أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
قراءة فى رواية "الهيش" لأشرف العوضي!!
بقلم : عبدالنبي فرج ... 14.01.2014

الهيش الشجرُ الكثيرُ المُلتَفُّ الذي يُتَوَارَى فيه للخَتْل والغِيلَة .والهيش يكثر فيه الحلفاء والغاب والحشائش، فما الذي يجعل شخصاً ما أو مجموعة من الشخوص تجعل هذا المكان مأوي وسكناً لها رغم خطورته؟ يجمل توصيف هذا الوضع الفلاح المصري الفصيح فىي المثل الشهير ” إيه اللى رماك على المر، قال اللى أمر منه ،والذي رمى شخوص الروائي والقاص اشرف العوضي فى هذا المنفى والذي جعل منها ساحةٍ للصراع فى روايته “الهيش” والصادرة عن دار أبداع للنشر والتوزيع، أسباباً شتى منها، الجغرافيا الطاردة، والتي تمثل فى بعض الأماكن، شديدة القسوة مثل قري الجنوب والذي يهرب من الفقراء طلباً للرزق أو لخطورة الاستقرار لهيمنة العائلات الكبيرة وقمعها وعنفها ضد أي خروجات، أو هرباً من الثأر ، مثل المعلم هريدي صانع القلل والبلاليص والأباريق وهو أول من حرق الهيش وبنى فرناً كبيراً لصناعة الفخار ، أو قطاع الطرق: هؤلاء المنبوذين،والمطاردين، من السلطة المركزية ،والذي سٌّدت أمامهم الطرق، ولم يجدوا سوي هذا المكان، للاستقرار فيه كشكل من اشكال الحماية من السلطة المهيمنة فى القرية، والمتمثلة فى أبو السعود الإقطاعي ،الذي تزوج من فتاة فقيرة تقدم الشاي فى الموالد ثم تمتع بجمالها وعندما أرتوي منه ،سرق عقد الزواج العرفي وهرب تاركها، وحيدة تقابل مصيرها البائس، وهي تحمل طفله داخل رحمها، والذي يستحوذ على الشخصية الرئيسية فى العمل الروائي وهو “برهان”، والذي يعيش في صراع رهيب مع عليش والذي تصادف هو أيضا أن يكون مصيره مثل مصير برهان مقذوفاً للهيش كخادم اقرب إلى العبد فى بيت الصباحي الدكش شيخ العربجية في موقف الكارو والذي يري منيرة الدكش تمارس الجنس مع صبيان المعلم ورغم ذلك يوافق على الزواج منها لأنه لا يري طريقاً أخراً أمامه يخرجه من المستنقع والفقر والتعاسة سوي هذه الزيجة، رغم أن أبيه كان فى الأصل ثرياً يضع الفلوس فى شكائر ألأسمنت ولكن كل ذلك ذهب لزوجة الأب صغيرة السن، وهو العنين والذي كان يغار من أبنه الصغير وعندما يموت الأب تبيع الزوجة كل أملاكه ولا يتبقى لدي الابن سوي بيت متهدم منسي لكى يعيد بناءه بأموال أبو منيرة العكش زوجته في هذه البيئة التى يسكنها الطبقة المسحوقة، ينشب الصراع العنيف بين أبناء الهيش وكأن الضحايا لا يجدوا طريقا أخر للعيش المشترك بل فقط أن ينشبوا مخالبهما فى بعضهما البعض حتى الموت، فعليش كان يمارس الجنس مع أم برهان وبرهان يمارس الجنس مع زوجة عليش، وعليش وصبيانه ينتقمون من برهان بتمزيق جسده بالسياط حد الموت وبرهان بدلا من الانتقام المباشر من عليش يقوم بقتل الزهرة البرية النابتة فى حقل من الأشواك وهى سعاد وكأنه قدراً لا فكاك منه أن لا يخرج من هذا المكان ريح طيبة بل ريح مسمومة، ريح عطنة تسمم أجساد الشخوص وتدفعهم للعنف والقتل المادي والرمزي ، المادي من خلال قتل قاطع الطريق لأبنته وزوجها ذبحاً وقتل برهان لسعاد ابنة عليش أما الرمزي فيتمثل في قتل أبالسعود لأبنه برهان ،حيث تبرأ منه وتركه مع أمه نهباً مستباحاً لشر الناس ولم يفرد عليه جانب حمائي بالاعتراف به ،حتى بعد أن فقد أبناءه وظهرت خسة ابنه الكبير الذي كان يكمل تعليمة فى تركيا والذي كاد أن يدخله مستشفى الأمراض العقلية ،أو من خلال منيرة العكش سيئة السمعة التى دمرت حياة أبنتها سعاد قبل أن يجهز عليها برهان بعد ذلك أو من خلال الثري الذي رمى ابنه ” عليش كعبد فتحول لكائن مخصي يرضي بالزواج من مومس لكى ينعم بإرثها من أبيها ،أو هذه الكائنات العنكبوتية المهمشة ،الحاقدة المؤذية، والعنيفة حتى من خلال النظرات القاتلة “كان الناس يهمسون عن أمه في أمسياتهم على شاطئ البحر و في غرزة ” شوقي البكرور” كان الهمس مثل الطنين رتيبا خافتا ، ولكن نظراتهم إليه كانت كأشواك تنغرس في لحمه.
