تلك الليلة لم تكن حكايتها، من حكايات أكواخ الفلاحين الفقراء أو المعذبين المظلومين، وسائر المهجرين عن ديارهم في الأرض، أو ما كان يجري في قصر شهريار السلطان، ولا كانت من ليالي الحب المقمرة أو المظلمة.. الواحدة بعد الألف، حينما كانت شهرزاد تتلاعب بعواطف نَجِيِّها السلطان، فتحوك قصص الصبابة والخيال وتغزل الأساطير والأخبار، لتصرف سلطان الزمان عن جنون المتعة بالنساء، ونزعة التَّشفِّي وإراقة دمائهن قبل طلوع الفجر.
فشهرناس أميرة عصرنا هذه المرة، هي حفيدة شهرزاد صاحبة الحكايا القديمة. التي غرقت في بحر من الحكايات الجديدة، وهي تجوب دنيا السكينة والخيال، في سبات عميق وفيض من سعادة الأحلام، وتقابل بدر الزمان حفيد شهريار الملك، فتروي له حكايات الحب وغرائب أطوار الإنسان. تصوغها حكما وعبراً على ألسنة الطير والحيوان. وتكشف له أسرار العالم العلوي وخفايا العالم السفلي، وأقدار الناس على مر الحقب والأزمان.. من عجائب البلدان في شتى البقاع.
والأميرة شهرناس غزاها الحب وتيَّمها الهوى فجفاها النوم، واستبدَّ بها سهد الليالي حينما لاقت أميرها بدر الزمان، حيث كان يعاني من شدة الكآبة والوحدة والصمت المؤلم والأحزان، وطيفه منذ القدم كان يستوطن في وعيها وعينيها الساحرتين. قالت له شهرناس: أنت عيناي.. وليس من حق عيني ** غض أجفانها على الأقذاء. وحينما لامست يديه يداها وتطلعت في عمق عينيه؟ رق قلبه ولانت ملامح وجهه وهي تقول له بغنج ودلال: ألم يغلبك الشوق لسماع أخباري، ودقات قلبي يتعالى وجيبها في خافقيك يا مولاي؟ قال لها: لتكن هذه المرة حكاية لا تخطر على بال، ولتكن بدايتها لا تشبه نهايتها على الإطلاق، وأن تأتي خاتمتها على شكل حكمة أو سؤال.
قالت له شهرناس بمكر ودهاء: حالك اليوم يا مولاي كحال سيدنا سليمان مع خدمه من الإنس والجان..!؟ حينما غلب الفضول بدر الزمان وقال لها بلهفة المشتاق لمن يسلِّيه، ويخفف عنه أعباء عمره وما يحمل في قلبه وعلى كتفيه: وما كان أمر سيدنا سليمان مع الجان..؟ فتربعت شهرناس عند قدمي السلطان تغريه بساقيها العاريتين الناعمتين كالإبنوس، وبدأت تروي له حكاية الحاكم المطلق، الذي علَّمه ربُّه لغة الطَّير، وسخَّر له قدرة النَّفَسِ ينفخُ في الريح متى يشاء.
هكذا ابتدأت شهرناس تقص الحكاية على مسامع السلطان وتقول: كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، من عادة نبي الله سليمان، أن يتجوَّل على مواقع جنده يتفقد أحوالهم، متى يخطر له أن يفعل في الليل وفي النهار. ولاحظ ذات يوم غياب ثلاثة من الجان عن مواقع حراستهم، حينما راح الهدهد صفي سيدنا سليمان، يفتش عن الجنود الغائبين ليبلغهم غضب سيدهم ومولاهم، لإهمالهم أوامر قائدهم وولي نعمتهم في سبأ الأرض الخصبة من بلاد اليمن، وقد أصدر أحكامه لعقاب الغائبين في حفظ الأمان. هكذا توسل الهدهد لدى سيده ومولاه أن يخفف العقاب عن جنده الغائبين..؟ وهكذا بوحي من سيده سليمان.. طالب الهدهد المذنبين ممن تغيبوا عن مراكز حراستهم، أن يأتي كل واحد منهم صاحب العرش والسلطان، بقصة أو نبأ لم يسمع به من قبل.. إنسي ولا جان.
