أهداني صديقي الشاعر الفحماويّ عبد الباسط إغبارية (نعم، هناك أصدقاء يهدون الكتب في عصر الفيس بوك!) كتاب "موسوعة المفرَدات غير العربيّة في العاميّة الفلسطينيّة" للدكتور مصلح كناعنة (له إصدارات في القصة القصيرة والشعر والدراسات، ومن إصداراته "أعماق النفس المنتفضة"، "حجارة تحكي وأنقاض تنتظر" وغيرها).
تزامن الأمر مع استلامي معجم تأثيليّ للألفاظ الأعجميّة في اللهجة الفلسطينيّة (الألفاظ الدّخيلة على اللهجة الفلسطينيّة من البهلوية واليونانية واللاتينية والسريانية والفارسية والعثمانية وغيرها من اللغات القديمة والحديثة، مع ذكر السياق الذي وردت فيه) للباحث الكرمليّ أ.د. معين هَلّون وشاركه في إعداده الأستاذة نادية بني شمسة والدكتور إبراهيم أبو هشهش (سأتناول المعجم لاحقًا).
الكتاب/الموسوعة من إصدار دار مجدلاوي للنشر والتوزيع الأردنيّة، ويحتوي على 848 صفحة، صمّمه وأخرجه بحلّته الجميلة خلدون محمود الحوساني وهو بحث موسوعيّ ذو عمق وشموليّة؛ تناول كلمات في العاميّة الفلسطينيّة شكّ في عروبتها، بحث عن أصولها ووثّق مصدرها من الإنجليزيّة، الفرنسيّة، التركيّة، الألمانيّة، الإيطاليّة، اليونانيّة،اللاتينيّة، الفارسيّة، الكنعانيّة والآراميّة والسريانيّة، وكلمات من أصول أخرى.
علم الفيلولوجيا (العلوم اللغويّة) هو علم يبحث عن أصول الكلمات واشتقاقها، وهو عبارة عن فن وضرورة كونيّة من أجل التعرّف على الآخر وتفهّمه عبر ثقافته. أحيانًا يصعب توصيل المعنى الدقيق لأيّة مفردة في النصّ الذي نريد نقله إلى لغة أخرى، فلهذا نلجأ نتيجة لضرورة التثاقف بين الشعوب إلى النقحرة (النقحرة هي كلمة منحوتة من كلمتين: نقل حرفي) Transcription فتصبح الكلمة متداولة وتتغلغل للغة الأخرى وتصير جزء بنيوي لا يتجزّأ منها.
تعتبر الموسوعة إضافة هامّة للمعنيّين بفهم الأصول اللغويّة ومحبّي الاشتقاقات اللغويّة ومعانيها، وهي المفردات التي تُستخدم في العاميّة الفلسطينيّة وليست من أصول لغويّة عربيّة.
يبدأ الكتاب بمقدّمة قيّمة جدًا، ثم تمّ تقسيم الكلمات إلى مجموعات بحسب اللغة التي تعود لأصولها: الإنجليزيّة (329 كلمة)، الفرنسيّة (246 كلمة)، التركيّة (278 كلمة)، الألمانيّة (36 كلمة)، الإيطاليّة (117 كلمة)، اليونانيّة واللاتينيّة (259 كلمة)، الفارسيّة (325 كلمة)، الكنعانيّة والآراميّة والسريانيّة (538 كلمة)،و-113 كلمة من أصول أخرى كالإسبانيّة والروسيّة وغيرها.
تتناول الموسوعة جوانب فيلولوجيّة وتاريخيّة والتحوّلات التي حلّت بكلّ مفردة خلال ترحالها وتجوالها من بلدها وصولًا معزّزة مكرّمة إلى فلسطين مع كلّ تحوّلاتها وما علق بها من أمثال وحِكم وأساطير فتصبح جزءً بنيويًا من اللغة المحكيّة حتّى أنّك تتخيّلها أصيلة لا دخيلة أحيانًا. على سبيل المثال، آمنت كلّ الوقت بأنّ كلمات مثل أُبَهة، أثير، أرشيف، أُستاذ، بُرغي، برنامج، تخت، تلميذ، جورَب، حانوت، خُرج، دايِة، رَصيد، زعتر، زنديق، سَبَلة، شربِة، صرصور، طابِة، عبَق، غُربال، فرّوج، قالِب، كُبّة، لوج، ماهيّة، نشاز وغيرها كلمات عربيّة قُحّ!
توصّل الباحث إلى النتيجة بأنّ استعمال المصطلحات "الدخيلة" مسألة مرتبطة بالوقت والفترات التاريخية، ففي الماضي، مع دخول العرب والإسلام، تأثّرنا بالفارسية، وفي الحقبة العثمانيّة دخلت العديد من الكلمات التركيّة، أمّا حديثًا فالإنجليزية هي الأكثر تأثيرًا، وهذا دليل واضح أنّ الشعب الفلسطيني كان منفتحًا على الثقافات المختلفة نتيجة الاحتكاك اليومي، يدلّ على رغبته في معرفة الشعوب وثقافاتها، وكذلك على ديناميّة وحركيّة اللهجة المحليّة وعدم تكلّسها وتقوقعها، ولكن رغم ذلك هناك الكثير من الكلمات اندثرت من لغتنا اليوميّة بزوال الفترة المرتبطة بها.
