أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الوجع العراقي في رواية سعودية!!
بقلم : عبداللطيف السعدون ... 09.08.2014

أكاد لا أصدق أن كاتبة هذه الرواية ليست عراقية أصلا وفصلا، قلبا وقالبا, وانها لم تطف ببغداد شارعا شارعا وزقاقا زقاقا وسوقا سوقا ولم تسافر بين مدن وقرى العراق كلها، اكاد لا أصدق أنها لم تشرب من الفرات ولم تغتسل بدجلة ولم تتسلق جبال كوردستان ولم تمش الهوينا في المنصور والكرادة والأعظمية وشارع النهريوم كانت مواكب آلهة الجمال والسحر تحرس بغداد قبل أن يطأها القادمون من القاع السفلي لشوارع وأزقة دول الغرب والجوار.
قرأت روايتها “حريق الممالك المشتهاة” مرتين فوجدت أبطالها يعيشون معي، وشعرت أن أحداثها ومشاهدها تحيط بي، تمر من أمامي، تلاحقني وأنا أتنقل في أرجاء الحرائق التي تتناسل كل يوم منذ أن قدر للعراقيين أن يسقطوا في هوة الدمار والرعب والموت المجاني, وقد تعددت الأماكن الاليفة في الرواية على نحو يوثق للوجع العراقي بكل تلاوينه ولا يهمل منه طرفا: سوق السراي, شارع الرشيد, جامعة بغداد، سجن أبوغريب, مكتبة نعيم, كرادة مريم، سوق مريدي، البياع، مقهى الشابندر، وعشرات الأماكن والدكاكين والأزقة والشرفات والناس والكتب والفضائيات، ودور العبادة.
بلقيس الملحم القادمة من بلاد الله اختصرت هذا كله في روايتها، وقدمت لنا ملحمة عريضة أولها أول التاريخ الذي لم يكتب بعد حيث أوصى التلمود أولاد الافاعي بان يتركوا بابل العراقية خرابا ومأوى للغربان والفئران حتى لا يجد بدوي مكانا فيها يربط فيه ناقته, ونهايتها وصية الرب لابراهيم التي نقلها جبريل بأن لا يدع على أهل العراق وقد جعل فيهم خزائن علمه وخزائن رحمته، وقد حاولت الملحم أن تخلق نوعا من الهارموني بين الشارع والناس والموت والحرب والحب واللغة لدرجة اغراء القارئ بأن يواصل استكشاف تفصيلات الرواية من دون أن تعطي له فرصة للراحة , كما حاولت في استخدامها لأكثر من اسلوب سرد روائي توثيق حدث معين متصل بفقد أخ شقيق للبطلة (بلقيس نفسها فقدت أخاها الشقيق في مغامرة تحد بطولي في أحد سجون الاحتلال في العراق)، لكن من دون أن يأخذ هذا التوثيق طابعا زمنيا متسلسلا، كما في اسلوب التقارير الاخبارية، وانما انتهجت طريقة تراكم المشاهد المنتقاة بعناية، من دون أن يؤطرها زمن محدد، وفقد الأخ الشقيق عند بلقيس بدا كما لو كان حكاية فقد أخوة وابناء وزوجات وأزواج وأحباء لكل الناس ، بل أنها أرخت لفقدان وطن جمعت بين أناسه ألفة قيل انها لن تنفصم، لكنها في لحظة جنون شرير انفصمت، وها هي تداعياتها اليوم في اكثر من مدينة وشارع في العراق، وكأن بلقيس أرادت أن تؤرخ لحاضرنا ولقابل أيامنا أيضا، والتي تبدو أياما غارقة في المرارة، غارقة في العتمة.
وتمنحنا الرواية احساسا بالتعاطف مع أبطلها الذين عاشوا معنا، ومع أحداثها التي تكاد تلامس وجداناتنا التي أثقلتها الأقدار بالمتاعب ، وأسقطتها في انهيارات لم نتوقعها، وبين صفحة وأخرى من صفحات الرواية نرى أن أحداثها تتطور لكنها لا تصل الى نهاية مستقرة، فالعراق نفسه مايزال لم يصل، وربما لن يصل ، في المدى المنظور، الى نهاية مستقرة، وسيظل أبناؤه محاطين بالقلق واللهفة من كل ناحية وجانب، ولذلك فاننا نشعر عندما نقرأ رواية “حريق الممالك المشتهاة” أنها تمنحنا طاقة مضاعفة لا لمتابعة تفصيلات الرواية فحسب، وانما لمتابعة تفصيلات الحياة المحيطة بنا، وتجعلنا مع الكاتبة نبحث عن مستقر لأحلامنا وتخيلاتنا، وتمنحنا الأمل في أن يعيش أبناؤنا واحفادنا حياة أكثر بهجة ومتعة مما عشناه نحن، وكما الحياة نفسها فان الصورة الواحدة في الرواية لا تتكرر، انما هي تنتج صورا وصورا على مدار الساعة.
وكما تبدو الحياة في واقعها ملكا مشاعا لكل الناس فان كاتبة الرواية تريد ان تجعل من روايتها ملكية مشاعة لكل الناس، كي تمنحهم حلما أخضر بجدوى الحياة ، حلما متفردا يعطي شعورا بالمحبة والنبل والصدق، وهي لا ترصد ماضيا عراقيا فحسب، انما تستجلي حاضرا انسانيا يمتليء بالمرارة الى حده الأقصى، لتستشرف من خلاله ما تتخيل أنه واقع جديد سوف يصنعه الأحفاد، كما تفتح آفاق مستقبل تريده ونريده نحن معها أن يكون مختلفا، وعسى أن يكون!

1