كذلك غاب ثلاثتهم لأداء المهمة، وحينما عادوا وفي حوزتهم الحكايات، التي يقصونها على صاحب العرش والسلطان..؟ ابتدأ كل واحد منهم يروي قصته على مسامع سيده ومولاه. قال أولهم: حكايتي يا مولاي حدثت في ديوان سلطان على أطراف الكون، حينما استقبل ضيوفه من الأمراء والتجار وكانت ترافقهم نساؤهم. كان السلطان إذ ذاك يتربع بعزة وجلال على عرش مطلي بالذهب، ومرصع بأفخم أنواع الجواهر والمرجان، وعلى رأسه المهيب يتربع تاج مطعم بأحجار الزبرجد والياقوت والماس، وإلى يمينه جلست السلطانة تتشاغل بمروحة بين يديها تبرِّد وجهها بالهواء، وعلى مقاعد الديوان الفاخرة يجلس سائر الضيوف والأمراء والأعيان.
وفي إحدى زوايا الإيوان كان عازف قيثارة، يحترف الغناء من عهد داود الملك، وكان على جانب عظيم من الجمال والشجاعة والشهامة والإقدام، عارفاً بالشعر الموزون وحلو الكلام، فيتلاعب بعواطف الحضور، وهو يشنف مسامعهم بأبدع العزف والألحان، فيميلون برؤوسهم طربا ذات اليمين وذات الشمال، وهو يعزف ويغني أجمل الأنغام.
وجارية السلطان كانت ترقص بمهارة الحوريات من سكان الجنان، وتحاكي بقدها المياس أجمل الحركات المعبرة عن اللهفة والرغبة والأشواق. وكانت ترتدي ثوبا من حرير القز على جسم رقيق من أبدع الأجسام، وعلى رأسها سلة صفراء موشاة بالذهب الخالص، مليئة بأصناف الفواكه والثمار، مرشوش عليها عسل من نحل البراري، يتغذى على رحيق زهور في الحقول وفي الوديان.
خطفت الجارية الأنظار بجسدها الفاتن الريان يتمايل برقة ونعومة الأنسام، وخلخال على ساقها اليمنى يعصف بالقلوب ويخطف الأنفاس. صوت إيقاعه يتردد ويواكب حركات جسمها وقدها الميَّاس. والحضور يواكبون رقصها الرشيق بحماس وتصفيق واندفاع، وهم ينظرون إلى قوامها بعيون الرغبة والإلحاح، ووشاحها يميل عن جيدها من حين إلى حين، ويكشف عن صدرها الشامخ المكوّر الفتان، وأما ثوبها المشقوق عند الساق فيثير عاصفة من اللهفة والأشواق. وزوجة السلطان تفترسها بعيون أكلتها الغيرة، وحسد يعمي البصيرة ويطيح بما بقي في القلب من رشد واتزان.
بعدما انقضى الليل وغادر الزوار ولم يكن الصباح قد أتى بعد..؟ أشارت زوجة السلطان من طرف خفي إلى حاجب القصر، باصطحاب الجارية المناوئة إلى خارج الديار، ليقتص منها ويقتلها هناك، ويترك جثتها وليمة للكواسر والسباع، ثم يعود إليها بعد ذلك بأثر من ثوبها المخضب بالدماء. تردد الحاجب بتنفيذ المهمة في البداية. لكن زوجة السلطان هددت الحاجب بمكيدة تصل عقوبتها حد الإعدام.
