لا تمنحك «مكاشفات» (1) الشاعرة المغربية أمينة المريني، بل وتجربتها الشعرية ككل، سوى منفذ واحد، أن تعشق فيه كل حرف من حروف قصيدتها.
سنقارب تجليات العشق الإلهي في مكاشفات الشاعرة مقاربة تأويلية، و«تعتمد التأويلية مبدأ الملاءمة (وهو يعني في الحدود الدنيا غياب التناقض) باعتباره معيارا للحقيقة. ينبغي أن يفسر كل مظهر من مظاهر النص تبعا للملاءمة بين الكل..» (2)
تفتتح المكاشفات بقصيدة عنوانها مقام الجمال. وحسب العتبة المصاحبة لعنوان القصيدة، فالشاعرة كابدت حال الابتلاء لتعبر حال الجمال، وهو يهيء لمقام المكاشفة. وتحولات الذات الشاعرة وما تكابده في هذا المسار هو نسغ القصيدة وقوامها، فالمعشوق جمال سني في جماله انسَكبت الدوالي في كأس العاشق، لتشرب منه الشاعرة فتزداد عطشا، وما الكأس هنا سوى العشق. وتصور الشاعرة في القصيدة تجليات هذا العشق ومراقيه، ومعجم العشق يسير نحو الكشف المشتهى: (الهيام، الوله، الهوى، الذهول، الرضى، وامق، كاشف). إن قصيدة مقام الجمال ضفة ما قبل المكاشفة، وفيه كابدت الشاعرة (سورة البعد) وأسر التوله (ووقوف الأسير المولّه) يجلل الشاعرة ذهول في حضرة جمال الله، والمعشوق موغل في غيبه، والعاشق موغل في حبه، فهو (خلف الستار… ولقد غاب.. وتوارى…) متمنّع.
وأحوال العاشق ذهول وزلزال وقتل وإحياء: (فسريت على سبحات الجمال/ الذي أذهلك/ ثم من ذبذبات السنا/ زلزلك/ ثم أحياك إذ قتلك..) وهو في مجاهداته يهفو للحظة انكشاف حبيبه: (وانكشف للرؤى/ وخذ الكل لك). ( وارفع الحجب/ هل أعجلك؟).
وفي قصيدة «فرقد» تحرك شهقة الناي العشق الكامن، وتوقظ الحلم الغافي، ذاك الذي تفوق لذته لذة الشعر فلا يكون الشعر في حضرته سوى سراب: (تناستْ لديه/ سراب المجاز/ ووهم الكناية/ إذ عربدا). وحنين العاشق إلى المعشوق، وشوقه للوصل يجعلان لحظة الانكشاف تحولا نورانيا لذات العاشق من فيض أحدية المعشوق: (يكاشفني/ لا أرى وصفه/ ويطلعني من لهيب/ السنا فرقدا).
في قصيدة: «لها مواويل القاف» تتوج الشاعرة المقاطع السبعة بأفعال أمر كلها تنتهي بقاف: (احترق، اخترق، امتشق، اعتنق، اغتبق، استبق، انطلق) وكل صيغ الأمر موجهة للذات، للسمو بها نحو النور الكلي (في عرشك/ الفجر والنجم/ والضوء والمنتهى) وللفناء والشهود بعد اغتباق أكؤس العشق التي لا حواشي لها، عشق لا يحد، فيجود العاشق بدمه في سبيل عناق المعشوق، ويرى وجهه اللانهائي. وفي القصيدة مستويات من التلوين البديعي، كالجناس غير التام: (انطلق/ نجمة/ نسمة/ نغمة..) والطباق (الليل/ الفجر) كما يشكل التكرار والتجانس الصوتي إثراء لموسيقى القصيدة ولتفعيلة المتدارك، فتتكرر لفظة النجمة واغتبق واستبق وانطلق، واحتضن، والضمير أنت، وتتكرر التراكيب مثل: النفي، لا ابتهال القوافي/ لا حواشي لها/ لا حدود لها. ويشكل التجانس الصوتي وقوافي القصيدة ملامح فنية، إذ تجد في المقطع الواحد هسيس حروف متناغمة متقاربة، ويتحقق هذا في كثير من قصائد الديوان وانظر قصيدة رقصة. وهذه القصائد تمثل البنيات والرؤى الأسلوبية والجمالية للديوان.