قبل قراءة الكتاب حسبت كلمة "سِكرتير" عربيّة، وبالعامية تعني موظف مُساعد يقوم بحفظ السِّجلات والملفّات والأوقات والمواعيد، وبأعمال النسخ والطباعة والاتصالات، وأحيانًا تستعمل كلقب لصاحب منصب عالي مثل سكرتير الحزب، سكرتير النقابة، السكرتير العام للأمم المتحدّة وإذ بها إنجليزيّة الأصل والفصل "Secretary" وتعني حرفيًا أمين السرّ أو المؤتمن على الأسرار! وكذلك الأمر مع كلمة "بابا" التي يخاطب بها الابن والبنت أباهما وإذ بها فرنسيّة الجذور "Papa" وتعني أب. كلمة "أشكرا" التي نعنيها: صريح، واضح، مكشوف نجدها من أصول تركيّة وتعني أنّه لا يمكن إخفاء الأسرار إلى الأبد؛ كلمة "شبلونة" أي قالب أو نموذج على شكل لوحة من المعدن أو البلاستك مفرّزة حسب الشكل المطلوب نجدها ألمانيّة المولد "Schablone" وتعني شكل أو نمط أو نموذج للتكرار؛ كلمة "إستمارة" التي تعني قائمة الأسئلة أو نموذج يُرجع إليه للتقييم والحكم على الأصالة والمصداقيّة فنكتشف أنها إيطاليّة الحسب والنسب "Estimare" وتعني يقيّم، يقدّر، يحسب وغيرها كُثر.
تناول الباحث بعض المصطلحات ونسب لها معنى آخر، يبدو أنّه متغيّر من منطقة فلسطينيّة إلى أخرى، فمصطلح "بينغ-بونغ" في الجليل يُتداول بالعامية بمعنى "خُذني-جيتك" وليس فقط تنِس الطاولة؛ "تروللي" تُستعمل لشنطة السفر المجرورة وليس فقط للعرب التي يجرّها التراكتور؛ "كبسولة" ليست فقط "التحميلة" أو غلاف مسحوق الدواء بل أصبحت في عاميّة الأسرى الفلسطينيّين تعني الرسالة من السجن إلى خارجه فنتيجة انعدام الورق في السجن جعل الأسرى يبتكرون أسلوبًا خاصّا في الكتابة، الكتابة على الأوراق الداخليّة الشفّافة لعلب السجائر بخطٍ صغير للغاية، ثم يلفّ الورقة الشفّافة بعناية فائقة حتى تصبح صغيرة جدًا، ليجري بعدها لفّ خيط رفيع حولها، ثم تغلّف بغطاء بلاستيكي، بأكثر من طبقة، يقوم بكيّ البلاستيك على أطراف الرسالة لتصبح مثل حبّة الدواء، تصير كبسولة تُحمل أسفل الشفة العليا، وهناك من يبتلعها والقسم الآخر يحملها داخل الشرج لإيصالها إلى خارج السجن (وهو عنوان رواية الأسير كميل أبو حنيش الأخيرة)؛ كلمة "لوكس" لا تستعمل لتدلّ على الفخم والفاخر الممتاز وتستعمل لجهاز الإضاءة – ما بعد القنديل!؛ كلمة "طرطور" لا تستعمل فقط لمزيج لزج من الطحينة والحامض والثوم بل تستعمل أيضًا للرجل الفاشل الذي لا يفيد شيئًا؛ وكلمة "أرتيست" لا تستعمل فقط للفنان ومشتقّاته بل بمعنى يتظاهر تصنّعًا وبخبث للتمويه؛ مفردة "بوسطة" ليست فقط للبريد بل تستعمل اليوم للدلالة على سيّارة نقل المساجين!!! كلمة "كرّز" تستعمل لوصف إنسان برد و"تجمّد" بسبب الطقس وليس فقط للوعظ في الكنيسة؛ أما مفردة "طبش" فتستعمل للإنسان الفاشل وليس لمشتقّات التكسير فقط، ممّا وجب التنويه بأنّ هناك عدّة استعمالات ودلالات لبعض المفردات.
اعتمد الدكتور مصلح في بحثه شتّى المصادر والمراجع ومنها 36 كتابًا باللغة العربيّة، 16 مرجعًا أجنبيًا، و-43 معجمًا وقاموسًا مما أثراه وزاده عمقًا وشموليّة.
يصبو الكتاب لتغطية كل الكلمات غير العربيّة في العاميّة الفلسطينيّة ولكن غابت عنه بعض الكلمات التي صارت جزءًا من لغتنا اليوميّة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: باش كاتب، بلوك، طاقم، فرجار، شيّر، ليّك، بلِّك، تيّغ، دلِّت، يُمركِر وغيرها.
جاء في نهاية الكتاب فهرست الكلمات ممّا يسهّل عملية البحث عن كلّ كلمة ومفردة في الكتاب وهناك نجد كل الكلمات مرتبة أبجديًا وهي خطوة مباركة.
جاء في تظهير الكتاب: "إن الاهتمام بالمفردات غير العربيّة في العامية الفلسطينية محاولة لرد الاعتبار لكل الحضارات واللغات التي ساهمت في بناء وعينا وثقافتنا، ولإعطاء كل ذي حق حقّه دون زيادة أو نُقصان".
حقًا، إنّ الكتاب موسوعيّ، نتاج مجهود جبّار وعمل دؤوب، أثرانا بمعلوماته اللغويّة والمعرفيّة الغنيّة.
موسوعة لغويّة فريدة!!
بقلم : حسن عبادي ... 31.07.2019