انصرف فصل الصيف، مر كالضيف كسحابة صيف.. مر بحره وحرارته وقيظه وزمهريره، وأطل وهلّ، وأقبل علينا فصل الخريف الشاحب الكئيب، بخرفه وتخاريفه ورياحه وعواصفه وتوابعه وزوابعه، بغثائه وسيله وعرمرمه وأعاصيره وبرقه ورعده وبردِه، وبردْه، وقره وصقيعه وثلجه وندفه.. أوله قيظٌ وآخره شتاء.
أوراق الشجر
انطلقت الذئاب من عرائنها مذعورةً مقرورة، وبرحت مخابئها وأسرعت مهرولةً نحو الغاب البعيد، بحثاً عن فريسة سهلة.. إنها تنظر إلى بعضها قلقةً، متوجسةً جزعةً، ملتاعة خائفة، أصبح الطقس بارداً، وأديم الثرى مبلولاً، وأوراق الأشجارالصفراء اليابسة تتطاير وتتساقط الواحدة تلو الأخرى، بدون انقطاع من علياء أدواحها الشاهقات، ومن أغصان أشجارها السامقات.. ما انفكت الذئاب تحدق النظر في بعضها، نظراتها حيرى.. ماذا جرى؟ ماذا جد واستجد في علم الله؟ أمعنت ذئبةٌ النظر في عيني رفيق دربها، وأنيس عمرها في هذا الربع الخالي المخيف والقفر الموحش الرهيب، إنه أكبر الذئاب سناً، وأخبرها حكمةً، وأكثرها مكراً وأشدها دهاءً وأفتكها خطباً وأقواها جسماً، وأحدها أنياباً وأثقبها نظراً وأكثرها خداعاً وأفصحها «عواءً». سألت الذئبة خليلها ما الخطب.. ما الذي أراه؟ ما هذه الأوراق الصفر المتكاثرة، المتساقطة المنثورة على الثرى التي أراها في كل مكان من الغاب؟ فيجيبها الذئب الحكيم على الفور: هذه الأوراق إنما هي رسائل أو مراسيل تنبئنا بقرب قدوم فصل الشتاء القارص.. حيث لا زاد ولا مؤونة، ولا ذرع ولا زرع، فعلينا إذن أن ندخر قدر المستطاع ما أمكننا من القوت والفتات، والثريد والقديد، حيث سيتعذر علينا أو سيصعب الجولان والصولان، في ما بعد في الهزيع الأخير من الليالي الحالكات، وسيصعب علينا الخروج إلى المراعي والمروج، والسهول والحقول، والجداول والجدائل التي تكون خاليةً في هذا الفصل من الأغنام والمعز، وتكون الاصطبلات والزروب التي تغص بالديكة والتيوس والدواجن والطيور محكمة الأبواب ومغلقة النوافذ والمسالك، موصدة المنافذ والشبابيك مع تزايد هطول الأمطار، وتكاثر وتفاقم الأخطار… ثم سرعان ما عوى، ثم أقعى، فاهتجت، ثم هجته… فصار كالبرق يتبعه الرعد.
هذه لقطة أو لحظة أو برهة أو هنيهة، أو مشهد من حياة الذئاب أو الثعالب ذات المخالب المقالب والمثالب، التي يذكرنا بها فصل الخريف المتقلب الشاحب الحزين، والتي لا تغيب قط عن حياة بعض البشر وتفكيرهم وأمثالهم ومعايشاتهم وسلوكهم وتصرفاتهم، ومعاملاتهم وصراعاتهم وشراستهم، وغدرهم ومكرهم وغيهم وخداعهم، ألم يقل أحمد شوقي ذات يوم :
برز الثــــعلب يوماً ..في ثياب الواعظــــينا…
يمشى في الأرض يهدى.. ويسب الماكرينا،
ويــــــقول الحمـــــد لله.. إلــــه العالمــــينا…
يا عبـــــاد الله توبوا.. فـهو رب التـائبينا ..
إنهم قالوا وخير القـ.. ول قول العارفيــــنا …
مخطئٌ من ظـــن يومـــاً… أن للثــــعلب دينا..!.
وحري، أو جدير أو حقيق أو قمين بنا نحن أن نقول اليوم، تباً لك زمننا هذا (اللعينا).. يا سائلاً لا تعجل علينا.. وأنظرنا نخبرك اليقينا.. كم من ثعلب أو ذئب..أضحى اليوم يعيش بيننا، أو كامناً فينا.
