يخطو الباحث العربي البارز علاء الدين صادق الأعرجي خطوة أخرى للدفع بنظرية “العقل المجتمعي” الى الأمام، مُؤصّلا، ومُفصّلا، ومنذرا، إنما لنجد فيها كشّافا منيرا لقراءة المسار التاريخي لآليات إنتاج وإعادة انتاج التخلف.
ولئن كان الأعرجي يلقي على أكتاف “العقل المجتمعي” جل العبء الناجم عن المخاطر التي تهدد وجود الأمة العربية، فانه يقدم بالأحرى نداء استغاثة إن لم يكن لوقف ذلك المسار المدمر، فعلى الأقل، للبدء بتعطيل بعض آلياته، واستبدالها بآليات فكر جديدة.
وتكشف فصول كتابه الجديد “الأمة العربية بين الثورة والانقراض: بحث في نظرية العقل المجتمعي، تفسيرا لأزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي” عن سلسلة من المحاور التي تدعم رؤيته القائلة انه ما لم تجد الأمة العربية سبيلا لتدارك، أو معالجة، مصادر وأسباب تخلفها، فانها سائرة في طريق الإنقراض، مثلها مثل العديد من الأمم والحضارات التي انقرضت عبر التاريخ البشري.
ولكي تبدو الصورة واضحة، منذ البدء، فان “العقل المجتمعي”، كما يقدمه الأعرجي هو “السلطة الخفية الاعتبارية السائدة، التي تتحكم بسلوك أفراد الوحدات المجتمعية وتصرفاتهم، من حيث لا يشعرون في الغالب، وتتحكم بالتالي في اتجاهات تلك الوحدة أو المجتمع ككل، وبمسيرته التاريخية والتطورية والحضارية. وتتكون بنية هذه السلطة من مزيج متفاعل ومتكامل لمنظومة واسعة من القيم والمعارف والمبادئ والمفاهيم والأعراف والأفكار والمعتقدات، بما فيها الأيديولوجيات والتطلعات.. الخ، السائدة في ذلك المجتمع والتي تشكلت تبعا لمسرته التاريخية وصيرورته التطورية وظروفه الجغرافية” (ص 178-179).
وتشكل العلات الجوهرية التي تسم “العقل المجتمعي” بميسمها دافعا، يكاد يبدو لا نهائيا، نحو تكريس حالة الانهيار والتداعي والتخلف المستمر. ولا يتردد الأعرجي في سرد حزمة من الظواهر التي تؤكد ارتباط “مسيرة التخلف” التي سارتها الأمة العربية على إمتداد عدة قرون، بحال “العقل المجتمعي” العربي ومفاهيمه وأطره وقوالبه المتوارثة والجاهزة. وهي مفاهيم وأطر وقوالب تكاد تمس كل وجه من وجه الحياة والعمل، بل كل وجه من وجوه السياسة والاقتصاد والعلاقات الإجتماعية والإدارة العامة.
لم يضع يضع إلا قلائل من المفكرين العرب الكبار أصبعا على الجرح، وقالوا ها هنا يكمن أول العلة. ولئن بدا الأعرجي مختلفا عنهم، ليقدم مقاربته الفكرية الخاصة، فانه بالأحرى يدفع حتى بالذين يختلف معهم الى الأمام، ليبدو مؤسسا ومؤصلا، وباحثا عن النافع في كل رؤية تناولت أسباب التخلف.
فهذا المفكر العربي الأصيل لا يناكف ولا يجادل من سبقوه ولا يبحث عن ثغرات في نظرياتهم، ليبقى مكتفيا بالرؤية الفسيحة التي توفرها إطلالته النظرية الخاصة. بل وليجعل منها كشّافا قائما بذاته لمن شاء أن ينهل، ومكملا لمن شاء يُكامل ويجمع.
ومعتركه الفكري الأهم هو معترك المواجهة مع التخلف، لا مع أقرانه الباحثين عن معالجات.
لهذا السبب، يبدو مسالما في الإختلاف، إيجابيا، وفاعلا!