2
المكان فى رواية “الهيش لأشرف العوضي هو فاعلاً رئيساً وجوهراً للصراع ،وهو ينقسم لقسمين، القسم الأول وهو كياناً فاعلاً ولكنه كيانا غامضا ، مكانا نائيا غير محددا هلاميا، يفتقد للعينية، لأنه مكان محددا وثابتاً فى كل قرية ويملأ فضائه السلطة المهيمنة والذي يقتصر فاعليتها على الهيش فى انتهاكه وقهره واستبعاده باعتباره كياناً موبؤاً مثل العمدة وشيخ الغفر وناظر المدرسة ولذلك أي اختراق لهذا القسم ،قسم السلطة من أبناء الهيش ممنوع وكأنه قانوناً غير مكتوباً ومن يخرج على هذا القانون فستكون نهايته القتل كما حدث “عندما هجم ملثمان على تهاني ابنة الشربينى المغاوري ذلك الأجير الفقير لدى العمدة سلامة ولم يتركا البنت إلا بعد أن فقدت أغلى ما تملكه، وعندما عادت منكسة الرأس ودموعها تنهمر على وجهها الميت وأخبرت أمها بما جرى لها، أطلقت المرأة صرخة دوت في سماء القرية ولم يجد الشربينى مفرا سوى أن يتركها تلقى بنفسها في النهر على مرأى ومشهد منه ومن أمها” ،هناك أيضا الإقطاعي ،أو المأمور والذي يفشل فى معرفة من القاتل مع إن الدلائل تشير بوضوح للقاتل فى ظل وجود دليلاً مادياً مباشراً وهى أجزاء من جسم القاتل، ولكنه العماء والغطرسة وانعدام الضمير والذي يجعله يستهن بالروح البشرية، إن هذا المكان الذي لا يرد تفاصيل حوله من الراوي يستبعد أبناء الهيش حتى زوجاتهم الفضليات يمارسا الجنس مع برهان، ليس باعتباره مرغوباً وكيان إنساني بل إنه مجرد عبد، عبد للذة لا قيمة له، وعندما يجرؤ على الاعتراض ترد عليه الفاضلة الذي يمارس معها الجنس وهى فى أوج اللذة ،أمك يرحمها الغفور الرحيم هي أول من دلتنا على هذا الطريق العفن. وباختصار شديد لست إلا إبن حرام وأبن زانية وكلنا في الهوا سوا.
لهذا كان سبباً رئيساً من أسباب مأساة أهل الهيش، رغم أن المكان واحد والتقسيم وهمي “خط غرينتش” ولكنه موجود ومؤثر، هناك أيضا الهيش ،الذي يلتف على القرية كالافعى على ضحيتها كما يصف الراوي أم أن الهيش هو الرحم الذي يحتضن ويحمى الشخوص من الانهيار التام، هذا الكيان المغروس فيه كل المنبوذين والفقراء والضائعين والذي يركز الراوي عليه ويحاول أن يثبت مدي خطورته، وقد يكون ما يقدمه صحيحاً فى الواقع فهو مكان يحوي الافاعى والثعالب والقتلة ولكن هو فى الحقيقة المكان الدافئ ،فمجرد زرع نبات الشيح تهرب الافاعى، هو الرحم الحمائي للشخوص ،والذي يتصور عنه بأنه مكان خطر ،بل انه مكان رحمى للفقراء والمنبوذين وكل من يخرج منه يكن فى انتظاره رصاصة قاطع طريق ،لذلك تفضل منيرة العكش وهى الأقرب للمومس أن تظل أبنتها جوارها ولا تذهب للمدرسة الثانوية لأنها تعلم بالحدس أن خروجها من هذا المكان هو نهايتها، ويأتي على لسانها “فارت وإستوت وخراط البنات خرطها” وأصبح ذهابها إلى المدرسة فيه كثير من الخطورة، على من تتمتع بمثل هذا الجمال في مثل هذه المنطقة المليئة بكثير من المجرمين واللصوص وهاتكي الأعراض، وخصوصا أن المدرسة الثانوية كانت تبعد عن القرية أكثر من ثلاثة كيلومترات يقطعها الطلاب على أقدامهم في طريق ترابي ضيق غير بعيد عن الهيش المرعب بمحاذاة النهر يتلوى كثعبان وسط مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والغاب الكثيف على شاطئه المليء بكثير من الحيوانات الشرسة ومن قاطعي الطريق. أن أهل الهيش المنبوذين يسقطون فريسة الفقر والجهل، وجاءت اللغة عكس ما تضمره هذا العوالم المعتمة، فقد عبر الروائى عن هذه العوالم المتشابكة بلغة رائقة شاعرية شفيفه وكأنها نهر دون الوقوع فى الترهل أو التكثيف الشديد الذي يؤدي لعدم وصول المعنى والسقوط فى فخ الغموض الذي لا يؤدي لمعنى ويسقط الرواية فى فخ العدمية، أن اللغة تنير العوالم ،وكأنها كاميرا تضيء الظلال لتنبه وتشير لوقائع وأماكن منسية فقدت القدرة على الخلاص”، كانت عيناه تلمعان تحت أشعة القمر الشاحبة في تلك الليلة الملبدة بالغيوم، ولكنها مع ذلك سمحت للقمر أن يرسل بصيصا صغيرا من ضوء سرعان ما يخبو تحت وطأة سحابة سوداء مرعبة”.أن شخوص أشرف العوضي يائسة محبطة، كائنات عنكبوتيه مريضة ،سوداوية مشوهه لا أمل للنجاة من مصيرها المأساوي رغم محاولتها الدءوبة للخلاص والإنعتاق!!

1