كأس لا تشبه هذي الكأس
سبق لنا تناول الكأس كرمز شعري في فروسية المجاطي (3)، وكشفنا الأبعاد الرمزية لهذا المكون الجمالي، والذي وجدناه يلح علينا ونحن نقرأ مكاشفات الشاعرة، فقد ورد وتكرر مفردا وجمعا وبمرادفات وقرائن شتى أكثر من ثلاثين مرة، مما استوجب دراسته دراسة سياقية و تأويلية. وتجدر الإشارة إلى ورود الكأس وما يحف به من معجم خمري في ديوان سآتيك فردا 2001 وديوان المكابدات2005 «ولما كانت الخمر في شعر الصوفية مجرد تلويح إلى معان خاصة تدور على المحبة الإلهية والعرفان الصوفي، ووصف أحوال الوجد الروحي، فإنها لا تعدو أن تكون رمزا…» (4). ومن سلاطين العشق الصوفي الذين رمزوا بالخمر للحب الإلهي وللمعارف العلوية والأشواق والمكابدات والأذواق، وذكروا الكأس لفظا بعينه: ابن أبي مدين التلمساني والجيلي وجلال الدين الرومي…والحلاج .. وابن الفارض الذي يقول: (شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً/ سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ/ لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يديرها/ هِلالٌ، وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجمُ.) ويعلق شارح الديوان في هامش الصفحة179. (والكأس كناية عن مظهر التجلي). (5)
يوحد العشق الصوفي ومكابدة الشوق لتحقق المكاشفة، رمز الكأس، ولكن في تلك الوحدة مستويات من اللون الذي يكسب كل كأس خصوصيته ويكون عبقا وعطر زهرة ما وسط بستان الدلالات، تقول الشاعرة: (ولا كأس تشبه هذي الكأس) فهي رمز، بل كأس تفوق كل خمر، وتسمو سموا علويا، وتناغي البهاء الأكمل. فلذا فالكأس يتجلى في وجوه منها: (كؤوس الجوى. وكأس الجنون. والجنون كناية عن غلبة الحب، وكؤوس أسيل على ضفتيها. وأكؤسا لا حواشي لها. وكأس الوصل. وكؤوس ضاحكات. وكاسات معطرة. ضاءها /وهج الكؤوس/ والكؤوس شهود. بكأس لا تشبه تلك الكأس).
وينقل عاطف جودة نصر عن النابلسي وهو واحد من شراح ديوان ابن الفارض قوله: «فإنهم ــ أي الصوفية ـــ يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها، ويريدون ما أدار الله على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق». تقول الشاعرة في موقف السلوى: (صُبَّ في نفسك نفسي/ وأنرْ كأسك كأسي) وأنر روحك روحي، وتقول في مكاشفات:(أنا شارب الكأس/كأس الجنون). وكم جن الأصفياء وتاهوا بالعشق.
سدرة المنتهى واشتهاء الانكشاف
يتلظى فؤاد الشاعرة شوقا للمعشوق، ففي قصيدة مقام الجمال يصدح: (وانكشف للرؤى/وخذ الكل لك). ( وارفع الحجب/ هل أعجلك؟). وفي قصيدة شهود يوجعه بعد المشتهى: (الباب عندك موصد/نحو ذاك المنتهى/والمشتهى دوما/بعيد؟؟َ!!). وفي قصيدة مقام الذهول يؤكد ذلك الاشتهاء الممض: (بأي مجاز يناغي حبيب/ ليكشف عن ذاته ألقه/ فيأفل ليل/ ويسمق فجر/ على موعد فاتن/ أوثقه؟!). ولافت للانتباه تردد أسلوب الاستفهام، وهو على صورة الرجاء.