وبالنسبة للإطار النظري الذي يستند اليه الأعرجي، فما من مظهر من مظاهر التخلف، وما من سبب من أسبابه إلا ويظهر في لوحة الواقع المروع الذي نعيش فيه. ولكن ما من سبيل لكل ذلك، إلا ويجد له خطوطا توصله بتلك الرؤية التي اوجزتها نظرية “العقل المجتمعي” ونظرية “العقل الفاعل والعقل المنفعل” اللتان تشكلان الركيزتين الأساسيتين لمشروعه الفكري.
وسرعان ما يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يكتشف أن الأعرجي لا يقدم فكرا نظريا مجردا. ولا يجعل من محاكماته لآليات عمل “العقل المنفعل” مجرد كشف حساب رياضي للمفاهيم التي ألقت بظلها على كل شيء. إنه يحاكم تلك الآليات ويقدم أدلته الواقعية عليها ويكشف عن مضامينها النظرية وتبعاتها، من أجل أن يُطلق نداء “العقل الفاعل” للبدء بتحرير الفكر، وتحرير المعالجات العملية، من أسر التكرار والتقليد والعجز عن الإبداع والنقد.
في الفصلين الثالث والرابع يضع الأعرجي أصبعه على جرح غائر، موغل الأثر. إنه جرح العلاقة المأساوية بين التراث والحداثة.
وها هنا تكمن الكثير من أوجه العلة. فالعرب الذين فاتهم قطار التحديث، فشلوا في أن يركبوا قطار التراث.. ليس لأنه قطار ذاهب الى الخلف، بينما هم بحاجة الى الذهاب الى الأمام، بل لأنهم لم يفهموه أصلا، ولا نظروا اليه نظرة تاريخية عقلانية، وقطعوا تذاكرهم، كل في عربة خاصة به، ليكتشفوا أن تلك العربة لا توصل الى أي مكان، وأنها منعزلة، وغير كافية لكي تضم كل تصادمات التراث مع نفسه، دع عنك تصادماته مع الحاضر. وذلك قبل أن يكتشفوا أن قطارهم، الذي لا يوصل الى الأمام، لا يوصل الى الخلف أيضا. وأنه تائه (ليس بنفسه، لو أُحسن توظيفه في معترك التقدم، كما فعلت أمم أخرى) ولكنه تائه بتوظيفه “المنفعل” وبتحويله الى حارس أمين لـ “السجن المجتمعي” الذي ظل سجناؤه (نحن) يدورون حول أنفسهم عاجزين عن الخروج من دائرة التخلف.
وقد لا يبدو الأعرجي أقل تحديا في الفكر من محمد عابد الجابري الذي حلل مكونات العقل العربي وحاكم قوالبه ومفاهيمه، ولكن يجرؤ المرء على القول إن الأعرجي، بمقاربة نظرية مختلفة، دفع بذلك التحليل الى المختبر التاريخي والمجتمعي الصحيح.
ببساطة، لقد أوقف الأعرجي العمل النظري الرائع والخلاق الذي خطه الجابري، على قدميه، وأجلسه في مكانه، وعاد ليستخدم رؤيته الخاصة، ليقول ها هنا (في “العقل المجتمعي” وفي طابعه “المنفعل”) تكمن المشكلة التي أثمرت كل هذا التخلف.
ولكي يمكن الخروج من الدائرة الكارثية التي بقينا ندور فيها، فإن عملا مضنيا يجب أن يبدأ لتحرير الفكر ولاخراج المجتمع من سجنه المؤبد.
هل فعل الأعرجي في التحليل السوسيولوجي العربي، ما فعله ماركس بفيورباخ في الفلسفة، عندما أقعد ماديته على جدلية هيغل؟
هذا سؤال لن تمكن الإجابة عليه من دون التمعن في هذا الكتاب الكاشف والمتحدي.
تجدر الإشارة الى انه يمكن الحصول على نسخة مجانية من الكتاب عبر موقع الناشر: e-kutub.com، أو عبر Google Books، أو Play Store
الأعرجي يؤصّل ما بدأ.. ويجدد تحذير الأمة العربية من الإنقراض!!
بقلم : علي الصراف ... 31.03.2015