عليها، لأنها تعزّز "السلام" الإقليمي، تعقب ذلك زيارات وفود لا تنقطع من الكونغرس الأميركي، ومن جهات إسرائيلية متعدّدة، خلال مرحلة التبجيل والنفخ الإعلامي، تخلق انطباعاً بأن الدولة العربية التي تورّطت في قطار التطبيع سوف تدخل مرحلةً جديدةً وعالماً آخر غير عالمها. يتوازى ذلك مع وعود مُبهرة حول الاقتصاد المزدهر الذي سوف يلي توقيع المعاهدات، ومرحلة الرخاء التي تخلف مراحل العداء والحروب. يعيش الجميع في فقاعة إعلامية هائلة تشتغل عليها مؤسّسات الإعلام الأميركي والغربي والإسرائيلي. بعد انقضاء شهر العسل الإعلامي والدبلوماسي، يعود الواقع المتواضع والمُزري إلى حاله تدريجياً، مع خسارات جديدة للدولة العربية، التي انخرطت في التطبيع، ومع انتقال إسرائيل وأميركا إلى الضحيّة التالية.
ما يُطالب به مراهقا السياسة الهمجية، ترامب ونتنياهو، من طرد الفلسطينيين إلى الأردن أو مصر أو السعودية، يمثّل وقاحةً سياسيةً وعنصريةً تجاوزت كلّ حدّ ممكن
تبخّرت وعود تحقيق الازدهار لمصر وإطلاق تقدّمها وتحرّرها من ربقة الحروب مع إسرائيل، وكلفتها الاقتصادية. بعد مرور ما يقارب نصف قرن على معاهدة السلام مع إسرائيل (وأميركا) بقيت مصر مخنوقةً بمساعدة أميركية تافهة، ترّبط السيادة المصرية، وتشلّ القرار المصري. لم ترَ مصر المستقبل الباهر الذي رُسِم لها، ووُعِدت به في ما لو وقعت تلك الاتفاقية. اليوم تواجه مصر غدر الطرفَين، اللذين رسما لها ذلك المستقبل الواعد. غدرٌ من نوع فريد، مكشوف وصريح وفي وضح النهار.
الحفلة الإعلامية والدبلوماسية ذاتها أقيمت للأردن عند توقيع اتفاقية وادي عربة سنة 1994. ظنّ الأردنيون (وكثيرون غيرهم) أن البلد العربي الصغير، الذي امتدّت حدوده في أطول خطّ مواجهة مع إسرائيل سوف يتحوّل بلداً أوروبياً بعد التحرّر من قيود المواجهة، وإغداق الوعود الأميركية، والغزل الإسرائيلي. مرّ على تلك الاتفاقية أكثر من 30 عاماً لم يشهد فيها الأردن سوى التراجع الاقتصادي والاختناق، والضغط والابتزاز. الأخطر من ذلك كلّه سياسياً، وعلى صعيد الأمن القومي والوجودي للأردن، تصاعد التهديد الأكبر ومصدره إسرائيل رغم معاهدة السلام، المتمثّل في الدعوات اليمينية العنصرية التي تنادي بمحو الأردن واعتباره الدولة الفلسطينية التي يريدها الفلسطينيون.
**التطبيع مع إسرائيل من أيّ دولة عربية أم غير عربية لا يعني أن هذه الدولة أصبحت في مأمن من الغدر الإسرائيلي
ما يُطالب به مراهقا السياسة الهمجية، ترامب ونتنياهو، من طرد الفلسطينيين إلى الأردن أو مصر أو السعودية، يمثّل وقاحةً سياسيةً وعنصريةً تجاوزت كلّ حدّ ممكن، وتدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية في الانحطاط الأخلاقي والسياسي. بيد أن فداحة هذه الوقاحة تقدّم خدمةً غير مباشرة ممتازة ومفيدة، لأنها تدفع كثيرين من المخدوعين العرب نحو دقّ جدران خزّان الوهم، الذي حشروا أنفسهم فيه سنوات طويلة، وربّما عقوداً، وهو خزّان التطبيع، والظنّ أن السلام مع إسرائيل يكفي المُطبع شرورها.
صار من نافل القول التأكيد أن الصلافة والوقاحة والانحطاط الحيواني في تصريحات ترامب تزدري الأعراف الدولية والإنسانية كلّها، التي توصّلت إليها البشرية في القرن الماضي. وأنها انحدار مريع في عالم السياسة والقانون الدولي وتبرير الإبادة الجماعية واستئصال الشعوب. ترامب لا يرى في الفلسطينيين (ولا السود أو المتحدرين من إثنيات عديدة ومن أميركا الجنوبية) بشراً. لا يرى في غزّة، وفلسطين وأرضها، سوى عقارات قيد الاستيلاء والاستثمار، وبالإمكان التخلصّ ممّن عليها. هو ونتنياهو يرون في الأردن ومصر والسعودية وسورية والعراق، والأرض العربية كلّها، عقارات يمكن تداولها والاستيلاء عليها، ونقل البشر منها وإليها، من دون أيّ عوائق. يستوي في هذا جميع "الغوييم" (غير اليهود)، الذين خلقهم الربّ لخدمة اليهود وحسب.
علينا عرباً، وأهل المنطقة عموماً، فهم التشكيل الجديد لمدرسة كاملة في العنصرية تستعيد وتستنطق خطابات وسياسات الاستعمار المُتوحّش، الذي ظنّ العالم أنه قد انقضى وباد. لا تتردّد هذه المدرسة التي يقودها الأرعن ترامب، لكن يجد حوله جيشاً كاملاً من المطبلين والمؤيدين لها، في استعادة بشاعات عصور الاستعمار المظلم، حين سادَ قانون الغاب وولغت جيوش الرجل الأبيض في دماء وبلاد الشعوب الأخرى، سواء في القارّة الأميركية، التي أباد الأوروبيون عشرات الملايين من شعوبها الأصلية، أو في أفريقيا وآسيا، والعالم كلّه، ومنه الوطن العربي، الذي اكتوى بناء الاستعمار، ولا يزال. أيّ سياسي أو مثقّف، أو حتى عابر سبيل في هذه المنطقة، عليه أن يرى معالم هذه المدرسة، ويعيها، ومن يتغافل عنها ثمّة شكٌّ في وعيه.
