ينطوي كتاب «علامَ يطلق اسم فلسطين» للصحافي الفرنسي ألان غريش على مجموعة من الأسئلة التي تتخلل، وتحاذي فلسطين، لا بوصفها مساحة من الأرض المتنازع عليها، ولا بوصفها حقيقة تاريخية لمعاناة شعب هُجر من أرضه، ولا حتى محاولة لقراءة تاريخ النضال الفلسطيني، إنما هو اهتمام بالمقام الأول باكتناه حضور فلسطين، ولكن من منظور تاريخي، ينشغل بالسّياقات التي تتموضع فيها فلسطين، وتصوغها في الآن ذاته.
يتجلى بحث – رئيس تحرير صحيفة «لوموند دبلوماتيك» على مساحة من التساؤلات التي تنشأ على هامش التحولات التاريخية ذات الارتباط بفلسطين، ومع ذلك، فإنها تكاد تكتسب قدراً هائلاً من الأهمية؛ لأن إشكالية فلسطين (المسألة) تأتي من كونها، قد تخللت منظومات متكاملة من وعي التاريخ الحديث. وفي ظل مسيرة التاريخ، وتقدمه، يواجه الفلسطيني الكثير من المرارات، التي لا يمكن أن يستشعرها سوى من أدرك أن مفهوم الوطن – على بساطته – بات أكثر تعقيداً مما يمكن أن يتخيله العقل، كونه يقع في حالة من الإرجاء المستمر، ولاسيما لدى الشعب الفلسطيني.
ينهض الكتاب – الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة عام 2012- على عدد من المحاور، مستهلها يبدأ من فعل تمثيل فلسطين، وتداخلها في بنى الأحداث المعاصرة، ولاسيما الأخيرة منها، ونعني الثورات العربية، وانعكاساتها، حيث يتساءل غريش حول ما إذا كانت الثورات العربية، قد أهملت فلسطين من حساباتها، غير أنّ قراءة في تحولات المستقبل، لن تكون آمنة كي نجزم بمدى حضور فلسطين في حسابات الربيع العربي، ومن منظوري الخاص، فإن فلسطين ربما تبقى في الظل من ناحية الاهتمام العربي الرسمي، غير أن التاريخ له انعطافات غير متوقعة، من منطلق أن فلسطين هي المعبر الوحيد للاستقرار العربي، وحين نتجاوزها، فإن مسعانا للبحث عن موطئ قدم في صحيفة التاريخ لن يكون متوقعا.
ما يميز كتاب غريش أنه يسعى بصورة، أو بأخرى لإدراك وجود فلسطين في وعينا التاريخي المتشكل والمستمر، عبر فعل تأثيرها، وتأثّرها بالحدث، ومع أن فلسطين تبدو مجتزأة المساحة من حيث المعالجة، غير أن تمركزها يأتي عبر تحكمها في عدد من المفاصل التاريخية، ومنه ارتباطها مع المشروع الاستعماري بدءا من حفر قناة السويس إلى وقتنا الحاضر، بكل ما يتخلل ذلك من مواجهات العرب مع إسرائيل، وما تمخض عن ذلك من تشكيل الخطاب الصهيوني لفلسطين، بوصفها حافزا لانطلاق مفاهيم معاداة السامية، وانتشارها في أنحاء العالم، بيد أن غريش يتخذ منحى تقويضيا، أو يسعى لتشتيت هذه الدعاوى الصهيونية، إذ يشير – على سبيل المثال- إلى أنّ الوجود اليهودي في مصر كان طبيعيا، حيث كان يشعر اليهودي بانسجام يفوق ما يستشعره بعض اليهود في أوروبا، ونموذجه تقاطع ذاتي يحيله المؤلف إلى والدته اليهودية التي شعرت بارتياح وانسجام في مصر، يفوق ما وجدته في فرنسا. غير أن معاداة السامية باتت تشكيلاً من تعريف «فلسطين»، نتيجة الخطاب الصهيوني، والممارسة الإسرائيلية المستندة إلى تعاطف ودعم غربي. وهكذا تمتد فلسطين لتكون مركزا للصراع المستقبلي والحضاري العالمي، ولاسيما تداعي المسألة الفلسطينية في سياق المشروع الاستعماري، وما نتج من حركات تحرر في العالم، التي باتت فلسطين جزءا من مفرداتها، إذ ان المشروع الاستعماري وجد مبرراته بالتكوين، والأدبيات الغربية الكولونيالية التي أفضت إلى مقولة تصدير الحضارة، ولكن ضمن منطق تنظيرات الرأسمالية التي عبر عنها آدم سميث، والتي تنحو نحو الاستفادة من مناخات تلك المستعمرات في تكوين الصيغة الرأسمالية. وفي ظلال التنازع الاستعماري، وحتمية أن كل الشعوب عرفت طريقها للتحرر تبقى فلسطين تراوح في قاعة انتظار التاريخ، وهو سؤال يتسم بنزعة وجودية، لا مبعث للإجابة عنها.