عالمنا الصغير
عالمنا المعاصر أصبح اليوم عالماً صغيراً ومحدوداً، هذا ما يقوله ويؤكده مثل إيطالي سائر، ومثلٌ إسباني دارج آخر تتداوله وتتناقله الألسن كل يوم، لقد أصبح في حجم «منديل» الجيب الصغير، ولكن مشاكله غدت مشاكل كبيرةً لا عد ولا حد ولا حصر لها. ترى هل فتحت المذياع، أو رأيت المشواف أو مررت بحسابات التواصل الاجتماعية يوماً، التي أصبحت تملأ حياتنا في كل لحظة وحين، وحملت إليك هذه الوسائل جميعها خبراً ساراً يفرح القلب ويثلج الصدر؟
كلا.. لم يحدث ذلك إلا لماماً. كل الذي ينتهي إليك من الأخبار في الغالب إنما هي ذات صلة بالفواجع الطبيعية والحوادث المؤلمة أو جرائم الإنسان، وويلات حروبه مع أخيه الإنسان، ثم أخبار القتل والتقتيل، وأخبار المحاكم والمظالم، والتعنت والتنكل، والحزازات والمواجهات والمناوشات والمشاكسات وتفاقم البطالة والعطالة، وتواترالزلازل والفيضانات أو الظلم والتظلم، والقحط والجفاف وتفشي الأمراض الهالكة والأوبئة القاتلة، وانتشارالجراثيم الفتاكة التي أمست تنتشر بيننا انتشار النار في الهشيم.
ذلك هو حال عالمنا الكئيب اليوم، والحقيقة أن هذا العالم لم ينعم قط بقسط من الهدوء، بل أن ما يحدث هو من صميم الواقع الذي هو جزءٌ لا يتجزأ منه، ولذا تصدق قولة أحد الفلاسفة القدامى (القرطبي سينيكا) الذي كان قد أعلن أن العالم لن يهدأ قط، وأن الحروب حتى إن هدأت، وخبا أوارها في بقعة ما من بقاع العالم، فإنها سرعان ما تثور أو تثار في بقع أخرى منه. هذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولكن هل تساءلت يوما ما عن سرها؟ إنك تظل عاجزاً عن معرفة هذا السر الغامض الذي لا يستطيع أحد أن يدلي فيه برأي. أما ما يحدث من الفواجع الطبيعية والكوارث البيئية على اختلاف أشكالها وألوانها فهو من تدبيرالبشر نفسه الذي تمادى في غيه بإلحاق الضرر، والأذى بأمنا الكبرى الطبيعة وإتلافها.
الإنسان هو المسؤول الأول كذلك عما ترتكبه وتقترفه يداه، في العديد من ويلات الحروب وجرائم التقتيل والتنكيل والتمادي في التظلم والغي، والتجنيات والتطاولات والتجاوزات. وبالمناسبة لعلك سمعت عن الأخبار التي تنبؤك كل صباح ومساء عن التجارب والمناورات الحربية التي غالباً ما تتم بالذخائر الحية التي تقوم بها دولٌ وبلدانٌ تصطف في صفوف ما يسمى بالعالم الأول المتحضر، وحتى لو تعالت أصوات الاحتجاجات، وارتفعت صيحات الإدانات في مختلف أرجاء المعمور، فلا رادع، ولا قارع، ولا واعز يجعل تلك البلدان تتراجع أو تتوقف عن هذه التجارب المرعبة الرهيبة التي تصطك لها الأسنان، وترتعش بها الركبان، في كل مكان. كان ذلك كما يزعمون لحماية هذه البلدان « المتقدمة والمتمدينة» من الأخطار الخارجية التي تهدد أمنها القومي..!
قد يفهم من هذه القولة السخيفة معاني شتى، ولكنك لن تستخلص منها سوى عجرفة الإنسان وغروره، وغطرسته ومروقه وتكبره، وحمقه وجنونه كذلك، فحتى لو قلمت أظافره، فإنه لا يزال لصيقاً بحيوانيته الدفينة الأولى، يرتكب باسمها وبإيعاز منها أفظع الجرائم، وأفدحها بأسلوب مهذب، حسب شيخ الفلاسفة الإغريق سقراط.
