تفتتح الروائية العراقية نيران العبيدي فصول روايتها «منعطف الصابونجية» 130 صفحة عن دار ضفاف، بقصائد مغناة من التراث العراقي، ويومئ هذا الافتتاح بشكل أو بآخر إلى طبيعة الفن الروائي الذي تنتهجه الكاتبة والذي يبدو غريبا ومهجورا عن طبيعة الرواية السائدة في العالم العربي.
وإن كنت أتناول هذه الرواية بالقراءة فإن قراءتي لها ستكون من دون تسلل إلى ما يقوله الحدث، حيث الفن كما مارسته وكما شذب وجداني على المدى الطويل، لم يكن فنا لأستقبله كي يقول، بل ليهز المعقول ويقلقل المألوف، ويفتتح بالتالي أبوابا أغلقها الوعي وأغلقتها العادة والتقليد. هو الفن الذي يحث على الشك ليجعل ما يحيط بنا في موضع تساؤل دائم، يحقق من ذلك في النهاية المعنى الانساني للحياة الحرة التي كافحت البشرية عبر تاريخها من أجلها.
لماذا نكتب الرواية ولماذا نكتب الشعر.. لماذا نغني.. لماذا الفن؟
ثمة خطأ فادح في صيرورة الحياة، وهو خطأ كان قد وعاه الإنسان القديم، ذلك حين لاحظ قسوتها الجلية في استمرارها الوقح بتغذية الأنا وتضخيمها وإلقاء أمراضها على الجوار. ويأتي الفن محققا عمله في أن يعيد الذكرى الأولى البدئية إنه نوع من العود البدئي، أن يضع الأمور في نصابها من جديد.
حين قرأت هذه الرواية لمست ما بها من نجمات سكون، ومن حركات رقص، ومن تتابع لوعي يغفو على السطح، ثم يغوص نحو الأعماق. إنها رقصة عراقية وقد ترجمت من خلال الكلمات إلى عمل أدبي. وعمليا لقد اكتشفت الباطن العراقي في هذه الرواية، وجعلتني أدركه بشكل أكبر مما فعلته أعمال عبد الرحمن منيف في «أرض السواد» أو في «الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي، وحتى في أعمال روائيين عراقيين معاصرين قرأت لهم. كانت رواياتهم روايات عامة، تصلح لأن تكون في أي شارع عربي. لا يوجد في أعمالهم سوى اسماء عراقية ولهجة عراقية. والسبب في رأيي أن نيران العبيدي تناولت حقبة لم تشغلها الثقافة بعد، ولم تشغل نفسها ككاتبة في الدخول إلى العالم العراقي من باب الثقافة، بل دخلته من باب الإحساس العميق بطبيعة الحياة.
جاءت سلسلة الفصول لوحات تشكيلية.. معرضا تشكيليا، لوحاته غير معنية بالتفاصيل ولا بردم الحفر ولا الفجوات التي ستسهل الطريق للقارئ. جاءت الفصول كردود أفعال لشخصيات العمل، أو ردود أفعال للحافز النفسي الذي يدفع العمل الفني نحو الأمام. من أجل ذلك فهي رواية لا تنساب انسياب الماء، وعلى القارئ أن يشرك العقل في تحليل الحدث وتأويله واستنطاق المتكلم في كل فصل من فصول الرواية ومعرفة هويته، وبالتالي إحالة الفصل إليه. إنها الطبيعة الفوكنرية التي لا تفصح كثيرا، والغرض من ذلك ليس الغموض، بل هو حال القضية الفنية الأزلية التي تخاطب الجهة الأكثر عماء لدى الإنسان، لا أحد يدري ما هي، وتجعلها تستيقظ وتبعث الضياء في أعماقها، لذلك يأتي العمل المباشر السهل كي يدخل ثم يخرج من دون تأثيرات كبرى في نفس المتلقي، بينما العمل المبني على «ضيق العبارة واتساع الرؤية» هو ما يرمي بذوره داخل الإنسان ويجعلها مع مر الأيام تنمو وتثمر.
الجملة التي كتبت فيها الرواية هي جملة عربية معاصرة وقد هجرت نظامها السابق الذي حفظه لنا التراث والشعر العربي القديم، وهي الجملة الحية التي يستعر نارها داخل النفس، تقرر من أين تبدأ وأين تنتهي، وبالتالي فالنظام السابق، الجمل العربية القصيرة المتلاحقة التي تبدأ بالفعل والفاعل… تكاد تكون غير موجودة في العمل، وهي على العموم بمقدار ما تم تكرارها جعلها ذلك التكرار جملا خالية من الشحنة الفنية وعلى عكس ذلك، الجملة المعاصرة التي تعكس لنا في هذا العمل أسلوب التداعي الذي لا تقوله الشخصية بقدر ما يقوله العمل: «عصر ذلك اليوم دخلت الدار وأنا أحمل كماني وألحاني، ورأسي أضعه على كتفي، تغلب مسكنتي أفكاري ولا شيء سوى الخبز الحلال، وهذا العمل هو حلالي وهوايتي وحبي، وأرفع رأسي بعد أن فتحت أزرار قميصي لأنفض عرقي. كنت أروم نسمة هواء تبعث روحي في هذا الزحام من الناس واذا بي اختطف نظرة لأجمل ما شاهدت عيناي…» ص 28 « زخات مطر خفيف نذير وبشير الخريف المقبل، غيوم وسحب سوداء تغطي سماء بغداد، وأنا وبقية البنات نقوم بحملة تعزيل لانزال فرش ومنامات السطح من البيتونة إلى حجر النوم المتراصة في الطابق الثاني» ص62
وهي طريقة السرد الروائي (الشفاهي، الحكائي) الذي يتم تحريره عبر مقامات تخيل سامٍ لجمهور قارئ، أو لجمهور مستمع، يخرج من الحلم من دون أن يترك لحظات الواقع ومن دون أن ينكر تراثية الآن، الآن التي تتصل بالماضي السحيق، فهي رواية تروى بلسان أم أو اخت حبيبة في وقت تجتمع فيه الأسرة كي تذكر الأيام وما مر بها من واقع حلو ومر. بأسلوب يظهر فيه الحنين جليا وآثار الشوق حتى للطرف السالب من الأحداث، أو الشخصيات التي دفعت بالأحداث لأن تكون تراجيدية يؤسف لها ويحزن لمصير أتباعها.
برأيي لقد نجحت نيران العبيدي في هذه الرواية وقد سلكت طريق الرواية الجديدة، التي بدأتُ شخصيا أرى آثارها جلية هنا وهناك. لقد قارنت بينها وبين الروائية المغربية لطيفة حليم في روايتها «نهاران». ما يجمعهما هو الحدس الانثوي، والعاطفة الشديدة التي تريد إعادة المجد للشرق الضائع المهلهل. ثمة دفع قوي يكمن في هذا النوع من الأعمال الفنية يبشر بأمل كبير قادم، إن الصوت هذا هو صوت الأم الأرض، الصوت الباطني الذي يبشر بمولود قادم فيه الحياة والبشرى.
ملاحظة: وصل إلى مسامعي أن دار ضفاف التي طبعت هذه الرواية كانت قد أرسلتها إلى لجنة جائزة البوكر 2015، لكن لم يكتب لها حتى أن تكون ضمن تلك القائمة.
«منعطف الصابونجية» للعراقية نيران العبيدي: رحلة البحث عن مجد ضائع!!
بقلم : حسين سليمان* ... 20.03.2015
*كاتب سوري