وفي محور آخر متصل بالسّياق السابق، نقرأ تحليلاً لآلية الاستلاب التي مارستها الصهيونية عبر مسوغات ذات مرجعية كولونيالية، ونعني «تصدير الحضارة» غير أن الممارسة تجلت بالفعل على الأرض، أي عمليا عبر الخضوع لعمليات من التحول والإخضاع، وعبر اللغة وبنعومتها التي تكفل، وتسوغ المبرر الأخلاقي، حيث تم الاتكاء على عبارة تكوين «نموذج حضاري» على أرض فلسطين، من قبل الخطاب الصهيوني؛ بهدف مقاومة همجية السّكان الأصليين، ومن هنا ذهب هيرتزل لتأكيد ذلك في كتابه «الأرض الجديدة القديمة». ولعل مقولة أرض بلا شعب قد وجدت بداية في الخطابات الاستعمارية، ومن هنا كان إدراك هيرتزل بأن حلمه لن يتحقق، ما لم يحصل على تأييد القوى الكبرى، إذ ان من كانوا أشد المعادين للصهيونية في الغرب، هم من سهلوا تحقق المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، ومنهم ديفيد لويد لودج رئيس وزراء بريطانيا 1916، وكذلك بلفور، ووعده المشؤوم في محاولة للاستفادة من النفوذ المالي اليهودي الكبير.
إن فلسطين بلا شك، قد اختبرت عمليات من الإقصاء والتطهير العرقي الذي مورس بحق شعبها، وما هذه الممارسات سوى حلقة من حلقات الكولونيالية التي ابتدأت في أمريكا الشمالية وانتهت بأستراليا. هذا النهج مكّن الصهيونية من تحقيق الدّولة ذات الطابع اليهودي، التي نهضت على قراءة لتحوير وتشكيل اليهود بوصفهم أمة مشتتة إلى أمة تمتلك قدرا من التأثير، بل والعضلات على حد تعبير غريش، وهذا نتج بعد أن هُدمت الكثير من الأفكار التي ميزت العقيدة اليهودية وفلسفتها. فهرتزل وسائر المثقفين الصهاينة، انطلقوا من أنه ينبغي لليهود أن يتحولوا من شخصية اليهودي الفاقدة للثقة إلى شخصية منتجة قوية، لا تخضع للخرافات، وحلم العودة المستند إلى التدخل الإلهي، إنما ينبغي العمل اتكاء على الإرادة لتحقيق العودة إلى جبل صهيون.
إن هذا التطور في الشخصية اليهودية، قد نتج بفعل الاستعمار، والممارسات النازية التي أذكت نيران الحاجة لتبلور الهوية اليهودية، كما يرى ألان غريش. إذن ثمة قراءات جديدة اضطلع بها هرتزل في ما يتعلق بتعديل الشخصية اليهودية التي يجب أن تقترب من قيمة، أو نموذج القوى الأوروبي، وهو هنا يرفض صورة اليهودي الوجودي، ففعل الدفاع عن الحضارة، والعقلانية، هي شروط اليهودي الجديد، ولهذا ينبغي له أن يفارق التصورات والتمثيلات القديمة التي تنهض على الضعف والوهن التي التصقت بسكان الغيتو. إن أسباب انبعاث الشخصية اليهودية يعود إلى الفعل الاستعماري، حيث تعلم اليهودي من الأوروبي كيفية الهيمنة، وهذا ما جعل من اليهود يتماهون كلية بنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا عبر التوافق على سياسة القوة والركل.