تعبٌ كلها الحياة
قالها رهين المحبسين شيخ المعرة الذي حتى إن كان أخير زمانه، فقد أتى بما لم تأته الأوائل.. قال: تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد …كم من أناس يعيشون غارقين في بحور الآلام، لا يستطيبون، ولا يستطعمون لذة العيش ولا هناءة الحياة، وهم يحيون اعتباطاً أو جزافاً.. إنهم يعملون ويأكلون ويتزاوجون ويتناسلون، وتنزل السياط على ظهورهم من كل صوب، سياط الطبيعة والإنسان معاً.
ليس لبعض الناس عزاء سوى الصبر والسلوان، ومرارة التحمل ومضضه مهما عظم المصاب، ألم يقولوا في القديم بأن الصبر مفتاح الفرج، وهو حيلة من لا حيلة له. وبعض الناس صبروا على الصبر، حتى ضاق الصبر من صبر صبرهم! وقديماً قيل كذلك: الصبر كالصبر مر في مذاقه.. ولكن عواقبه أحلى من العسل. وهناك منهم من يلوذ بالفرار إلى عوالم الفنون والجنون والألوان والأشجان، والخلق والإبداع يفرغون فيها ما تختزنه نفوسهم من ضغوط، وما تضيق به صدورهم من مضض العيش وغيظه، ونكده وغيه، بعضهم يجد في ذلك ضرباً من التسرية والتسلي والعزاء النفسي، أو التعويض الوهمي لمعاناتهم وأناتهم وآهاتهم ومصائرهم.
وهناك نوعٌ آخر لا يقوى على تنفيذ الاختيارالأول، ولا الثاني فتراه يهرب بجلده فاراً خارج الحياة المألوفة والمعروفة، أي بمعنى أوضح يبيع نفسه لشيطان الردى رخيصة، اختياراً وطواعيةً ورضىً حيناً.. أو مسوقاً مجبراً ومجروراً إليها قهراً وقسراً رغم أنفه حيناً آخر.
وهناك من يعجز عن القيام بما فعله هذا أو ذاك، أمثال هذا النوع لا تلبث أن تراه ضائعاً تائهاً، مارقاً مجندلاً بين دهاليز الجنون، وبراثن الخبل النفسي، والخلل العقلي، وتلك لعمرى من أقسى وأعتى ضروب المعاناة والمآسي قاطبةً.. وليس من قبيل الصدفة والاعتباط أن يكون أبوالعلاء نفسه الذي جنى عليه أبوه، وهو لم يجن على أحد، هو صاحب البيتين الشهيرين كذلك: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً… وحق لأهل البسيطة أن يبكوا..
تحطمنا الأيام حتى كأننا…. زجاجٌ ولكن لا يعاد له سبك
فاوست المنكود الطالع
ألم تر إلى قول (فاوست) المسكين المنكود الطالع، الذي ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة حينما قال هو الآخر: «لقد أجهدت نفسي في دراسة الفلسفة والطب، وتفقهت في القانون، ولكن هيهات، وألممت أيضاً ويا للأسف بعلم اللاهوت، ثم أراني أنا الأحمق المسكين، ما زلت كما كنت من قبل، لم أزدد عقلاً «، ألم يدفع به كل ذلك إلى الإعلان أو الاعتراف بهذه الحقيقة المرة؟ ألا وهي عجزه عن المعرفة والإدراك الحقيقيين، واستيعاب حقيقة حياته، وكنه وجوده وجوهره، وعدم قدرته أو قصوره على مواجهة أو مجابهة ما يحدث في عالمه الشاحب الكئيب المدلهم من اضطرابات من كل نوع؟ حتى بلغ به الأمر أن أبرم عقداً وباع نفسه للشيطان.. سامحك الله يا يوهان غوته. المشكلة في الواقع إذن ليست مشكلة فاوست وحده، وإنما هي مشكلة كل إنسان، وتلك هي حال الدنيا، وذلك هو حال صندوقها العجيب الذي تدفعه، وتتقاذفه الرياح، وتلعب به التوابع، وتعبث به الزوابع وهبوب الأعاصير، ولا يجد الكثيرون من هؤلاء مفراً ولا مناصاً ولا مهرباً ولا ملاذاً ولا منفذاً، سوى الرضوخ للأمر الواقع، حلوه ومره، خيره وشره، آماله وآلامه، نعيمه، وشقاءه، تخوفاته وتوجساته، هدوءه وقلقه.
كلماتٌ… كأوراق خريف منثورة على الثرى!!
بقلم : محمد محمد خطابي ... 13.11.2014
٭كاتب مغربي