هكذا انساق الحاجب لتنفيذ الأمر، بخوف وحذر شديد من العقوبة وقسوة زوجة السلطان، ومضى مع الجارية على حزن ومضض وعلى غير رغبة بالقتل وسفك الدماء، ولكنه بات أعجز ما يكون عن العصيان. كان أثناء سيرهما إلى خارج البلدة يختلس إليها النظر برأفة وإعجاب، وكان ينكس رأسه دون أن يبادلها الكلام. طالت الرحلة وطال بهما السير وبدأت الشكوك تراود رأس الجارية، وحينما بلغا غابة كثيفة الأشجار، طلب الحاجب من الجارية أن تتوقف فلا تتحرك حتى يأمرها وتأتي إليه.
غاب الحاجب خلف جذع شجرة ضخمة، والجارية تتوجس خيفة منه وتخال أنه سينال منها وهو يعري جسمه من الثياب. وحينما دهمها الخوف على نفسها من الحاجب..؟ أطلقت الريح لساقيها وهي تهرب بسرعة الطير. كانت تسرع بعدوها حينما التقت رجلا فقير الهيئة بسيط الملامح والمنظر والثياب، فهرعت إليه تستغيثه به من الحاجب الغدار. التقط الرجل الفقير جذعا ضخما ملقى على الأرض، واتجه به صوب الحاجب بلا تمهل أو إبطاء، وقد تردد في الوادي القريب صدى صرخة الحاجب يتلقى الضربة على الرأس. دوت صيحة هائلة من الحاجب ثم سكت صوته وعم السكون المكان.
وهكذا عاد الرجل الفقير المنقذ، يطمئن الجارية إلى سلامتها من الحاجب المتآمر المحتال، واقترح عليها بمودة بانت على محياه وفي عينيه، أن ترافقه لتبيت ليلتها مع أسرته وتبقى بضيافتهم في سلام. وافقت الجارية ورافقته مطمئنة الخاطر خلية البال، تدعو له ولأسرته بالسعادة والعمر الطويل وتتمنى له الصحة والأمان. كانا يمضيان في الطريق على هذه الحال حتى وصلا إلى أرض قليلة العشب كثيرة الهجير والرمال. وفيها كوخ متواضع وحقير، حينما أشار الرجل إلى الكوخ قائلا لها إنه مسكنه مع زوجته وبنيه.
حينما دخلت الجارية برفقة الرجل إلى الكوخ وجدته خلوا من البشر. هكذا خلع الرجل ثوب العفة وبانت حقيقة الغدر على محياه، وبدا لها كطائر من الكواسر، يتحفز لينقض عليها ويفترسها في أي لحظة، وقد كشَّر عن مخالبه من كان يبدو عليه الفقر، لتختفي الطيبة من وجهه وعينيه، فتبدلت أحواله وملامحه بسرعة البصر، وهو يحاول الانقضاض على فريسته الضعيفة، التي لا حول لها ولا قوة. خافت الجارية على نفسها وهي تتوسل إليه وتسأله العفو والرحمة، وقد أطلقت صيحة تردد صداها إلى البعيد في أرجاء المكان. ثم هوت على ركبيتها تتصبب عرقا من شدة خوفها. لم تكد ترفع رأسها حتى تفاجأت بالرجل الفقير ملقى إلى جانبها على الأرض.
هكذا أدركها الحاجب في الوقت المناسب. واقتصَّ لها من الرجل المُصاب الملقى إلى جانبها، وحكى لها مافعله ذلك المتخفِّي بثياب الفقراء المساكين، حينما كان يبدل ملابسه الخاصة بالقصر؟ حتى لا يتعرف إليه أحد في الطريق ويصلا إلى مكان بعيد من عيون الجند وزوجة السلطان. لعنت الجارية سوء ظنها بالحاجب الكريم ثم تنهدت من أعماقها وقالت: سلام روحي على مقتفي أثر الخضر ومن خرق السفينة وخال أنه أغرقها..!؟ وهنا أفاقت شهرناس من ذهول السبات العميق، فلزمت الصمت وكفَّت عن الكلام.
ليالي شهرناس..!!(الجزء الأول)
بقلم : إيناس ثابت ... 04.07.2018