وفي قراءة استشرافية لمؤلف الكتاب، تحضر فلسطين في ارتدادات الحدث بعد قرون من التبعية والاستعمار، فثمة سعي من دول العالم في آسيا وافريقيا، وتحديدا بعد منتصف القرن العشرين، للتخلص من صورة الغربي المتفوق، بينما يذهب التاريخ نحو مجراه ومسلكه، إذ تظهر مراكز جديدة ومنها نيودلهي، وبيغين، وبريتوريا، وبرازيليا التي شرعت بتبديد هيمنة بعض المركزيات الغربية التي بدت مطلقة. وهذا ينطبق، أو يجد صداه في سرديات الإعلام التي لم تعد حكرا على قناة سي إن إن، فبظهور قناة الجزيرة بوصفها صوتا مغايرا، ولاسيما في ما يرتبط بقضية فلسطين، بدأنا نشهد تحولاً في الأسلوب عبر بناء صورة جديدة، ومغايرة لفلسطين عما اعتدنا أن نراه لدى وسائل الإعلام الغربي، التي احتكرت لعقود طويلة التعبير عن أصوات الشعوب المهيمن عليها. وهكذا باتت المقاومة في الإعلام مصطلحا يحيل إلى قيمة عادلة وأخلاقية، بعد أن كان تنعت لعقود بالإرهاب، كما في قناة سي إن إن، وبعض القنوات الفرنسية والغربية، ومن هنا فإن فلسطين لم تنل تغطية إعلامية عادلة، على الرغم من مجموع القرارات التي انتهكتها إسرائيل في الأمم المتحدة، وهكذا نجد أن حقيقة التاريخ بات لها أكثر من وجهة نظر، وهنا يرى غريش أن اسم فلسطين يمكن أن يطلق على عقود طويلة من التهميش والإقصاء الإعلامي لمعنى الحقيقة، ولاسيما حين تتصل بفلسطين.
إن عملية التمثيل، واستلاب منطق التعبير هو سمة مميزة للفكر الغربي، ومنظوره في ما يتصل بالتاريخ، فعلى سبيل المثال تعد القرون الوسطى من منظور الغرب عصور ظلام، ولكن للبشرية جمعاء، من منطلق أن الغرب كان يعاني من أزمة حضارية وثقافية، مع أن الفترة عينها، كانت تعد فترة ازدهار للشرق بالاستناد لدراسة المؤرخ جون هوبسون بعنوان «الأصول الشرقية للحضارة الغربية»، وهذا ما يكاد ينسحب كذلك على الثورة الصناعية التي عرفت طريقها إلى الصين قبل أوروبا، وغير ذلك من النماذج التي يأتي عليها غريش بين ثنايا كتابه.
ينتهي غريش في قراءته لتموضع فلسطيني تاريخيا، معرجا على فكرة أحلام السلام، ومواقف الغرب، ولكن رؤية غريش في المحصلة، تتوسل معاينة فلسطين في ضوء تحولات هذا الزمن، ولهذا تمسي فلسطين اسما يطلق على سيطرة الغرب الاستعمارية، وهو من بعدها اسم لمظلمة مستمرة وصمها انتهاك دائم للقانون الدولي، وهو أخيرا، اسم لمنطلق قائم على الكيل بمكيالين، تطبّقه الحكومات، وتمرره الأمم المتحدة، وينظّر له عدد من المفكرين الغربيين. عند تقاطع الشرق والغرب، والتقاء الشمال بالجنوب، ترمز فلسطين إلى العالم القديم الموسوم بهيمنة الشمال، بمثل ما ترمز لولادة عالم جديد قائم على مبدأ المساواة بين الشعوب» (ص168).
علامَ يطلق اسم فلسطين!؟
بقلم : رامي أبو شهاب ... 02.11.2014
*كاتب وناقد فلسطيني ـ الأردن