ويقودنا هذا الاشتهاء إلى رمز مصاحب له ملازم يكاد يكون صنوا له، وهو رمز الباب، المكنى به عن سدرة المنتهى، وقد أفرد الدكتور محمد بنعمارة رحمه الله صفحات لها ــ سدرة المنتهى ــــ وذكر تعريف كمال الدين عبد الرزاق القاشاني صاحب كتاب «اصطلاحات الصوفية» لهذا المصطلح: هي (البرزخية الكبرى التي ينتهي إليها سير الكل وأعمالهم وعلومهم، وهي نهاية المراتب الأسمائية التي لا تعلوها رتبة.). (6) ويتكرر ذكر لفظة الباب والألفاظ الحافة به من مثل: الأعتاب، والحجب، والستر.. سواء وردت على صيغة الإفراد أو الجمع، تعضدها دلالات الوقوف والانتظار. ليتجلى الاشتهاء وتكتمل صورته. ففي قصيدة رقصة، تحلم الشاعرة بتجلي حبيبها: (وحين ألوح ببابك خيطا/ أرقصه العشق الشوق/ …سينثرني وجه/ ضاءت فيه عباءته) وفي قصيدة غزلية يصور كيف تمنع الحجب الانكشاف، ويكون سفح الدمع ذهولا وهياما واشتهاء لتجلي المعشوق على مرآة القلب، سكبته الشاعرة مجازا يترقرق: (ودمعك خلف رقيق الستور/ على ورق عاشق/ رقرقه؟) قصيدة مقام الذهول.وأول لذات التلقي لهذه الصورة الشعرية، مستوى التشكيل الصوتي، وهذا الجرس والسقسقة الناتجة عن وجود القاف ست مرات.
والشاعرة تتخيل حبيبها يدعوها للولوج إلى حضرته: (اخترق حجبنا/ قطرة من ندى/ غادرت في اللظى/ طينها التعسا). لكنه موغل في تمنُّعه والشاعرة مجنونة بولهه: (هل أدرك البصر المحجوب/ أوله/ أو زاغ حين بدا المحبوب/ متشحا في الستر/ ثم اختفى دلّاً/ وأسدله؟).
مكاشفات
وتصور الشاعرة لحظات تحقق المكاشفات: (يكاشفني/ لا أرى وصفه../ ويطلعني من لهيب/ السنا فرقدا..). (إن من رش في نرجسي/ عشقه انكشفا/ دكني دكة/ فارتوى خزفي/ وهوى شغفا).(فأدخل في حضرة /من شموس لقائك).والشاعرة تحلق في علياء العشق وتفنى في النور ــ فرقد، شموس ــ والبهاء.
وهذا الطواف في المكاشفات ما نحسب أننا أوفيناه حقه أو أننا أحطنا بكل دلالاته وألقه، ويكفي أننا تضمخنا بعشقه.
هوامش:
1 ـ مكاشفات، الديوان الخامس للشاعرة أمينة المريني، ط1 ـــ 2008، نشر حلقة الفكر المغربي.
2 ـ فيرناند هالين وفرانك شويرفيجن/من التأويلية إلى التفكيكية ــ ترجمة محمد خير البقاعي، ضمن كتاب: بحوث في القراءة والتأويل ـ ط1 /1988 حلب. ص 16.
3 ـ قرارة الكأس: انكشاف الرؤيا في فروسية المجاطي/العلم الثقافي 29 مايو2014.
4 ـ عاطف جودة نصر /الرمز الشعري عند الصوفيةـ ط1/1978 بيروت. ص378.
5 ـ ديوان ابن الفارض، شرحه وقدم له مهدي محمد ناصر الدين، ط1 عام 1990 بيروت.
6 ـ محمد بنعمارة: الصوفية في الشعر المغربي المعاصر/ ط1 ـــ 2000 المغرب. ص77
تجليات العشق الإلهي في «مكاشفات» الشاعرة أمينة المريني!!
بقلم : أمجد مجدوب رشيد* ... 07.07.2014
* شاعر وباحث من المغرب